«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يومَ العيدِ في طريقٍ رجع في غيرِهِ».
رواه أحمد برقم: (8454) والترمذي برقم: (541) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (1301)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4710)، مشكاة المصابيح برقم: (1447).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان إذا خرج يوم العيد» الفطر أو الأضحى «في طريق رجع في غيره» قيل: يذهب في الطُّولَى لطلب كثرة الأجر، ويعود في القُصْرى؛ ليشتغل بمهمٍّ آخر، وعدَّ ابن القيم في الهدي لذلك حِكمًا كثيرة، وهذا ليس من أفعال الجبلة، بل لا يقصد إليه إلا لسرٍّ، وإن جهلنا حقيقته. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 375)
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان إذا خرج يوم العيد» أي: عيد الفطر أو الأضحى «في طريق» لصلاته «رجع في غيره»؛ ليشمل الطريقين ببركته، أو ليستفتيه أهلُهما، أو ليحترز عن كيد الكفار، أو لغير ذلك. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 246).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «في طريق رجع في غيره» مما هو أقصر منه، فيذهب في أطولهما تكثيرًا للأجر، ويرجع في أقصرهما ليشتغل بمهم آخر، وقيل: خالف بينهما ليشمل الطريقين ببركته، وبركة من معه من المؤمنين، أو ليستفتيه أهلهما، أو ليشيّع ذكر الله فيهما، أو ليتحرز عن كيد الكفار، وتفاؤلهم بأن يقولوا: رجع على عقبيه، أو لاعتياده أخذ ذات اليمين حيث عَرَض له سبيلان، أو لغير ذلك. فيض القدير (5/ 123).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا خرج يوم العيد» أي: ذاهبًا «في طريق رجع في غيره» أي: في طريق غيره. مرقاة المفاتيح (3/ 1073).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره» ذهب غير واحد من أصحاب المعاني إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبتغي بذلك أن تشمل بركتُه البقاعَ وبركةُ من معه من المؤمنين، وهو حسن، والحديث عندي محتمِل لغير ذلك من الوجوه:
أحدها: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرجع في غير الطريق الذي ذهب فيه لتمتلئ أفواه الطُّرق من عباد الله المؤمنين، فيكون فيه ترغيم أعداء الله، وفَلُّ عزيمتهم أو عِزِّهم، وإماطة عاديتهم.
والآخر: أنه كان يصنع ذلك تفاؤلًا بمُضِيِّهم في سبيل الله من غير أن يرجعوا على أعقابهم، وكأنه كان يكره أن يُقال: رجعوا من حيث جاءوا.
والثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا عرض له سبيلان أخذ في ذات اليمين، فنقول: إنه كان في خروجه يأخذ ذات اليمين، وكذلك في رجوعه فيصير ذات الشمال في خروجه ذات اليمين في رجوعه. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 346-347).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «رجع في غيره» قيل: لتعمير الطريقين بالذِّكْر، أو ليشهد له الطريقان بالخير. حاشية السندي على مسند أحمد (2/628).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
يُسن لكل أحدٍ رجل أو عالم أو صالح أو متصدق أو غيرهم أنْ يذهب إلى صلاة العيد -وأُلحق بهما كل طاعة- في طريق، ويرجع في أخرى، ويُسن أنْ يجعل الطويلة للذهاب؛ حيث لم يخش فوات نحو جماعة، والقصيرة للرجوع؛ لأنه ليس قاصدًا قُرْبة، وإنْ قلنا: إنه يُثاب بالرجوع أيضًا، على خلاف فيه.
