الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أنْ لا تُشْرِكْ بالله شيئًا، وإنْ قُطِّعْتَ وحُرِّقْتَ، ولا تَتْرُكْ صلاةً مكتوبةً مُتَعَمِّدًا، فمَنْ تَركها مُتَعَمِّدًا، فقد بَرِئَتْ منه الذِّمَّةُ، ولا تشرب الخمرَ، فإنَّها مفتاحُ كلِّ شرٍّ».


رواه ابن ماجه برقم: (4034)، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (18)، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (567)، مشكاة المصابيح برقم: (580).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الذِّمَّةُ»:‌
العهد، ‌والأمان، والضّمان، والحُرمة، والحقِّ. النهاية في غريب الحديث(2/168).


شرح الحديث


قوله: «أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» أبو الدرداء: «أوصاني خليلي» أي: أمرني على سبيل الإيصاء والعهد، «خليلي» وحبيبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 234).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«أوصاني خليلي» لما كان هذا الحديث في الوصية متناهيًا، وللزجر عن رذائل الأخلاق جامعًا، وضع خليلي مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إظهارًا لغاية تعطُّفه وشفقته عليه. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 874).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أوصاني خليلي» -صلى الله عليه وسلم-؛ وآثره (أي: آثر ذكر هذا اللفظ) لأن ما ذكره له في هذه الوصية إنما يصدر ممن تحققت مودته، وعمت رحمته؛ لجمعها بين كرائم الأخلاق، وتحذيرها عن جميع مساوئها.
نعم، قد يُشكل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «لو كنتُ متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذتُ أبا بكر خليلًا»، ويُجاب: بأنَّ الخلة قد تكون من جانب واحد، فالخلة المنفية في حق أبي بكر هي التي من جانبه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه تحقق بخلة الحق تعالى، لم يبق فيه متسع لغيره، كما دل ذلك قول القائل:
قد تخللتَ مسلك الروح مني *** ولهذا سُمي الخليل خليلًا.
والخلة المثبتة هنا: هي التي من جانب أبي الدرداء، فصح أن أكثر الصحابة -رضوان الله عليهم- متحققون بخلته -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان هو -صلى الله عليه وسلم- لم يتحقق بخلة غير ربه تعالى. فتح الإله في شرح المشكاة (3/29).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«أوصاني خليلي» الخلة: الصداقة المختصة الخالصة الكاملة، قيل: هو أعلى من الحب؛ كأنه دخل في خلال القلب. لمعات التنقيح (2/ 327-328).

قوله: «أن لا تشرك بالله ‌شيئًا، ‌وإن ‌قُطِّعْتَ ‌وحُرِّقْتَ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
و«لا تشرك» نهي، و«أن» مفسرة؛ لأنّ في «أوصى» معنى القول «ولا تترك، ولا تشرب» معطوفان عليه... قوله: «إن قُطِّعتَ أو حُرِّقتَ» تتميم لمعنى النهي عن الشرك. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 874).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أن لا تشرك» بالجزم فـ«أن» مفسرة؛ لأن في «أوصى» معنى القول، و«لا» ناهية... «بالله شيئًا» أي: بالقلب أولًا وباللسان ولو كرهًا؛ فيكون وصية بالأفضل، فاندفع ما قال جماعة: أن الإكراه بالقتل والتحريق فضلًا عن غيرهما لا يُجوِّز التلفظ بكلمة الكفر، فإنا لا نسلم دخول هذه الصورة في الحديث؛ لأن أحدًا لا يقول: إن التلفظ بكلمة الكفر للإكراه يسمى شركًا؛ بدليل أن القائلين بتحريم اللفظ لا يقولون: إنه كفر على أن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} النحل: 106 صريح في الحل، «وإن قُطعْتَ» بالتخفيف ويشدد، «وحُرِّقْتَ» بالتشديد لا غير. مرقاة المفاتيح (2/ 515).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«ألا تشرك» أي: قال لي: أوصيك بألا تشرك «بالله شيئًا»؛ فـ«إن» مفسرة لما في «أوصى» من معنى القول، كما تقرر، و«لا» نافية. فتح الإله في شرح المشكاة (3/29).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا على كلام الهيتمي:
وهو غير منتظم، بل خلَّط وخبَّط. مرقاة المفاتيح (2/ 516).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وكأنَّ حكمة تخصيص «وإن قُطعْتَ وحُرِّقْتَ» بالشرك، إشارة إلى أنه يحتاط له ما لا يحتاط لما بعده؛ لإباحتهما بالإكراه دونه على قول؛ ولدوام العقاب عليه دونهما، وغير ذلك، ففي ذلك من تأكيد النهي عنه ما لا يخفى. فتح الإله في شرح المشكاة (3/30).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «أن لا تشرك» صيغة نهي و«أن» تفسيرية، أو مصدرية عند مَن جوَّز دخولها على الإنشاء، أو صيغة مضارع، و«أن» ناصبة مصدرية، والمراد: أن لا تظهر الشرك، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار الموت والقتل دون إظهار الشرك. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 493).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أن لا تشرك بالله شيئًا» من المخلوق؛ لأن في «أوصى» معنى القول؛ أي: «أوصاني خليلي»؛ أي: قال لي: لا تشرك بالله شيئًا.
ويجوز النصب؛ على أنه صيغة مضارع منصوب، و«أن» ناصبة مصدرية؛ أي: أمرني بألا تشرك «وإن قُطعْتَ» بالبناء للمفعول؛ من التقطيع، وكذلك قوله: «وحُرِّقْتَ» بالبناء للمفعول؛ من التحريق. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 234).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «وإن قُطعْتَ» بالتشديد والتخفيف، والأول: أشهر وأظهر وأبلغ، «وحُرِّقْتَ» صحِّح بالتشديد لا غير. لمعات التنقيح (2/ 328).

