أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذَكر رمضان، فقال: «لا تصُومُوا حتى تَرَوُا الهلال، ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوْهُ، فإنْ غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له».
رواه البخاري برقم: (1906) واللفظ له، ومسلم برقم: (1080)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غُمَّ»:
أي: حَال بينكم وبين رؤيته غَيْم. المعلم، للمازري (2/ 44).
يقال: غُمَّ علينا الهلال: إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه، من غممتُ الشيء إذا غطيتُه. النهاية، لابن الأثير (3/ 388).
وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله-:
«غُمّ عليكم» أي: جهلتم علمه كما يغمى على الرجل فيذهب عقله. غريب الحديث (2/ 742).
«فاقدُروا له»:
أيْ: أَتِمُّوا ثلاثين. مختار الصحاح، للرازي (ص: 248).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يومًا، وقيل: قدروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون... يقال: قدرتُ الأمر أقدُره وأقدِره إذا نظرتُ فيه ودبرتُه. النهاية (4/ 23).
شرح الحديث
قوله: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
أي: ذكر حكم صوم رمضان بدايةً ونهايةً. الكوكب الوهاج (12/ 330).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان» أي: كيفية دخوله لأداء الصوم الواجب فيه. البحر المحيط الثجاج (20/ 374).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: حجة على جواز قول مثل هذا دون ذكر الشهر، خلافًا لمن كرهه، ورُوي أثر في النهي عن ذلك، وأن رمضان اسم من أسماء الله وهو أثر لا يصح، واختار القاضي ابن الطيب(الباقلاني)أنّ تمثيل النهي فيما أشكل مثل: جاء رمضان، وذهب وتم ودخل، ويُباح فيما لا يُشكل مثل: صمنا، وقمنا رمضان، وهذا الحديث وغيره ردٌّ على الجميع. إكمال المعلم (4/ 5).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
(الحديث): دليل على جواز قول القائل: رمضان، من غير إضافة الشهر إليه؛ خلافًا لمن يقول: لا يُقال إلا شهر رمضان؛ متمسكًا في ذلك بحديث لا يصح، وهو أنه يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى» خرجه ابن عدي من حديث أبي معشر نجيح، ولا يُحتج به.
ولو سلمنا صحته، لكانت الأحاديث التي فيها ذكر رمضان من غير شهر الأولى؛ لأنها أصح وأشهر؛ ولأن متنه منكر؛ إذ لم يوجد في شيء من أسماء الله تعالى رمضان؛ ولأن المعنى الذي اشتق منه رمضان محال على الله تعالى. المفهم (1/ 154).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصواب أنه لا كراهة في قول رمضان مطلقًا، والمذهبان الآخران فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح فيه شيء، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة، وقد ثبتت أحاديث كثيرة في الصحيحين في تسميته رمضان من غير شهر في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. المجموع (6/ 248).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- مُتعقِّبًا النووي:
قلتُ: المؤاخذة عليه (النووي) -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الفصل في مواضع:
الأول: إقدامُه على إفسادِ قولِ هذا الجمِّ الغفير من الأئمة، والتعبير بهذا اللفظ الغليظ الشنيع، مع إمكان حصول مقصودِه بلفظ يُشعر بالأدب معهم؛ مثل: فيه نظر، وانظر هذا، ونحو ذلك؛ كما هو عادة العلماء الراسخين -رضي اللَّه عنهم-.
الموضع الثاني: قوله: لم يثبت فيه نهي، فهو نافٍ، وهم مُثْبِتون، وحاشا دينَ أقلِّهم أن يَدَّعي إثباتَ شيء مع علمه بأنه غير ثابت، فإن قال: وهموا كلهم، قلنا: وأنت -أيضًا- غير معصوم من ذلك، فليس قولك أولى من قولهم، بل عند التعارض هم المرجَّحون بلا نزاع، سلمنا أنه لم يرد فيه نهي، أليس للعلماء تنزيل الأحكام الشرعية على وَفْق ما تقتضيه قواعدُ الشريعة؛ كما هو معلوم من دأبهم وعادتهم؟
الموضع الثالث: قوله: وقولُهم: إنه اسم من أسماء اللَّه، ليس بصحيح، هو أيضًا من العبارة الغليظة الشنيعة، والنفي المعارض للإثبات، مع اختلاف الناس في عدة أسماء اللَّه تعالى اختلافًا مشهورًا، حتى قيل: إن بعض الناس بلغها إلى مائة وخمسين اسمًا، وإن بعضهم بلغها إلى ألف اسم...