واختلفوا في سبب المخالفة بين الطريقين، هل هو جعل الطويلة للذهاب ليكثر الثواب، والقصيرة للرجوع؛ لأنه لا ثواب فيه عن جمعٍ، أو ثوابه أقل، أو لشهادة الطريقين له، أي: لفظًا يوم القيامة... أو ليتبرَّك أهلهما به، أو ليعمَّهما بالبركة والخير، أو إشاعة ذكر الله فيهما، أو استفتائه فيهما، أو لتصدّقه على فقرائهما، أو نفاد ما يتصدّق به عند الذهاب، أو زيارة قبور أقاربه فيهما، أو غيظ المنافقين، أو الحذر منهم، أو التفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا، أو غشية الرحمة، ورجَّحه بعض أئمتنا؛ لحديثٍ فيه، وإنما نُدب ذلك حتى لمن لم يشاركه في شيء مما ذُكر كما تقرر؛ تأسيًا به -صلى الله عليه وسلم-، كالرَّمَل والاضطباع (في الطواف). فتح الإله في شرح المشكاة (5/305-306).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
حديث أبي هريرة حديث حسن غريب، وروى أبو تُمَيلة ويونس بن محمد هذا الحديث عن فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن جابر بن عبد الله.
وقد استحب بعضُ أهل العلم للإمام إذا خرج في طريق أنْ يرجع في غيره؛ اتباعًا لهذا الحديث، وهو قول الشافعي، وحديث جابر كأنه أصح. سنن الترمذي (2/ 425).
وقال أبو الطيب السندي -رحمه الله- مُعقِّبًا على كلام الترمذي:
الظاهر أَنه تشريع عام فيكون مستحبًا لكل أحدٍ ولا تخصيص بالإمام إلا إذا ظهر أنه لمصلحة مخصوصة بالأئمة فقط، وهو بعيدٌ؛ لأن فعله ما كان لكونه مشرعًا انتهى.
(وهو قول الشافعي)، قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه والذي في الأُمِّ أَنه يُستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر الشافعية، وقال الرافعي لم يتعرض في الوجيز إلا للإمام انتهى.
وبالتعميم قال أكثر أهل العلم. انتهى
قلت: وبالتعميم قال الحنفية أيضًا.تحفة الأحوذي(3/٧٨)
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله-:
قال مالك -رحمه الله-: وأدركْنا الأئمة -رضي الله عنهم- يفعلون ذلك.
وقد ذكر الناس في فوائد هذا الفعل أشياء، بعضها يَقْرُب من الإمكان، ويحتمل أن يقال، وكثيرٌ منها دعاوى فارغة، واختراعات غثة، ونحن نذكر بعضَ ما قيل في ذلك، فأقوى ما ذُكر فيه: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك ليعمّ اللهُ بركتَه -صلى الله عليه وسلم- مِن كل جهة، ويراه في الطريق الذي رجع فيه مَن لم يره -صلى الله عليه وسلم- في الطريق الذي غدا منه.
وقيل أيضًا: مراده بذلك: أن يتسع الطريقُ على الناس، وتَقِل الزحمة، ويخف الجمع؛ فلا تتأذى الناسُ بكثرة الزحام.
وقيل أيضًا: إن مراده -صلى الله عليه وسلم- بذلك أن يعمّ الناسَ بالصدقة؛ لأنه قد يكون في الطريق الذي رجع فيه مِن الفقراء مَن لا يمكنه الحركة، فإذا رجع من ذلك تصدَّق عليهم، وإذا رجع مِن الطريق الذي أتى منها لم تلحقهم صدَقَتُه -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: إنه كان يفعل ذلك لأنه كان يُسأل -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء مِن أحكام الشريعة، فكان يرجع في غير الطريق التي خرج منها؛ ليسأله مَن لم يكن سأله، وهذا والذي قبله سواء.
وقال بعضهم: فائدةُ ذلك: أن يساوي بين الطرق؛ لأن الطريق الذي يمشي فيه له مزيّة وفضيلة على غيره؛ فأراد أن يرجع في غيره؛ للتَّسْوية بين الطريقين، وهذا ليس بشيء. وقال هذا القائل: يحتمل أن يكون فعل ذلك لجواز أن يكون اليهود كَمنَتْ له كمينًا، وهذا أيضًا لا معنى له؛ لأن الأخبار واردة بتكرر هذا الفعل منه.