قوله: «ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تترك صلاة مكتوبة»؛ فإنها أُمُّ العبادات، وناهية السيئات. مرقاة المفاتيح (2/ 516).

قوله: «فمَن تركها متعمدًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فمَن تركها متعمدًا» احتراز عن الخطأ والنسيان والنوم والضرورة وعدم القدرة. مرقاة المفاتيح (2/ 516).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فمَن تركها» أي: ترك الصلاة المكتوبة، حالة كونه «متعمدًا» أي: قاصدًا تركها بلا عذر. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 235-236).

قوله: «فقد برئت منه الذمة»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«برئت منه الذمة» كناية عن الكفر تغليظًا. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 874).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
«فقد برئت منه الذمة» كناية عن الكفر تغليظًا؛ قاله الطيبي، أو المراد منها (الذمة): الأمان من التعرض بالقتل أو التعزير. مرقاة المفاتيح (2/ 516).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فقد برئت منه الذمة» يُؤخذ منه صحة ما ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- من قتل تارك الصلاة بشرطه؛ لأن من لازم براءة الذمة الإهدار. فتح الإله في شرح المشكاة (3/30).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فقد برئت منه الذمة» أي: ذمة اللَّه، والذمة بالكسر: العهد والكفالة. لمعات التنقيح (2/ 328).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقد برئت منه» أي: من ذلك التارك عمدًا، «الذمة» أي: ذمة الله وأمانه وحرمته؛ أي: صار كالكافر الذي لا ذمة له فعلًا؛ فإن ترك الصلاة متعمدًا من خصالهم...، وقال الجزري: الذمة والذمام هما بمعنى: العهد والأمان والضمان والحرمة والحق، ويسمى أهل الذمة بذلك؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.
وحديث: «فقد برئت منه الذمة» أي: أن لكل أحد من الله عهدًا بالحفظ والكلأ، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، أو فعل ما حرم الله تعالى، أو خالف ما أمر به خذلته؛ أي: فارقته وأهانته ذمة الله التي فارقها بإباحة دمه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 235-236).
وقال أبو محمد الفيومي -رحمه الله-:
فمعنى «برئت منه الذمة» أي: إذا قتله إنسان لا شيء عليه، وصار بذلك مهدر الدم، وهذا يؤيد قول الذاهب إلى قتل تارك الصلاة. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 74).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«وقد برئت منه الذمة» كناية عن المنكر تغليظًا. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 874).