الموضع الرابع: قوله: ولو ثبت أنه اسم، لم يلزم منه كراهة، وهذا ممنوع، فإن ذلك يؤدي إلى الإبهام والاشتراك، وقد منع -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُكنى بكنيته؛ خوفًا مما ذكرنا، فهذا أولى.
ثم إن هذا الذي قال: إنه يرد قولَ المتقدمين، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا جاء رمضانُ فُتِحَتْ أبوابُ الجنَّةِ» الحديث، غيرُ عارٍ عن القرينة الدالة على أن المقصود به الشهر، ولا يتبادر الذهن إلى غير ذلك، فلا يردّ على من قال: إنه لا يطلق رمضان إلا بقرينة، وهو عندي أظهرُ المذاهب الثلاثة، واللَّه أعلم. رياض الأفهام (3/ 376-379).
قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال: لا» ناهية؛ ولذا جزم بها قوله: «تصوموا حتى تروا الهلال» أي: هلال شهر رمضان. البحر المحيط الثجاج (20/ 374).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال: لا تصوموا» رمضان «حتَّى تروا الهلال» أي: هلال شهر رمضان، والهلال هو القمر أول استهلاله. الكوكب الوهاج (12/ 330).
وقال القنازعي -رحمه الله-:
يعني: لا تصوموا أول شهر رمضان حتى تروا الهلال. تفسير الموطأ (1/ 279).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«لا تصوموا» نهي عن الصوم على قصد أنه صوم رمضان إلا أن يثبت، وهو أن يرى هو أو مَن يثق به ويحكم بقوله، والمنفرد بالرؤية إذا لم يحكم بشهادته يجب عليه عندنا (الشافعية) أن يصوم لرمضان، ويسر بإفطار عيده. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 491).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«لا تصوموا حتى تروا الهلال» يقتضي منع الصوم في آخر شعبان قبل رؤية هلال رمضان، والمراد به: منع ذلك على معنى التلقي لرمضان أو الاحتياط، وأما صيام يوم الشك وغيره من شعبان على غير هذا الوجه لمن كان في صوم متتابع أو لمن ابتدأ التنفل فيه فلا بأس به، وذهب بعضهم إلى أنه لا يصح صوم يوم الشك بوجه، والدليل على صحة ذلك ما روى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يتقدمنّ أحدكم رمضان بيوم أو يومين إلا أن يكون رجل يصوم صومه فليصم ذلك اليوم». المنتقى شرح الموطأ (2/ 35).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» يعني: لا تصوموا شهر رمضان حتى تثبت عندكم رؤية الهلال بشهادة عدلين أو أكثر.
وهل تثبت بشهادة عدل واحد؟ تثبت في أصح قولي الشافعي وعند أحمد، سواء كان في السماء سحاب أو لم يكن، وعند أبي حنيفة: تثبت إذا كان في السماء سحاب، وعند مالك: لا تثبت أصلًا، وهل يثبت بقول النساء والعبيد؟ فيه خلاف؛ والأصح: أنه لا يثبت. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 12).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا تصوموا حتى تروا الهلال» أي: إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يومًا. إرشاد الساري (3/ 356).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» هو نهي عن صيام رمضان والدخول فيه إلّا بالرؤية لهلاله أي: رمضان، والنهي يقتضي التحريم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«لا تصوموا حتى تروا الهلال» أي: لا تصوموا رمضان حتى تروا هلاله، والخطاب لأمته، لكن يكفي رؤية واحد منها أو اثنين على ما سيأتي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 497).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصوم لرؤية الهلال، ولا يلزم الصوم حتى يُرى الهلال إلا أنه إذا حال في مطلعه ما يجوز كونه تحته، فاحتياط للعبادة أن يصام. الإفصاح (4/ 55).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلًا أو نهارًا؛ لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرّق بين ما قبل الزوال أو بعد، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقًا، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به؛ لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقًا بالصحو وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: «فاقدروا له» أي: انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله: «فأكملوا العدة ثلاثين» ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث. فتح الباري (4/ 121).
وقال النووي -رحمه الله-:
المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصح، هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء؛ إلا أبا ثور فجوزه بعدل. شرح مسلم (7/ 190).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
يريد بالهلال أولًا: هلال رمضان، ويريد به ثانيًا: هلال شوال، ولم يضف الهلال أولًا وآخرًا إلى شهر للعلم به، فإن الصوم والفطر متعلقان بهلال رمضان وشوال، فذكره للصوم والفطر قام مقام الإضافة. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 164).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والحديث فيه النهي عن صوم رمضان إلا بثبت، وهو أن يرى الشخص هلاله بنفسه، أو مَن يثق به. البحر المحيط الثجاج (20/ 374).
