«إذا دعا الرجلُ امرأتَهُ إلى فراشِهِ فأبَتْ فباتَ غضبانَ عليها- لعنتْها الملائكةُ حتى تُصبحَ».
رواه البخاري برقم: (3237) واللفظ له، ومسلم برقم: (1436)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (5194)، ومسلم برقم: (1436): «إذا باتتِ المرأةُ هاجرةً فراشَ زوجها لعنتها الملائكة، حتى ترجع».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«إلى فراشه»:
كناية عن الجماع. عمدة القاري، للعيني (20/ 184).
«فأبت»:
أي: امتنعت. عمدة القاري، للعيني (20/ 184).
«لعنتها»:
اللعن: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطَّرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء، واللعنة الاسم، والجمع: لِعَان ولعنات، ولعنه يلعنه لعنًا: طرده وأبعده. لسان العرب(13/ 387).
شرح الحديث
قوله: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «دعا» بمعنى طلب منها أن تحضر إلى الفراش؛ وذلك من أجل أن ينال متعته منها بالجماع أو ما دونه؛ فالحديث عام. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 559).
قوله: «إلى فراشه»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن أبي جمرة: الظاهر: أن الفراش كناية عن الجماع، ويقويه قوله: «الولد للفراش» أي: لمن يطأ في الفراش، والكناية عن الأشياء التي يستحى منها كثيرة في القرآن والسنة ا.هـ. فتح الباري (9/ 294).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إلى فراشه» أي: إلى المضاجعة؛ سواء أراد جماعها أو لا، فلا يحل لها أن لا تجيبه ولو كانت حائضًا. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 448).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا دعا الرجل امرأته» بالعبارة أو بالإشارة بالتصريح أو بالتلميح باللفظ الواضح أو التعريض- ما دامت تفهم ذلك وتعلمه، «إلى فراشه» كناية عن الجماع، أي: إلى أن يقضي شهوته؛ سواء كان على فراشه أو فراش غيره أو بدون فراش؛ ولذا قيل: «الولد للفراش» أي: لمن يطأ في الفراش. المنهل الحديث في شرح الحديث(3/ 138).
قوله: «فأبت»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فأبت» أي: امتنعت من غير عذر شرعي. مرقاة المفاتيح (5/2121).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فأبت» أي: امتنعت أن تجيء؛ سواء بالقول قالت: "لا"، أو امتنعت بالفعل بأن تكرهت وتأخرت ولم تأتِ، سواء علقت الإباء على شرط أو لا بأن قالت: لا آتي إلا إذا اشتريت لي سيارة..، أو إذا أعطيتني حليًّا مثل حلي فلانة، أو إذا أتيت لي بخادم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 559).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فأبت» يُقال: أبى يأبى -بفتح الباء فيهما- أي: امتنع فأبت أن تقضي شهوته، سواء أجاءت إلى فراشه وامتنعت، أو لم تجئ أصلًا، فرواية: «فأبت أن تجئ» قصد بها الغالب في الامتناع. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 138).