قوله: «ولا تشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تشرب الخمر» بكسر الباء؛ لالتقاء الساكنين؛ «فإنها مفتاح كل شر»، ومذهبة للعقل الذي هو مبنى كل خير؛ ولذا سميت أم الخبائث. مرقاة المفاتيح (2/ 516).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«و» أوصاني أن «لا تشرب الخمر؛ فإنها» أي: فإن شرب الخمر «مفتاح كل شر» وفتنة. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 236).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
والخمر: مأخوذ من خَمَرَ إذا ستر، ومنه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خمروا الإناء»، ومنه: خمار المرأة، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك، وهي اسم لعصير العنب وإن لم يقذف بزبدة، واشترط أبو حنيفة في التسمية أن يقذف بزبدة فحينئذٍ يكون مجمعًا عليه.
وأما عصير الرطب النيء إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد فقال المزني والقاضي حسين والبغوي وغيرهم: هو خمر حقيقة؛ لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم، وهو قياس في اللغة، وهو جائز عند الأكثرين، وهو ظاهر الأحاديث، ونسب الرافعي إلى الأكثرين أنه لا يقع عليها إلا مجازًا، أما في التحريم والحد فهي كالخمر لا يكفر مستحلها للخلاف فيها، وشربها من أكبر المحرمات بالإجماع، وكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام، واختلف أصحابنا (أي: الشافعية) في أن ذلك كان استصحابًا منهم لحكم الجاهلية أو لشرع في إباحتها، ورجح الماوردي الأول والنووي الثاني، وكان تحريمها في السنة الثالثة من الهجرة بعد أُحُد، ورد في تحريمها أربع آيات قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} البقرة: 219 الآية، وما كبر إثمه لا يكون مباحًا، وقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} النساء: 43، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} المائدة: 90 إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} المائدة: 91، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} الأعراف: 33، والمراد بالإثم: الخمر عند الأكثرين؛ كقول الشاعر:
شربتُ الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم يذهب بالعقول
قيل: وبهذه الآية استقر التحريم؛ لما فيها من صريح التحريم، وفي غيرها محتمل لكن وقع التحريم بالأولى عند الحسن البصري وبالثالثة عند الأكثرين؛ لقول عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الأولى، فأعاد دعاءه، فنزلت الثانية، فأعاد الدعاء، فنزلت الثالثة؛ فحين سمعها قال: انتهينا انتيهنا، رواه عنه أبو داود والترمذي.
تتمة: قال أبو العباس القرطبي: في حديث الإسراء: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرض عليه الخمر واللبن اختار اللبن فقال له جبريل -عليه السلام-: «الحمد لله الذي هداك للفطرة» يعني: فطرة دين الإسلام كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الروم: 30، فجعل الله تعالى ذلك لجبريل علامة على هداية هذه؛ لأن اللبن أول ما يتغذى به الإنسان وهو قوت خالٍ عن المفاسد، وبه قوام الأجسام، ودين الإسلام هو أول ما أخذ على ابن آدم وهم كالذر، وهو قوت الأرواح به قوامها وحياتها الأبدية، وصار اللبن عبادة مطابقة لمعنى دين الإسلام من جميع جهاته، والخمر على النقيض من ذلك في جميع جهاتها إذ هي مفتاح كل شر، أ. هـ قاله في الديباجة. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 204).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌فإنها ‌مفتاح ‌كُلَّ ‌شَر» كان مغلقًا من زوال العقل والوقوع في المنهيات، واقتحام المستقبحات، ونزول الأسقام وحلول الآلام. فيض القدير (1/ 154).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«‌فإنها ‌مفتاح ‌كل ‌شر» أي: أصله ومنبعه، ومَن ثَمّ كان شربها من أفجر الفجور، وأكبر الكبائر؛ بل ذهب بعض الصحابة إلى أنها أكبرها بعد الشرك، وذهب جمع من المجتهدين وتبعه المؤلف (أي: السيوطي في الجامع الصغير) إلى أن شاربها يقتل في الرابعة، وزعموا صحة الحديث بذلك من غير معارض. فيض القدير (6/ 404).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «‌فإنها ‌مفتاح ‌كل ‌شر»؛ فإنها تزيل العقل فلا يبالي بشيء؛ فقد انفتح له باب الشر بعد أن كان مغلقًا بقيد العقل. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 327).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌فإنها ‌مفتاح ‌كل ‌شر»، وقد عد بعض شرورها في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من شربها ترك الصلاة، ووقع على أُمه وخالته وعمته». التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 365).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«‌فإنها ‌مفتاح ‌كل ‌شر» أصله؛ فإنها أم الخبائث، وجماع المآثم، من شربها أتى كل فاحشة، وتهاون لكل طاعة، وفسد دينه ودنياه. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 113).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قرن ترك الصلاة وشرب الخمر مع الشرك؛ إيذانًا بأن الصلاة عمود الدِّين وتركها ثُلْمة في الدِّين، وأن شُرب الخمر كعبادة الوَثن؛ ولأن أُم الأعمال ورأسها الصلاة، وأم الخبائث الخمر، فأنى يجتمعان؟ قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} العنكبوت: 45. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 874).


ابلاغ عن خطا