قوله: «ولا تفطروا حتى تروه»:
قال القنازعي -رحمه الله-:
«ولا تفطروا حتى تروه» يعني: لا تفطروا آخر الشهر حتى تروا هلال شوال. تفسير الموطأ (1/ 279).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولا تفطروا حتى تروه»... ولا يثبت هلال شوال بأقل من شهادة عدلين بالاتفاق. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا تفطروا» من صومه «حتى تروه» أي: الهلال، وليس المراد رؤية جميع الناس بحيث يحتاج كل فرد إلى رؤيته، بل المعتبر رؤية بعضهم وهو العدد الذي تثبت به الحقوق وهو عدلان، إلا أنه يكتفى في ثبوت هلال رمضان بعدل واحد يشهد عند القاضي.
وقالت طائفة منهم البغوي: ويجب الصوم أيضًا على مَن أخبره موثوق به بالرؤية وإن لم يذكره عند القاضي، ويكفي في الشهادة: أشهد أني رأيتُ الهلال لا أن يقول: غدًا من رمضان؛ لأنه قد يعتقد دخوله بسبب لا يوافقه عليه المشهود عنده بأن يكون أخذه من حساب، أو يكون حنفيًّا يرى إيجاب الصوم ليلة الغيم أو غير ذلك.
واستدلّ لقبول الواحد بحديث ابن عباس عند أصحاب السنن قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إني رأيتُ الهلال فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمدًا رسول الله؟» قال: نعم، قال: «يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدًا».
وروى أبو داود وابن حبان عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرتُ رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- أني رأيتُه فصام وأمر الناس بصيامه، وهذا أشهر قولي الشافعي عند أصحابه وأصحهما، لكن آخر قوليه أنه لا بد من عدلين، قال في الأم: لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان، لكن قال الصيمري: إن صح أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل شهادة الأعرابي وحده أو شهادة ابن عمر وحده قُبِل الواحد وإلا فلا يقبل أقل من اثنين، وقد صح كل منهما، وعندي أن مذهب الشافعي قبول الواحد وإنما رجع إلى الاثنين بالقياس لما لم يثبت عنده في المسألة سنّة، فإنه تمسك للواحد بأثر عن عليّ؛ ولهذا قال (الشافعي) في المختصر (مختصر المزني): ولو شهد برؤيته عدل واحد رأيتُ أن أقبله للأثر فيه. إرشاد الساري (3/ 356).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا تفطروا» أي: للخروج من رمضان «حتى تروه» أي: هلال شوال، وهو نهي عن الأمرين إلا بتحقق الرؤية. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قال في الفروع: ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد، نص عليه؛ وفاقًا للشافعي، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء؛ لحديثي ابن عمر وابن عباس، ولأنه خبر ديني، وهو أحوط، ولا تهمة فيه؛ بخلاف آخر الشهر.
ومعتمد المذهب: هو خبر، فتقبل المرأة والعبد، ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم مَن سمعه من عدل، ولا يعتبر لفظ الشهادة.
والأصح للشافعية: أنه شهادة لا إخبار.
ومذهب أبي حنيفة: يقبل واحد في غيم، أو رآه خارجه، أو أعلى مكان منه؛ كالمنارة، ومع الصحو التواتر.
ومذهب مالك: يعتبر عدلان، وكذا قول الشافعي في القديم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 489- 490).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا تفطروا» من صوم رمضان «حتَّى تروه» أي: حتَّى تروا هلال شوال، هذا في أيام الصحو، فإن رؤي هلال رمضان يجب الصوم سواء كمل شعبان ثلاثين يومًا أم لا، وإن رؤي هلال شوال وجب الفطر سواء كمل رمضان ثلاثين أم لا، هذا إذا لم يستتر الهلال بالغيم ونحوه. الكوكب الوهاج (12/ 330).
قوله: «فإن غُمَّ عليكم»:
قال القنازعي -رحمه الله-:
«فإن غُمّ عليكم» يعني: فإن خفي عليكم الهلال بغيم يكون في السماء. تفسير الموطأ (1/ 279).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما قوله: «فإن غُمّ عليكم» فذلك من الغيم والغمام، وهو السحاب، يقال منه: يوم غم، وليلة غمة؛ وذلك أن تكون السماء مغيمة. التمهيد (2/ 43).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
وقوله: «فإن غُمّ عليكم» يريد منعكم من رؤيته سحاب أو غيره من قولهم: غممتُ الشيء إذا سترتُه. المنتقى شرح الموطأ (2/ 38).
