«نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن صيامِ يومينِ: يومِ الفِطْرِ، ويومِ النَّحْرِ».
رواه البخاري برقم: (1991)، ومسلم برقم: (1138) واللفظ له، من حديث أبي سعيد الخُدْرِي -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن صيام يومين»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث يقول: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-»، وإذا قال الصحابي ذلك فالصواب بلا شك أنه بمنزلة قوله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تصوموا، يعني: كالنهي الصريح؛ لأن هناك فرقًا بين نهي، ولا تصوموا؛ لأن الثاني صريح، والصواب أيضًا: أن الأول صريح، وأما قول من قال: إنه ليس بصريح؛ لاحتمال أن يكون الصحابي فهم أنه نهي وليس بنهي؛ فهذا بعيد ولا يَرِدُ؛ وذلك لأن الصحابي عالم باللغة العربية ومدلولاتها، ولا سيما كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يزل يسمعه منه كثيرًا، فالصواب: أن قوله: (أمَرَ)، وأن قوله: (نهى) أن الأول بمنزلة افعل، والثاني بمنزلة لا تفعل، ولا فرق. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 274).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأما نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم الفطر ويوم النحر؛ فلا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز صيامهما لناذرٍ ولا متطوع، ولا يُقضى فيهما رمضان، ولا يُصامان في صيام التتابع، والذي يصومهما بعد علمه بالنهي المجتمع عليه عاصٍ عند الجميع. الاستذكار (4/ 239).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وقد فسر ذلك عمر بن الخطاب فقال: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-نهى عن صيام يومين؛ أما يوم الأضحى فتأكلون مِن نُسككم، وأما يوم الفطر فَفِطركم من صيامكم»، وهذا الأصل في ذلك، والذي يختص به يوم الفطر: أنه فصل للصوم المفترض من غيره من التطوع، فلو جاز صومه لاتصل التطوع بالفرض ولأشكل، والفرق بينه وبين آخر شعبان: أنه يجوز أن يُصام تطوعًا شهر رمضان، واستقبال الناس له يمنع مِن اتصاله بشعبان، وليس كذلك ما بعد رمضان؛ فإن استقباله بالصوم لا يُسمع ولا يَشيع، فلو لم يفصل بينهما بفِطر لأشكل. المنتقى شرح الموطأ (2/ 59).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
نهيه -صلى الله عليه وسلم-عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى محمول على التحريم عند كافة العلماء، فلا يجوز الإقدام على صومهما؛ أيَّ نوع من أنواع الصوم كان، لا يُختلف في ذلك، ثم لا ينعقد صومه إن وقع عند عامتهم غير أبي حنيفة؛ فإنه ينعقد عنده إذا أوقع.
واختُلف فيمن نذرهما، هل يلزمه قضاؤهما أو لا يلزمه؟ قولان، وبالأول قال أبو حنيفة وصاحباه، والشافعي والأوزاعي في أحد قوليهما، وبالثاني قال مالك، وزُفَر، وهو قول الشافعي، وسببه: هل النهي عن صومهما راجع إلى ذات المنهي عنه، أو إلى وصف فيه، كما يعرف في الأصول؟
وقول عمر: «يوم فطركم من صيامكم، ويوم تأكلون فيه من نسككم» تنبيه على الحكمة التي لأجلها حُرِّم صوم هذين اليومين، أما يوم الفطر: فيتحقق به انقضاء زمان مشروعية الصوم، ويوم النحر: فيه دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه لأهل منى وغيرهم، بما شرع لهم من ذبح النسك والأكل منها، فمن يصوم هذا اليوم فإنه ردَّ على الله كرامته، وإلى هذا أشار أبو حنيفة، والجمهور على أنه شَرْعٌ غير معلَّل. المفهم (3/ 197).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى» النهي طلب الكفَّ على وجه الاستعلاء، يعني: على وجه يعتقد الناهي أنه أعلى رتبة من المنهي، وكل النواهي التي ترد في الكتاب والسُّنة فهي على هذا الوصف، فإن الناهي إما الله -عز وجل-، وإما النبي -صلى الله عليه وسلم-. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 274).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر» فيحرم صومهما ولا ينعقد. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 474).
قوله: «عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«عن صيام يومين: يومِ» بالجر بدل مما قبله. شرح سنن أبي داود (10/ 503).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمِّدًا لعينهما قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما، وقال أبو حنيفة: ينعقد ويلزمه قضاؤهما، قال: فإن صامهما أجزأه، وخالف الناسَ كلَّهم في ذلك. شرح مسلم (8/ 15).