قوله: «فبات غضبان عليها»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه جواز غضب الرجل على زوجته ومبيته على الغضب. شرح سنن أبي داود (9/ 467).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
زاد أبو عوانة عن الأعمش: «فبات غضبان عليها»، وبهذه الزيادة يتَّجِه وقوع اللعن؛ لأنها حينئذٍ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك؛ فإنه يكون إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك، وأما قوله في رواية زرارة: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها»؛ فليس هو على ظاهره في لفظ المفاعلة، بل المراد: أنها هي التي هجرت، وقد تأتي لفظ المفاعلة ويراد بها: نفس الفعل، ولا يتَّجِه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر فغضب هو لذلك، أو هجرها وهي ظالمة؛ فلم تستنصل من ذنبها وهجرته، أما لو بدأ هو بهجرها ظالِمًا لها فلا، ووقع في رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة: «إذا باتت المرأة هاجرة» بلفظ اسم الفاعل. فتح الباري (9/ 294).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فبات غضبان عليها»، أي: زوجها، وقيل: هذه الزيادة يتَّجِه وقوع اللعن عليها؛ لأنها حينئذٍ يتحقق ثبوت معصيتها؛ بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك؛ فإنها لا تستحق اللعن. سبل السلام (2/ 210).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فبات غضبان عليها» هذا شرط، يعني: إن رضي وصار حليمًا وعاقلًا، وأعطى المرأة على قدر عقلها، ولم يغضب؛ فهذا طيب، ولا تتعرض المرأة للعقوبة المذكورة، فإن بات غضبان كما يوجد عند كثير من الأزواج يغضب إذا أبت أن تجيء لا من أجل أنها تفوت عليه بامتناعها شهوته، ولكن من أجل أنه يشعر بأنها تحتقره، وأنها تريد أن تذله، وقد يكون من الجهتين جميعًا يكون هو محتاج إلى ما يريد؛ فتحول بينه وبين إرادته فيغضب، وقد يكون من الناس سريع الغضب يغضب لأدنى سبب، ولا يفكر في الأمور والعواقب، المهم أنه إذا بات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 559).
وقوله: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
أي: بلا سبب شرعي ولا شيء نحو الحيض عذرًا إذ له التمتع بها فوق الإزار.
السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 102).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها» مع طلبه ذلك منها، والمراد بها: الزوجة ويدخل معها في حكمها الأمة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 610).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إذا باتت المرأة» أي: استمرت في الليل، «هاجرة» أي: مفارقة، «فراش زوجها»، أي: اتصفت بهجران وفراق فراش زوجها طول الليل ممتنعة من استمتاعه، وفي البخاري «مُهاجرة». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 7).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها»؛ فليس هو على ظاهره في لفظ المفاعلة؛ بل المراد: أنها هي التي هجرت، وقد تأتي لفظ المفاعلة، ويراد بها: نفس الفعل، ولا يتَّجِه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر، فغضب هو لذلك أو هجرها، وهي ظالمة فلم تستنصل من ذنبها وهجرته، أما لو بدأ هو بهجرها ظالِمًا لها فلا. فتح الباري (9/ 294).
قوله: «لعنتها الملائكة حتى تصبح»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال (ابن أبي جمرة): وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلًا؛ لقوله: «حتى تصبح» وكأن السِّر تأكد ذلك الشأن في الليل وقوة الباعث عليه ولا يلزم من ذلك أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر؛ لأنه المظنة لذلك. ا. هـ.
وقد وقع في رواية يزيد بن كيسان عن أبي حازم عند مسلم بلفظ: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها» ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر رفعه: «ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى» فهذه الإطلاقات تتناول الليل والنهار...فتح الباري (9/ 294).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
في قوله: «لعنتها الملائكة» دلالة على أن منع مَن عليه الحق عمن هو له، وقد طلبه- يوجب سخط الله تعالى على المانع؛ سواء كان الحق في بدن أو مال. سبل السلام (2/ 210).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«لعنتها الملائكة» بالإغضاب له، والملائكة يحتمل أنهم الموكلون بها أو غيرهم أو هم وغيرهم، وفيه: أن هجر المرأة لزوجها وإغضابه كبيرة، «حتى تصبح» كان مقتضى المعصية حتى يرضى عنها زوجها، وكأنه قُيِّدَ بالإصباح؛ لأنه في الغالب يذهب غضب الزوج عنده. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 47).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لعنتها» أي: دعت عليها باللعن، يعني: قالت: اللهم العنها، هذا هو الظاهر، وليس المراد باللعن: أن الملائكة تسبها؛ لأن اللعن يطلق على السب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل هل يلعن الرجل والديه؟ قال: «نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أُمَّه فيسب أُمَّه»، وهذا دليل على أن السِّب لعن؛ لأن السَّابَّ يَطْرُدُ المسبوب ويبعده عنه؛ لكن قوله هنا: «لعنتها الملائكة» الذي يظهر لي -والعلم عند الله-: أن المعنى: دعت عليها بلعنة الله، يعني قالت: اللهم العنها ... يقول: «حتى تصبح» يعني: حتى يأتي الصباح، وذلك بطلوع الفجر، فيا ويلها إذا كانت في ليالي الشتاء تكون الليالي طويلة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 560- 563).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لعنتها الملائكة» أي: دعت عليها بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 7).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حتى تصبح» أي: المرأة أو الملائكة، قيل: إنما عين اللعن بالإصباح؛ لأن الزوج يستغني عنها بحدوث المانع عن الاستمتاع فيه غالبًا، والأظهر أن حكم النهار كذلك حتى يمسي؛ فهو من باب الاكتفاء. مرقاة المفاتيح (5/ 2121).