وقال المازري -رحمه الله-:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فإن غُمّ عليكم»، أي: إن حال بينكم وبين رؤيته غيم، ويقال: صمنا للغُمَّاء والغُمَّى، أي: عن غير رؤية، ويُروى: «فإن أغمي عليكم» يقال: غُمّ علينا الهلال وغُمِّي، وأغمي فهو مُغْمًى. المعلم بفوائد مسلم (2/ 44).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «فإن غُمّ عليكم» بناء «غُمّ» للستر والتغطية، ومنه الغم فإنه يغطي القلب عن استرساله في أمانيه، ومنه الغمام وهي السحاب. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 156).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«فإن غُمّ عليكم» يقال: غُمّ علينا الهلال إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه، من غممتُ الشيء إذا غطيته، وفي «غُمّ» ضمير الهلال، ويجوز أن يكون «غُمّ» مسندًا إلى الظرف: أي فإن كنتم مغمومًا عليكم فأكملوا، وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه. النهاية (3/ 388).
وقال ابن الأثير -رحمه الله- أيضًا:
وغُمّ الهلال على الناس غَمًّا فهو مغموم: إذا ستره عنهم غيمًا وغيره، وكذلك أغمي الهلال وغُمِّيَ، وإنما بني الفعل لما لم يسم فاعله: للعلم بالفاعل الذي يغمه وهو الله -سبحانه وتعالى- بما يحول بينه وبين أعين الناظرين.
وأصل الكلمة: من الغمّ الستر والتغطية، تقول: غممتُه فانغم أي: غطيته، ويقال: أَمر غُمَّة أي: مبهم ملتبس. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 164).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«فإن غم عليكم» أي: فإن سُترت رؤيته بغيم أو ضباب... قال أبو زيد: غُمّ الهلال غَمًّا فهو مغموم، ويقال: كان على السماء غَمٌّ وغَمْيٌ فحال دون الهلال وهو غيم رقيق أو ضبابة، وهذه ليلة غَمَّى على فعلى بفتح الفاء، وقال بعضهم بضمها، وهي التي يُرى فيها الهلال فتحول بينه وبين الناس ضبابة، وصمنا للغُمَّى على فعلى بفتح الفاء وضمها أي: على غير رؤية، والغمام السحاب والغمامة أخص منه. المصباح المنير (2/ 454).
وقال أبو القاسم الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «فإن غُمّ عليكم» أي: خفي لستر الغمام إياه، يقال: غممتُ الشيء أي: غطيتُه فهو مغموم، وفي بعض روايات مسلم: «فإن أغمي عليكم» ويروى: «فإن غمِّي» أي: لبس وستر من إغماء المريض، يقال: غمي عليه وأغمي، ورواه بعضهم: «فإن عمي عليكم» بعين غير معجمة أي: التبس، وفي بعض روايات الصحيح للبخاري: «فإن غُبي عليكم» بالباء، ويروي: «فإن غَبي» أي: خفي. شرح مسند الشافعي (2/ 179).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإن غُمّ عليكم» فمعناه: حال بينكم وبينه غيم... وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم. شرح مسلم (7/ 189- 190).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فإن غُمّ عليكم»؛ أي: فإن خفي عليكم هلال رمضان بعد مضي تسعة وعشرين يومًا من شعبان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن غُمّ» أي: غطي الهلال في ليلة الثلاثين «عليكم» أي: أوله أو آخره. مرقاة المفاتيح (4/ 1372).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«غُمّ عليكم» بضم المعجمة وتشديد الميم، أي: حال بينكم وبينه غيم، وللكشميهني: «أعتمى» وللسرخسي: «غبي» بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة: من الغباوة، وهي عدم النظر استعير لخفاء الهلال. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1421).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإن غُمَّ عليكم» بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي: إن حال بينكم وبين من الهلال غيم في صومكم أو فطركم. إرشاد الساري (3/ 356).
قوله: «فاقدروا له»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «فاقدروا له» أي: احسبوا، ومنه القدر والتقدير، أي: معرفة المقدار، فسره قوله: «فأكملوا العدة» وقد ورد في الصحيح: «فاقدروا له ثلاثين يومًا». المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 156).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
ومعنى «اقدروا له» ضيقوا له عددًا يطلع في مثله. الإفصاح (4/ 55).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذهب كافة الفقهاء إلى أن معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» مجمل يفسره قوله: «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» ولذلك جعل مالك في الموطأ «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» بعد قوله: «فاقدروا له» كما صنع البخاري؛ لأنه مفسر ومبين لمعنى قوله: «فاقدروا له» وحكى محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب، ويقال: إنه مُطَرِّفَ بن الشِّخِّير.