وقال المناوي -رحمه الله-:
يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، فصومهما حرام، ولا ينعقد، ومثلهما أيام التشريق؛ لأنها أيام أكل وشرب، وذكر الله تعالى. فيض القدير (3/ 63).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «عن صيام يومين: يوم الفطر» بالكسر على أنه بدل بعضٍ من كلٍّ، و«يوم الفطر» وهو أول يوم من شوال؛ لأن الناس يفطرون فيه من رمضان، «ويوم النحر» هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة؛ لأن الناس ينحرون فيه الضحايا، وسُمِّي يوم النحر تغليبًا لما هو أكبر وأفضل وهي: الإبل، وإلا فإن فيه نحرًا وفيه ذبحًا. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 274).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
إنَّما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صيامهما؛ لأنهما اليومان اللذان يحصل بهما الأكل والشرب؛ إظهارًا لنعمة الله - سبحانه وتعالى- في أيام النحر، وإظهارًا للفطر في يوم الفطر؛ لأن الناس لو صاموا لم يكن هناك فرق بين أول يوم من شوال وآخر يوم من رمضان، واختلطت الأيام التي يجب صيامها بالأيام التي لا يجب، والشارع له نظر في التفريق؛ ولهذا سبق لنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يتقدم الإنسان رمضان بصوم يوم أو يومين؛ خوفًا من أن يختلط الواجب بغيره؛ ولأن العبادة المحدودة إذا لم يكن هناك تمييز بين طرفيها فإنها تبدو وكأنها غير مؤقتة، فمن أجل هذه الحِكَم نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُصام يوم عيد الفطر.
وأما قول بعض أهل العلم: إنه نهى عن صيامهما لأن الخَلق في ضيافة الله ففيه نظر ظاهر؛ لأن الخَلق دائمًا في ضيافة الله، لكن الحكمة هو هذا.
أما يوم النحر فالحكمة فيه: لأن الناس لو صاموا لكان هذا عُزوفًا عن تمتعهم بالأكل عن هداياهم وضحاياهم، وقد أمر الله تعالى بالأكل منها، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحكمة بقوله: «أيام التشريق أيام أكل وشُرب وذكر لله -عز وجل-»، فلما كان الصوم يحول بين الإنسان وبين أكله من هذه الشعيرة العظيمة وهي النُّسك نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله: «نهى عن صيامهما» عامٌّ يشمل صيامهما على أنه فريضة أو أنه نافلة، ويشمل صيامهما مضمومَين إلى ما بعدهما أو منفردَين، بمعنى: أنه لا يجوز أن تصوم يوم الفطر ولو صمت اليوم الثاني، ولا اليوم العاشر ولو صمت اليوم التاسع، أو الحادي عشر فالنهي عن صيامهما مطلقًا. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 274-275).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قال علماؤنا: وأيام السَّنَةِ تنقسم في الصِّيام على ستةِ أقسام:
فمنها ما يجب صومُه ولا يحل فطره إلا بعدَ وصْفٍ من الأوصاف السِّتَّةِ، وهو شهر رمضان.
ومنها ما يجبُ فطره ولا يحل صومه، وهو يوم النَّحْرِ ويوم الفِطْر.
ومنها ما يجوز صومُه على وجهٍ ما، وهي اليومان اللّذان بعد يوم النَّحْر.
ومنها ما يُكرَهُ صَوْمُه، وهو اليوم الرابع من أيام التَّشْريق.
ومنها ما يجوز صَوْمُه وفِطْرُه، وهو ما لم يرد في صومه ترغيب مما عَدَا شهر رمضان ويوم الفطر ويوم النّحر وأيام التشريق.
ومنها ما يستحب صومه، وهو ما ورد فيه ترغيب، مثل قوله للأعرابي: «إِلَّا أنّ تَطَّوَّعَ»، والفائدة في قوله: «إِلَّا انْ تَطَّوَّعَ» هو ندْبٌ منه إلى التَّطَوُّع بالصِّيام في غير رمضان وحَضٌّ عليه.
نكتةٌ أصولية: اختلف العلماء في النهيِ عن صوم يوم العيدِ:
فقال عامة الفقهاء: إنّها شريعة غير مُعلَّلة.
وقال أبو حنيفة: إن النهي مُعَلَّلٌ بعِلَّةٍ وهي: أن الناس أضيافُ الله، أَذِنَ لهم في الأَكلِ عنده يوم الفِطر، وإنما أرادوا أن يركبوا على هذه مسألة، وهي: من نَذَرَ صوم يوم العيد، فقال علماؤنا: النَّذرُ باطلٌ.
وقال أبو حنيفة: يلزمه النذر ويقضي؛ لأن النهي ليس لمعنى في النهي عنه، وهذا فاسدٌ، بل النّهي شريعة.
وقوله: "إن الخَلقَ أضيافُ اللَّهِ" يبطل بزمان الليل، فإن الخلقَ أضيافه كل ليلة، ومَن نذَرَ الليل لا يلزمه فيه قضاء، ويبطل بزَمانِ الحيضِ، فإن الحائضَ لو نذرت لم يلزمها قضاؤه. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 208).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأصل الخلاف في هذه المسألة: أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه؟ قال الأكثر: لا، وعن محمد بن الحسن: نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى: لا يبصر؛ لأنه تحصيل الحاصل، فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة.