وقال النووي -رحمه الله-:
«حتى تصبح» معنى الحديث: أنَّ اللعنة تستمر عليها حتى تزول المعصية بطلوع الفجر والاستغناء عنها أو بتوبتها ورجوعها إلى الفراش.شرح صحيح مسلم(8/٨)
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«حتى تصبح» أي: وترجع عن العصيان؛ ففي بعض ألفاظ البخاري «حتى ترجع» ...، وقوله: «حتى تصبح» دليل على وجوب الإجابة في الليل، ولا مفهوم له؛ لأنه خرج ذكره مخرج الغالب، وإلا فإنه يجب عليها إجابته نهارًا، وقد أخرج غير مقيد بالليل ابن خزيمة وابن حبان مرفوعًا: «ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى»، وإن كان هذا في سخطه مطلقًا، ولو لعدم طاعتها في غير الجماع، وليس فيه لعن إلا أن فيه وعيدًا شديدًا يدخل فيه عدم طاعتها له في جماعها من ليل أو نهار. سبل السلام (2/ 210).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«حتى تصبح»:
المراد: حتّى ترجع كما في الراوية الآتية(حديث الباب).منحة الباري، شرح صحيح البخاري(8/412)
قال ابن حجر -رحمه الله-:
وهي أكثر فائدة، والأولى محمولة على الغالب، وللطبراني من حديث ابن عمر رفعه: «اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد آبق، وامرأة غضب زوجها حتى ترجع» وصححه الحاكم. فتح الباري (9/ 294).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أن الملائكة تدعو على أهل المعاصي ما داموا في المعصية؛ وذلك يدل أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها. شرح صحيح البخاري (7/ 316).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال المهلب: هذا الحديث يوجب أن منع الحقوق في الأبدان كانت أو في الأموال- مما يوجب سخط الله، إلا أن يتغمدها بعفوه، وفيه جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل؛ فإذا واقعه فإنما يدعى له بالتوبة والهداية.
قلتُ: ليس هذا التقييد مستفادًا من هذا الحديث؛ بل من أدلة أخرى، وقد ارتضى بعض مشايخنا ما ذكره المهلب من الاستدلال بهذا الحديث على جواز لعن العاصي المعين، وفيه نظر، والحق أن من منع اللعن أراد به معناه اللغوي، وهو الإبعاد من الرحمة، وهذا لا يليق أن يدعى به على المسلم؛ بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية، والذي أجازه أراد به: معناه العرفي، وهو مطلق السب، ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر، وأما حديث الباب فليس فيه إلا أن الملائكة تفعل ذلك، ولا يلزم منه جوازه على الإطلاق، وفيه: أن الملائكة تدعو على أهل المعصية ما داموا فيها، وذلك يدل على أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها كذا قال المهلب، وفيه نظر أيضًا، قال ابن أبي جمرة: وهل الملائكة التي تلعنها هم الحفظة أو غيرهم؟ يحتمل الأمرين، قلتُ: يحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلًا بذلك...،قال: وفيه: دليل على قبول دعاء الملائكة من خير أو شر؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- خَوَّفَ بذلك، وفيه: الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته، وفيه: أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، قال: وفيه: أن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح؛ ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك. ا. هـ.