وقوله -عليه السلام-: «فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» نص في أنه -عليه السلام- لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل؛ لأنه لو كلف ذلك أمته لشق عليها؛ لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى في الدين من حرج، وإنما أحال -عليه السلام- على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شيء يستوي في معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله في نفسه، فرُوي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غُمّ عليه عَدّ شعبان ثلاثين يومًا وصام» ولو كان ها هنا علم آخر لكان يفعله أو يأمر به، وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله؛ لأنه ممكن في الشهر أن يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: «فاقدروا له» عند العلماء. شرح صحيح البخاري (4/ 27- 28).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«فاقدروا له» يريد قدروا للشهر، وتقديره إتمام الشهر الذي أنت فيه ثلاثين؛ لأن الشهر إنما يكون تسعة وعشرين يومًا بالرؤية فأما بالتقدير فلا يكون إلا ثلاثين.
وقد فسر ذلك في حديث أبي هريرة: فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» وفي حديث ربعي بن حِرَاش: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله: «فاقدروا له» أي: قدروا المنازل، وهذا لا نعلم أحدًا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليه.
وقد روى ابن نافع عن مالك في المزنية في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: أنه لا يُقتدى به ولا يُتبع، فإن فعل ذلك أحد فالذي عندي أنه لا يعتدّ بما صام منه على الحساب ويرجع إلى الرؤية وإكمال العدد، فإن اقتضى ذلك قضاء شيء من صومه قضاه، والله أعلم. المنتقى شرح الموطأ (2/ 38).
وقال المازري -رحمه الله-:
ذهب بعض العلماء إلى أن الهلال إذا التبس يحسب له بحساب المنجمين، وزعم أن هذا الحديث يدل على ذلك، واحتج أيضًا بقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} النحل: 16، وحمل جمهور الفقهاء ما في الحديث على أن المراد به إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، وكذلك تأولوا قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} النحل: 16 على أن المراد به الاهتداء في الطرق في البر والبحر، وقالوا أيضًا: لو كان التكليف يتوقف على حساب التنجيم لضاق الأمر فيه؛ إذ لا يعرف ذلك إلا قليل من الناس، والشرع مبني على ما يعلمه الجماهير، وأيضًا فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة، ويصح أن يُرى في إقليم دون إقليم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها مع كون الصائمين منهم لا يعولون غالبًا على طريق مقطوع به ولا يلزم قومًا ما ثبت عند قوم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الشهر تسع وعشرون» ثم قال -عليه السلام-: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين» معناه: أن الشهر مقطوع بأنه لا بد أن يكون تسعًا وعشرين فإن ظهر الهلال وإلا فيطلب أعلى العدد الذي هو ثلاثون وهو نهاية عدده. المعلم بفوائد مسلم (2/ 43- 44).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- معقبًا:
لم يُحكَ مذهب الصوم بتقدير النجوم والمنازل إذا غُمّ الهلال، إلا عن مُطَرِّفَ بن عبد الله بن الشِّخِّيرِ من كبار التابعين، بل من المخضرمين، قال ابن سيرين: وليته لم يفعل، وحكى ابن شريح، عن الشافعي مثله، والمعروف من مذهب الشافعي والموجود في كتبه خلاف هذا، وموافقة جميع علماء المسلمين من أن معنى «اقدروا له» في الأيام عِدَّة الشهر ثلاثين كما فسره به -عليه السلام- في حديثه الآخر بقوله: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له ثلاثين» وفي الحديث الآخر: «فكملوا العدة ثلاثين» ولهذا أدخل مالك في موطئه هذا الحديث المبين إثر الأول؛ ليكون كالمفسر له، والرافع لإشكاله؛ تهذيبًا للتأليف، وإتقانًا للعلم، وقفا البخاري أثره في ذلك، ولو كلف الأمة حساب النجوم والمنازل لشق عليهم، ولبيّن ذلك -عليه السلام- كما بيّن لهم أوقات الصلوات. إكمال المعلم (4/ 8).
وقال أبو منصور الأزهري -رحمه الله-:
«فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» وفي حديث آخر: «فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة» وقوله: «فاقدروا له» أي: قدروا عدد الشهر وأكملوه ثلاثين يومًا، واللفظان وإن اختلفا يرجعان إلى معنى واحد.
وروي عن أبي العباس ابن سريج أنه قال في تفسير قوله: «فاقدروا له» أي: قدروا له منازل القمر، فإنها تبين لكم أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون، قال: وهذا خطاب لمن تخصص بهذا العلم من أهل الحساب.
قال: وقوله: «فأكملوا العدة» هو خطاب لعوام الناس الذين لا يحسنون تقدير منازل القمر، قال: وهذا نظير المسألة المشكلة تنزل بالعالم الذي أعطي آلة الاجتهاد، فلهم تقليد أهل العلم.