وأجيب: أن الإمكان المذكور عقلي، والنزاع في الشرعي، والمنهي عنه شرعًا غير ممكن فعله شرعًا، ومِن حُجج المانعين: أن النفل المطلق إذا نُهي عن فعله لم ينعقد؛ لأن المنهي مطلوب الترك -سواء كان للتحريم أو للتنزيه-، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين -كالصلاة في الدار المغصوبة-: أن النهي عن الإقامة في المغصوب ليست لذات الصلاة، بل للإقامة، وطلب الفعل لذات العبادة، بخلاف صوم يوم النحر مثلًا؛ فإن النهي فيه لذات الصوم؛ فافترقا، والله أعلم. فتح الباري (4/ 239).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
الحق ما ذهب إليه الجمهور من أنَّ نذر صوم يومَي العيد غير منعقد أصلًا، لا أداءً ولا قضاءً؛ للحديث الصحيح: «لا نذر في معصية الله» رواه مسلم، وكذلك الصحيح في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة: ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه الله- من أنه لا تصح الصلاة أصلًا، والحاصل: أنه لا فرق بين المسألتين، كما ادعاه صاحب الفتح، وقد حققت المسألة في التحفة المرضية وشرحها في الأصول، فراجعْها تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (21/ 252).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على أن صوم يوم الفطر ويوم النحر منهيٌّ عنه، والنهي أصله التحريم إلا أن تقوم قرينة على خلافه، وقد أشار في رواية عمر إلى علة التحريم وهو قوله: «يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم»، فقوله: «يوم فطركم» إشارة إلى أن العلة في إفطاره هو الدلالة على تمام فريضة الصيام، فهو بمثابة التسليم في الصلاة، وكذلك قوله: «تأكلون فيه من نسككم»؛ إذ ذلك للتقرُّب بعبادة مشروعة في ذلك اليوم والصيام ينافيها؛ فكان غير محل للصوم، ومقتضى هذا: أنه لا صيام فيهما تطوع ولا قضاء ولا نذر، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهب المؤيد والإمام يحيى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن النهي للتنزيه، قالوا: فلو نذر بصيامهما صامهما، ولا يصح القضاء فيهما؛ لأن القضاء فيهما يكون ناقصًا، والفائت كامل، ولا يُجْبَرُ الكامل بالناقص بخلاف النذر؛ فإنه أوجبه ناقصًا فصح أداؤه ناقصًا، على القول الأول إذا نذر بصيامهما فعند زيد بن علي والهادوية يصوم غيرهما قدرهما، أو عند الناصر والشافعي ومالك والصادق والإمامية لا ينعقد النذر فلا يصومهما ولا غيرهما، قالوا: لأنه نَذْر بمعصية، وأجيب بأن ذلك حيث لا يمكن الوفاء إلا بالمعصية، وهنا قد أمكن بغيرها، وظاهر الكلام أن المتمتع أيضًا لا يصح منه الصوم، وفي ظاهر عبارات بعض كتب الهادوية ما يقضي بصحة صومهما في حق المتمتع، والله أعلم. البدر التمام (5/ 112).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على تحريم صوم هذين اليومين؛ لأن أصل النهي التحريم، وإليه ذهب الجمهور، فلو نذر صومهما لم ينعقد نذره في الأظهر؛ لأنه نذَرَ بمعصية، وقيل: يصوم مكانهما عنهما. سبل السلام (4/ 133).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائد الحديث:
أولًا: تحريم صوم هذين اليومين.
ثانيًا: بيان حكمة الله -عز وجل- من الشريعة، وأنه -سبحانه وتعالى- أراد منا أن نجعل الشريعة متميزة ظاهرة يتميز فيها كل شيء عن شيء.
ثالثًا: مشروعية الحفاظ على الأكل من الأضاحي، وكذلك الهدايا؛ لأن الله أمر بها، والصوم يحول بيننا وبين الأكل إلا في الليل.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لو نذر أن يصوم هذين اليومين فإنَّ نذره لا يصح ولا يجوز الوفاء به؛ لماذا؟ لأنه معصية، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه»...
ظاهر الحديث أيضًا: أنه لا يُصام يوم النحر ولا عن دم المُتعة والقِران مع أنه واجب؛ لقوله تعالى في دم المتعة والقِران: {فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلَاثةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم} البقرة: 196، ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر، فهل يصوم الإنسان ذلك اليوم ويقول: لأن الله يقول: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} البقرة: 196؟
نقول: لا تصم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم هذين اليومين، فهما ليسا وقتًا للصوم، ما نظيرهما في الصلاة؟ أوقات النهي التي نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة فيها. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 275-276).