أو السبب فيه الحض على التناسل، ويرشد إليه الأحاديث الواردة في الترغيب في ذلك، قال: وفيه: إشارة إلى ملازمة طاعة الله والصبر على عبادته؛ جزاء على مراعاته لعبده حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به؛ حتى جعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان. ا. هـ. ملخصًا من كلام ابن أبي جمرة -رحمه الله-. فتح الباري (9/ 294).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قلتُ: قول المهلب: إنه يلعن قبل وقوع المعصية للإرهاب- كلام مردود؛ فإنه لا يجوز لعنه قبل إيقاعه لها أصلًا؛ لأن سبب اللعن وقوعها منه، فقبل وقوع السبب لا وجه لإيقاع المسبَّب، ثم إنه رتب في الحديث لعن الملائكة على إباء المرأة عن الإجابة، وأحاديث: «لعن الله شارب الخمر» رتب فيها اللعن على وصف كونه شاربًا، وقول الحافظ: بأنه إن أريد معناه العرفي جاز لا يخفى أنه غير مراد للشارع إلا المعنى اللغوي، والتحقيق: أن الله تعالى أخبرنا أن الملائكة تلعن مَن ذُكر، وبأنه تعالى لعن شارب الخمر، ولم يأمرنا بلعنه فإن ورد الأمر بلعنه وجب علينا الامتثال، ولعنه ما لم تعلن توبته، وندب لنا الدعاء له بالتوفيق للتوبة والاستغفار، وقد أخبر الله تعالى أن الملائكة تلعن مَن ذُكر، ومعلوم أنه عن أمر الله، وأخبر أنهم يستغفرون لمن في الأرض، وهو عام يشمل من يلعنونهم من أهل الإيمان، وهم المرادون في الآية، إذ المراد من عصاة أهل الإيمان؛ لأنهم المحتاجون إلى الاستغفار لا أنها مقيدة بقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} غافر: 7 الآية كما قيل؛ لأن التائب مغفور له، وإنما دعاؤهم له بالمغفرة تعبد، وزيادة تنويه بشأن التائبين، وأما شمول عمومها الكفار فمعلوم أنه غير مراد، وبهذا يعرف أن الملائكة قاموا بالأمرين كما أشرنا إليه، وفي الحديث: رعاية الله لعبده، ولعن من عصاه في قضاء شهوته منه، وأي رعاية أعظم من رعاية الملك الكبير للعبد الحقير؛ فليكن لِنِعَمِ مولاه ذاكرًا، ولأياديه شاكرًا، ومن معاصيه محاذرًا، ولهذه النكتة الشريفة من كلام رسول الله مذاكرًا. سبل السلام (2/ 211).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفي الحديث: دليل على أن الملائكة تدعو على المغاضبة لزوجها الممتنعة من إجابته إلى فراشه.
وأما كونها تدعو على أهل المعاصي على الإطلاق كما قال في (الفتح)؛ فإن كان من هذا الحديث فليس فيه إلا الدعاء على فاعل هذه المعصية الخاصة، وإن كان من دليل آخر فذاك.
وأما الاستدلال بهذا الحديث على أنهم يدعون لأهل الطاعة كما فعل أيضًا في (الفتح) ففاسد، فإنه لا يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة، وغايته أنه يدل بالمفهوم على أن غير العاصية لا تلعنها الملائكة، فمن أين أن المطيعة تدعو لها الملائكة؟ بل من أين أن كل صاحب طاعة يدعون له؟ نعم قول الله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} غافر: 7، يدل على أنهم يدعون للمؤمنين بهذا الدعاء الخاص.
وحكى في (الفتح) عن ابن أبي جمرة أنه قال: وهل الملائكة التي تلعنها هم الحفظة أو غيرهم؟ يحتمل الأمرين.