والقول الأول عندي أصح وأوضح، وأرجو أن يكون قول أبي العباس غير خطأ، والله أعلم. تهذيب اللغة (9/ 40).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معقبًا:
وهو (أي: قول ابن سريج) مردودٌ؛ لحديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» فإنه يدل على أن معرفة الشهر ليست إلى الكتاب والحساب كما يزعمه أهل النجوم، وللإجماع على عدم الاعتداد بقول المنجمين ولو اتفقوا على أنه يُرى؛ ولقوله تعالى مخاطبًا خير أمة أخرجت للناس خطابًا عامًّا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم- بالخطاب العام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، ولما في نفس هذا الحديث: «لا تصوموا حتى تروه» ولما في حديث أبي داود والترمذي عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصوم يوم يصومون والفطر يوم يفطرون» بل أقول: لو صام المنجم عن رمضان قبل رؤيته بناء على معرفته يكون عاصيًا في صومه، إلا إذا ثبت الهلال على خلاف فيه، ولو جعل عيد الفطر بناء على زعمه الفاسد يكون فاسقًا، وتجب عليه الكفارة في قول وهو الصحيح، وإن استحل إفطاره فرضًا عن عده واجبًا صار كافرًا... وفيه حثٌّ على طلب الهلال ليلة الثلاثين. مرقاة المفاتيح (4/ 1372- 1373).
وقال ابن العربي -رحمه الله- ردًّا على قول ابن سريج:
وهذه هفوة لا مرد لها، وعثرة لا لعًا منها، وكبوة لا استقيال منها، ونَبْوة لا قرب معها، وزلة لا استقرار بعدها، أوه يا ابن سريج أين مسألتك السريجية؟ وأين صوارمك السريجية؟ تسلك هذا المضيق في غير طريق، وتخرج إلى الجهل عن العلم والتحقيق، ما لمحمد والنجوم؟! وما لك أنت والترامي ها هنا والهجوم؟! ولو رويت من بحر الآثار لانجلى عنك الغبار، ولما خفي عليك في الركوب الفرس من الحمار، وكأنك لم تقرأ قوله: «أما نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وأشار بيديه الكريمتين ثلاث إشارات، وخنس بإبهامه في الثالثة، فإذا كان يتبرأ من الحساب الأقل بالعقد المصطلح عليه، مُبينًا باليدين تنبيهًا على التبري عن أكثر منه، فما ظنك بمن يدعي عليه بعد ذلك أن يحيل على حساب النيرين، وينزلهما على درجات في أفلاك غائبًا، ويقرنهما باجتماع واستقبال، حتى يعلم بذلك استهلال الهلال، هيهات أن هذا لمن أجهل الجهال لأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-...، وإلا لما تؤول إليه هذه الحالة من الفساد لو كانت ممكنة...، ثم جاء بالدردبيس (الداهية العظيمة) فقال: إنهما خطابان لأمتين، أحدهما العددية، والثانية عامة الناس، فكأن وجوب رمضان جعله مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب الجمل، إنَّ هذا لبعيد عن البنلاء، فكيف عن العلماء؟! والله أعلم. عارضة الأحوذي (3/166-167).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريج، وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه، ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في المهذب فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة، فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل:
أحدها: الجواز ولا يجزئ عن الفرض، ثانيها: يجوز ويجزئ، ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه، لا للمنجم، رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم، خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقًا، وقال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا، قلتُ: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا بالإجماع قبله. فتح الباري (4/ 122-123).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لم يتعلَّق أحدٌ من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مُطَرَّف بن الشِّخِّير، وليس بصحيح عنه، والله أعلم، ولو صح ما وجب اتباعه عليه؛ لشذوذه؛ ولمخالفة الحجة له، وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث: «فاقدروا له» نحو ذلك، والقول فيه واحد، وقال ابن قتيبة في قوله: «فاقدروا له» أي: فقدروا السير والمنازل، وهو قول قد ذكرنا شذوذه، ومخالفة أهل العلم له، وليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب. التمهيد (14/ 352).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
معنى الكلام: فإنه يريد قدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يومًا، وهكذا قوله في الحديث الآخر: «فأكملوا العدة»، وقوله: «فعدوا ثلاثين»... والهاء في قوله: «له» تعود إلى الهلال، أي: فقدروا للهلال وقت طلوعه وظهوره، بأن يستكملوا العدة التي يجوز أن يظهر فيها، وذلك باستكمال شعبان ثلاثين وهو منتهى الأمد الذي لا شبهة في ظهوره عند انقضائه، فإنه قد يظهر عند انقضاء تسع وعشرين من شعبان، ولكن إذا غُمّ في التاسع والعشرين قدر له الاستكمال.
