«لا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزقَ، فإنَّه لم يكنْ عبدٌ لَيَمُوتَ حتى يَبْلُغَ آخِرَ رِزْقٍ هو له، فَأَجْمِلُوا في الطَّلبِ، أَخْذُ الحلالِ وتَرْكُ الحرامِ».
رواه ابن ماجه برقم: (2144)، وابن حبان برقم: (3239)، والحاكم في المستدرك برقم: (2134) واللفظ له، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1697)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2607).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لا تَسْتَبْطِئُوا»:
الاستبطاء: المُكث والتأخُّر. مجمع بحار الأنوار، الفتني (2/ 391).
«فَأَجْمِلُوا في الطَّلبِ»:
بِقطع الهمزَة، أَي: أَحْسنُوا فِيهِ، بِأَن تأتوه من وَجهه. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 152).
وقال الفتني -رحمه الله-:
أجملوا في الطلب، أي: اكتسبوا بوجه شرعي. مجمع بحار الأنوار (2/ 391).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ترفَّقوا في السعي في طلب حظِّكم من الرزق. فيض القدير (3/ 159).
شرح الحديث
قوله: «لا تستبطئوا الرزق»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
الاستبطاء: بمعنى الإبطاء، والسين فيه للمبالغة، كما استعف بمعنى: عف، في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} النساء: 6. [الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3337).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا تستبطئوا الرزق» أي: حصوله. فيض القدير (6/ 401).
وقال المظهري -رحمه الله-:
..بأن يتأخَّر ويمكث إتيانُ رزقكم إِليكم مِن الحلال، كما هو عادة جماعة من الناس، فإنهم يبيعون الخَمر وآلات الملاهي، ويتعلمون اللعب والضّرب بالملاهي، بسبب قِلّة رِبحهم في الاكتساب من الحلال.المفاتيح، شرح المصابيح(5/٣١١)
قوله: «فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فإنه لم يكن عبد» من عباد الله «ليموت حتى يبلغه» أي: يصل إليه «آخر رزق هو له» في الدنيا. فيض القدير (6/ 401).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حتى يبلغ» أي: يصل إليه «آخر رزق هو له» فلا يقدمه الاستعجال. التنوير (11/ 109).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
حصول الرزق أسبق وأسرع من وصول أجله؛ لأن الأجل لا يأتي إلا بعد فراغ الرزق. مرقاة المفاتيح (8/ 3330).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فإن الله تعالى قسم الرزق وقدَّره لكل أحد بحسب إرادته، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه الأَزَلِيّ، وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللوح أو الصحف، بحسب تعليق بشرط. فيض القدير (1/ 162).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإنه تعالى قد قدَّر الأرزاق وقسمها بين العباد؛ لأنه ولا بد وأن يصل إلى كل ما قدر له، وإن اجتهد وصله، وإن أجمل وصله، فالاجتهاد لا يتأتى بغير ما قدر. التنوير (4/ 465).
قوله: «فأجملوا في الطلب»:
قال المناوي -رحمه الله-:
بأن تطلبوه بالطرق الجميلة، بغير كَدٍّ ولا حرص ولا تهافت.
قال بعض العارفين: لا تكونوا بالرزق مهتمين؛ فتكونوا للرازق متهمين، وبضمانه غير واثقين. التيسير (1/ 319).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
أحسنوا فيه بأن تأتوه من وجهه. مطالع الأنوار (2/ 138).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: اطلبوا الرزق طلبًا جميلًا، لا حرص ولا تكالب ولا إسفاف على الدنايا، ولا إشراف على الأموال، فإن الرزق الذي قُدِّرَ لكم سيصل إليكم، ولكن بطلب جميل. الشافي (5/ 547، 548).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: أحسنوا في طلب الرزق؛ أي: اطلبوه من الحلال. المفاتيح (5/ 311).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
في هذا ما دل على أنه أمر بطلب الرزق، إلا أنه أمر بإجماله، وإجمال الطلب: هو أنْ يطلبه من الحلال معتمدًا على الله -عز وجل-، ولا يلاحظ في طلبه قواه ومكايده وحيله، ولا يطلبه من الحرام. شعب الإيمان (2/ 68).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: اكتسبوا المال بوجه جميل، وهو أن لا تطلبه إلا بالوجه الشرعي. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3337).
وقال المناوي -رحمه الله-:
اطلبوا الرزق طلبًا رفيقًا. التيسير (1/ 417).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة، بلا كَدٍّ ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات، أو غير مُنْكَبِّيْنَ عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به، أو بأن لا تُعَيِّنُوا وقتًا ولا قدْرًا؛ لأنه تحكُّم على الله، أو اطلبوا ما فيه رضا الله، لا حظوظ الدنيا، أو لا تستعجلوا الإجابة. شرح الموطأ (4/ 394).
وقال السندي -رحمه الله-:
أجْمَلَ في الطلب: إذا اعتدل ولم يُفَرِّط. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 2).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وفيه: أن الطلب لا يُنافي التوكل. شرح الموطأ (4/ 394).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
وقد يُظَنُّ أنّ معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض، كالخرقة المُلقاة، وكاللحم على الوضم (أي: كل شيء وُقِيَ بِهِ اللَّحْم من الأَرْض من خشب وغيره)، وهذا ظن الجهال؛ فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف يُنال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟! بل نكشف الغطاء عنه، ونقول: إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه، بعمله إلى مقاصده، وسعي العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار، أو لدفع ضار لم ينزل به، كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضار قد نزل به، كالتداوي من المرض، فمقصود حركات العبد لا تعْدُو هذه الفنون الأربعة، وهو جلب النافع أو حفظه أو دفع الضارِّ أو قطعه. إحياء علوم الدين (4/ 265).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
الناس إنما يُؤْتَوْنَ من قِلّة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها؛ فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قُدِّرَ لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم، لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير. جامع العلوم والحكم (2/ 502).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فلا فائدة للانهماك والاستشراف، والرزق لا يُنَالُ بالجد ولا بالاجتهاد، وقد يكدح العاقل الذكي في طلبه فلا يجد مطلوبه، والغِرُّ الغبي يتيسر له ذلك المطلوب، فعند تلك الاعتبارات يلوح لك صدق قول الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق. فيض القدير (3/ 159).
قوله: «أخذ الحلال وترك الحرام»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«أخذ الحلال، وترك الحرام» بدل مما قبله، أو خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ما الإجمال في الطلب؟ فقال: أخذ الحلال. التنوير (11/ 109).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فإن من الإجمال (في الطلب) الاقتصار على الحلال وإن قَلَّ. التنوير(4/ 465).