قال الحافظ: يحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلًا بذلك، ويرشد إلى التعميم ما في رواية لمسلم بلفظ: «لعنتها الملائكة في السماء»؛ فإن المراد به: سكانها، وإخبار الشارع بأن هذه المعصية يستحق فاعلها لعن ملائكة السماء يدل أعظم دلالة على تأكد وجوب طاعة الزوج، وتحريم عصيانه ومغاضبته. نيل الأوطار (6/ 249).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الرجل إذا دعا امرأته إلى فراشه فامتنعت، كانت ظالمة بمنعها إياه حقه، فتكون عاصية لله بمنع الحق وبالظلم وبكفران العشير، وبتكدير عيش الصاحب، وبسوء الرفقة، وبكونها عرَّضت زوجها ونفسها لفتنة؛ فلذلك لعنتها الملائكة حتى تصبح أو حتى ترجع، ويعني -صلى الله عليه وسلم-: أنها إذا رجعت قطعت الملائكة لعنتها، لكن ما مضى من اللعنة فبحاله إلا أن يعفو الله -عز وجل-. الإفصاح عن معاني الصحاح(7/ 158).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
(الحديث) دليل على تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها، ولا خلاف فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} البقرة: 228، والمرأة في ذلك بخلاف الرجل، فلو دعت المرأة زوجها إلى ذلك لم يجب عليه إجابتها، إلا أن يقصد بالامتناع مضارتها، فيحرم عليه ذلك، والفرق بينهما: أن الرجل هو الذي ابتغى بماله، فهو المالك للبضع، والدرجة التي له عليها هي السلطنة التي له بسبب ملكه، وأيضًا: فقد لا ينشط الرجل في وقت تدعوه، فلا ينتشر، ولا يتهيأ له ذلك، بخلاف المرأة. المفهم (4/ 160).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذرٍ شرعي وليس الحيض بِعذر في الامتناع؛ لأن له حقًا في الاستمتاع بها فوق الإزار. شرح صحيح مسلم(10/٨).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال العراقي: وفيه أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطًا عليها من الكبائر، وهذا إذا غضب بحق. فيض القدير (1/ 344).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها، أي: إذا دعاها للجماع؛ لأن قوله: «إلى فراشه» كناية عن الجماع؛ كما في قوله: «الولد للفراش»، ودليل الوجوب: لعن الملائكة لها؛ إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله، ولا يكون إلا عقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك واجب. سبل السلام (2/ 210).
وقال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله-:
والمراد من الحديث: أنها امتنعت لغير عذر ولا مغاضبة منه إياها، فهو الامتناع المشعر بالنشوز عنه؛ ولذلك كانت عقوبته لعن الملائكة إياها؛ لأن النشوز كبيرة؛ ولذلك كانت له عقوبة شرعًا، وهي الهجران أو الضرب؛ لأن النشوز تنشأ عنه مفاسد جَمَّة بين الزوجين، وجنايات مع المرغوب إليه، فهذا تأويل الحديث؛ لأن ظاهره مشكل. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص:200).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
جعل الله للزوج القوامة على الزوجة، وأوجب عليها طاعته في غير معصية الله، ومقتضى هذه القوامة أن يكون أمر شهوته بيده، وفي وقت رغبته، فلا يكون للزوجة حق القبول والرفض، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، فكانت هذه الإشارات السامية، إذا دعا الرجل امرأته لقضاء شهوته لزمها إجابته ولو كانت تعجن العجين، أو مشغولة اليدين، أو غير راغبة، فإن لم تفعل لعنتها الملائكة، وغضب عليها ربها حتى ترجع وترضي زوجها. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/ 583).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائده: أن مسألة الجماع يرجع فيها إلى الزوج لا إلى الزوجة، بمعنى: أنه إذا أراد أن يجامع أو لا يجامع فالأمر إليه؛ كما أن الأمر في الحرث إلى الزارع؛ ولهذا «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح»؛ لكن إذا دعته هي وأبى لم يحصل عليه هذا الإثم، نعم عليه أن يجامعها بالمعروف ...
ومن فوائده: أنه ينبغي أن يكني بما يُستحيا من ذِكره بما يدل عليه؛ حيث قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه»؛ لأن المراد من هذه الدعوة معلوم.