وقال عمر بن عبد العزيز: أحسن ما يقدر له أنا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا، إلا أن يبدأ الهلال قبل ذلك.
وعلى هذا تدل سائر الروايات عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعائشة وغيرهم حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عدم الرؤية بإكمال العدة. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 164- 165).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «فاقدروا له» أي: قدروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يومًا، يقال: قدَّرتُ الشيء أقْدُرُهُ وأقدِرُهُ -بالتخفيف- بمعنى: قدرتُه بالتشديد؛ كما تقدم في أول كتاب الإيمان، وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا الحديث، وقد دل على صحة ما رواه أبو هريرة مكان: «فاقدروا له»: «فأكملوا العدة ثلاثين».
وهذا الحديث حجة على مَن حمل: «فاقدروا له» على معنى: تقدير المنازل القمرية، واعتبار حسابها، وإليه صار ابنُ قتيبة من اللغويين، ومُطَرِّفُ بن عبد الله بن الشِّخِّيرِ من كبراء التابعين.
ومن الحجة أيضًا على هؤلاء قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» فألغى الحساب، ولم يجعله طريقًا لذلك.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» يقتضي لزوم حكم الصوم والفطر لمن صحت له الرؤية، سواء شورك في رؤيته، أو انفرد بها. وهو مذهب الجمهور، وذهب عطاء وإسحاق: إلى أنه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، وهذا الحديث رد عليهما.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أي: لم نكلف في تعرف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحسّاب وغيرهم، ثم تمم هذا المعنى وكمله حيث بينه بإشارته بيديه، ولم يتلفظ بعبارة عنه نزولًا الخُرصُ(ولعله: الخرس) والعجم، وحصل من إشارته بيديه ثلاث مرات: أن الشهر يكون ثلاثين، ومن خنسه إبهامه في الثالثة: أن الشهر يكون تسعًا وعشرين؛ كما قد نص عليه في الحديث الآخر...
وفيه من الفقه: أن يوم الشك محكوم له بأنه من شعبان، وأنه لا يجوز صومه عن رمضان؛ لأنه علق صوم رمضان بالرؤية، و(إن) لم (يُرَ) فلا (صوم). المفهم (3/ 138- 140).
وقال النووي -رحمه الله-:
واختلف العلماء في معنى: «فاقدروا له» فقالت طائفة من العلماء معناه: ضيقوا له وقدروه تحت السحاب، وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم من رمضان كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-، وقال ابن سريج وجماعة منهم: مُطَرِّفُ بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون: معناه: قدروه بحساب المنازل، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا... واحتج الجمهور بالروايات المذكورة: «فأكملوا العدة ثلاثين» وهو تفسير لـ«اقدروا له» لهذا لم يجتمعا في رواية، بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا، ويؤكده الرواية السابقة: «فاقدروا له ثلاثين». شرح مسلم (7/ 189).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«فاقدروا» أي: قدروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يومًا؛ إذ الأصل بقاء الشهر ودوام خفاء الهلال ما أمكن. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«فاقدروا» أي: قدِّروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يومًا؛ إذ الأصل بقاء الشهر ودوام خفاء الهلال ما أمكن، وقيل: فاقدروا له منازل القمر ومسيره حتى يتبين لكم أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون؛ ولهذا قال: المنجِّم إذا عَلم بحسابه أنه من رمضان فعليه أن يصومه، والرواية الثانية تدل على المعنى الأول. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 491).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فاقدروا له» بهمزة وصل وضم الدال، وهو تأكيد لقوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» إذ المقصود حاصل منه، وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله: «فاقدروا له» فالجمهور قالوا: معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا أي: انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يومًا، كما جاء مفسرًا في الحديث اللاحق؛ ولذا أخره المؤلّف؛ لأنه مفسر، وقال آخرون: ضيقوا له وقدروه تحت الحساب وهو مذهب الحنابلة، وقال آخرون: قدروه بحساب المنازل، قال الشافعية: ولا عبرة بقول المنجم فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} النحل: 16 الاهتداء في أدلة القبلة، ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر هذه الآية، وقيل: ليس له ذلك، وصحح في المجموع أن له ذلك، وأنه لا تجزئه عن فرضه، وصحح في الكفاية أنه إذا جاز أجزأه، ونقله عن الأصحاب وصوّبه الزركشي تبعًا للسبكي قال: وصرح به في الروضة في الكلام على أن شرط النية الجزم، قال: والحاسب وهو مَن يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى المنجم، وهو مَن يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، وقد صرح بهما معًا في المجموع. إرشاد الساري (3/ 356).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فاقدروا» بكسر الدال ويضم، وفي المغرب: الضم خطأ «له» أي: للهلال، والمعنى: قدروا لهلال الشهر المستقبل... والمعنى: اجعلوا الشهر ثلاثين، قال الزركشي: يعني حققوا مقادير أيام شعبان حتى تكملوه ثلاثين يومًا اهـ. مرقاة المفاتيح (4/ 1372).
قال الشيخ مرعي الحنبلي -رحمه الله-:
وللعلماء في قوله: «فاقدروا له» قولان:
أحدهما: قدروا للهلال زمانًا يمكن أن يطلع فيه؛ وذلك ليلة الثلاثين، فأما الليلة التي بعدها، فذاك لا يحتاج إلى تقدير، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الطلاق: 7؛ أي: ضيق.
الثاني: أن معنى «اقدروا»: احكموا بطلوعه من جهة الظاهر، مأخوذ من قوله تعالى: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} النمل: 57؛ أي: حكمنا بذلك. تحقيق الرجحان (ص:90- 91).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
منها: بيان أن وجوب الصوم متعلق برؤية الهلال.
ومنها: أنه يفيد أنه لا يلزم الصوم، ولا يثبت كون اليوم من رمضان بغير رؤية؛ لا بتقدير تحت السحاب في الغيم، ولا برجوع إلى حساب...
ومنها: أن مقتضى الحديث أيضًا منع صومه عن غير رمضان، واختلف في ذلك أيضًا، فجوزت المالكية، والشافعية صومه عن قضاء، أو نذر، أو كفارة، أو تطوعًا إذا وافق وِرْدَه، واختلفوا في جواز التطوع بصومه بلا سبب، فمنعه الشافعية، وقالوا بتحريمه، فإن صامه فالأصح عندهم بطلانه، والمشهور عند المالكية جوازه، وقال محمد بن مسلمة بكراهته، وكره الحنفية صومه عن واجب آخر، ولم يكرهوا التطوع بصومه.
(قال الإتيوبي): عندي الصواب عدم مشروعية صومه مطلقًا، قضاء، أو غير ذلك، إلا مَن وافق وِرْدَه، فإنه يصح أن يصومه؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدم، والله تعالى أعلم...
ومنها: بيان أن النهي عن صوم يوم الشك؛ لعدم رؤية الهلال، وقد أخرج أبو داود والترمذي، والنسائي، وصححه ابن خزيمة عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: «مَن صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-»...
ومنها: أن الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم، وغيرها. البحر المحيط الثجاج (20/ 379- 380).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على وجوب صيام رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله، وعلى وجوب الفطر إذا ثبتت رؤية هلال شوال، وأن حكم الصوم والفطر معلَّق بالرؤية ولو كانت بواسطة المراصد والآلات التي تكبر المرئيات؛ لأن ذلك رؤية بالعين المشاهدة...
(و) الحديث دليل على أنه لا عبرة بالحساب في إثبات دخول الشهر وخروجه، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره إجماع الصحابة على ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، وتيسيره عليهم...
(و) الحديث دليل على أنه إذا غُمّ الهلال وستر ليلة الثلاثين بغيم أو قَتَر أنه تكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ولا يصام يوم تلك الليلة، ويكون معنى قوله: «فاقدروا له» أي: قدروا عدد الشهر، فكملوا شعبان ثلاثين يومًا؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» وهذا نص صريح لا يقبل التأويل.
وذهب جماعة من الحنابلة إلى وجوب الصوم يوم الثلاثين إذا حال دون الهلال غيم أو قَتَر احتياطًا، وفسروا قوله: «فاقدروا له» بمعنى: ضيقوا له العدد، من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الطلاق: 7 أي: ضيق عليه، والتضييق: أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا.
قالوا: وقد فسر ابن عمر -رضي الله عنهما- هذا الحديث بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه، وقد روى نافع فقال: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يومًا بعث مَن ينظر، فإن رئي فذاك، وإن لم يُرَ ولم يحُل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا.
والقول الأول: هو الصحيح، وهو أنه يجب فطر يوم الثلاثين إذا حال دون الهلال غيم أو قتر لما تقدم، وتفسير الحديث بالحديث أولى، وأما فعل ابن عمر فقد خالف نصًّا، وقول الصحابي إذا خالف نصًّا يُرد، وهو اجتهاد منه، والاجتهاد يخطئ ويصيب، وتفسير الشارع وبيانه مقدم على تفسير غيره، وابن عمر -رضي الله عنهما- له أفعال انفرد بها، كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره، والله تعالى أعلم. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (5/ 12).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)