ومن فوائد الحديث: أن تخلف المرأة عن إجابة دعوة الزوج إلى فراشه من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنه رتب عليه عقوبة، وهو لعن الملائكة لها أو سخط الله عليها.
ومن فوائد ذلك: أن هذا مشروط بما إذا بات الرجل غضبان، أما إن استرضته فرضي فإن هذه العقوبة تزول، يؤخذ هذا من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا…} غافر: 7...
فإن قال قائل: قلتم: إن شأن الجماع موكول للزوج فما تقولون فيما لو طلبت الزوجة ذلك فأبى عليها وغضبت، هل يستحق الزوج هذا الوعيد؟
الجواب: لا يستحق، ولكن يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، وأن يجامعها حسب ما جاء به العُرف، وهذا يختلف باختلاف المرأة، وباختلاف الرجل، وباختلاف حال الإنسان، فالإنسان المشغول ليس كالإنسان المتفرغ، والمريض ليس كالصحيح… وهكذا، نقول: إن للمرأة حقًّا في طلب الجماع، ولكن ليس كحق الرجل؛ فهو الذي له الشأن في هذا؛ لكن هي لها حق أيضًا. فتح ذي الجلال والإكرام(4/ 554-566).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
1- الحديث يدل على عظم حق الزوج على زوجته؛ كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} النساء: 34.
2- ويجب له عليها السمع والطاعة في المعروف؛ فقد جاء في المسند وسنن ابن ماجه عن معاذ بن جبل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه».
3- أنه يحرم على المرأة أن تمنع، أو تماطل، أو تتكره على زوجها إذا دعاها إلى فراشه من أجل الجماع، وأن امتناعها هذا يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب؛ فإنه يترتب عليه أن الملائكة تلعنها حتى تصبح، واللعن لا يكون إلا لفعل محرم كبير، أو ترك واجب محتم.
4- أن العشرة الحسنة والصحبة الطيبة هي أن تسعى المرأة في قضاء حقوق زوجها الواجبة عليها، وتلبية رغباته، وأن تؤديها على أكمل وجه ممكن.
5- الشارع الحكيم لم يرتب هذا الوعيد على الزوجة العاصية لزوجها، إلا لما يترتب على عصيانها من شرور، فإن الرجل لا سيَّما الشاب إذا لم يجد حلالًا، أغواه الشيطان بالوقوع في الحرام، فضاع دينه وخُلقه، وفسد نسله، وخرب بيته وأسرته.
6- الزوجة الصالحة هي التي وصفها الله تعالى بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} النساء: 34، ووصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك».
7- وفي الحديث دليل على جواز لعن العصاة ولو كانوا مسلمين، وفي الإخبار عن لعن الملائكة زجر لها في الاستمرار في العصيان، وردع لغيرها عن الوقوع في مثله.
8- الحديث فيه وجوب طاعة الزوجة زوجها عند طلبها لفراشه من غير تحديد بوقت ولا عدد، وإنما يقيد بما يضرها، أو يشغلها عن واجب. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (5/ 370).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1- منها: بيان تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها...وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)
2- ومنها: هذا الحديث يوجب أن منع الحقوق في الأبدان كانت، أو في الأموال مما يوجب سخط الله، إلا أن يتغمدها بعفوه.
3- ومنها: جواز لعن العاصي المسلم، إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه، فإنما يدعى له بالتوبة والهداية...
4- ومنها: بيان أن الملائكة تدعو على أهل المعصية، ما داموا فيها، وذلك يدل على أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها...
5- ومنها: أن فيه دليلًا على قبول دعاء الملائكة من خير أو شر؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- خوَّف بذلك.
6- ومنها: أن فيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج، وطلب مرضاته.
7- ومنها: بيان أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وفيه: أن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح؛ ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك...
8- ومنها: أن فيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله، والصبر على عبادته؛ جزاء على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد: أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان.
9- ومنها: أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطًا عليها من الكبائر، وهذا إذا غضب بحق. البحر المحيط الثجاج (25/ 486).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)