واحتمال ما ذكروه بعيد أن يتفق أبدًا؛ ولأن هذا الاحتمال ليس له أمارة تقتضي تخصيصه بالعيد دون غيره من أوقات مشيه وجموعه؛ فيبطل التعلق به، وكان أقوى ما يُذكر في ذلك ما قدَّمناه. شرح الرسالة (1/ 41).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وجمهور العلماء يستحبون الرجوع يوم العيد من طريق أخرى، وقال أبو حنيفة: يستحب له ذلك، فإن لم يفعل فلا حرج عليه، ورأيتُ للعلماء في معنى رجوعه -عليه السلام- من طريق أخرى تأويلات كثيرة، وأولاها عندي -والله أعلم-: أن ذلك ليُري المشركين كثرةَ عدد المسلمين، ويُرْهب بذلك عليهم. شرح صحيح البخاري (2/ 572).
وقال عبد القادر الجيلاني -رحمه الله-:
فاختلف الناس في ذلك، فقال أكثرهم: إنما أراد بذلك اختلاف حرز المشركين لعسكره، فخالف بين الطريقين ليختلف الحرز، وقال آخرون: إنما قصد بذلك الاختصار في الرجوع؛ كأنه سلك الطريق الأطول في الممر لكثرة الحسنات، ورجع في الأقصر، وقال آخرون: لما مضى في طريق شهدتْ له الأرض، ثم رجع في طريق آخر لتشهد له الأرض الثانية، وقيل: إنه -عليه السلام- مضى على حيٍّ من الأحياء ثم رجع على غيرهم ليساوي بينهم في الإكرام؛ لأن رؤيته -عليه السلام- كانت رحمة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء: 107.
وقيل: إن الأرض تفتخر بوطء النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الأنبياء والأولياء وسعيهم عليها، فأراد أن يساوي بين البقعتين؛ لكي لا تفتخر بعضُها على بعض، وقيل: إنه -عليه السلام- كان قد سلك إلى المصلَّى من طريق وقصده الحقيقة إلى الله تعالى، ثم أراد الرجوع إلى الأهل والوطن والطين والماء المعروف المعهود؛ فكره أن يسلك إلى الله تعالى طريقًا ثم يسلكه إلى غيره، فرجع من طريق آخر، وقيل: إنه -عليه السلام- لو لم يرجع في طريق آخر لوجب على الناس الاستنان به -عليه السلام-، وتعذَّر عليهم التفرق بعد صلاة العيد إلى منازلهم، فأراد أن يبين التوسعة عليهم في الرجوع في أي طريق شاءوا، وقيل: إنه -صلى الله عليه وسلم- فزع من مكيدة الكفار والمنافقين، وقيل: إنه كان يتصدق على من كان معه، فكان يرجع في طريق آخر حتى تتوفر الصدقة على الفقراء، وقيل: إنه كان يفعل ذلك لأجل ازدحام الناس عليه -صلى الله عليه وسلم-. الغنية لطالبي طريق الحق (2/ 76).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قالوا: إنما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن الزحام كان في الطريق الأعظم، فتركَه توسُّعًا على الناس، وقيل: إنما فعله ليتبرك به أهل الطريقين ويشاهدوه، وقيل: لتُكتب خُطاه وتشهد له بها الطريقان، وقيل: إنه كان يتصدق في ذهابه ورجوعه، فيخالف بين الطريقين لتصل الصدقة إلى من فيهما، وقيل: لغيظ المنافقين ممن لم يسلك الطريق الأعظم.
قال الشافعي -رضي الله عنه-: وأُحِبُّ أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة، وأُحب ذلك للمأموم.
وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عن جده: «أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع من المصلى في يوم عيدٍ فسلَك على التَّمَّارين في أسفل السوق، حتى إذا كان عند مسجد الأعرج -الذي عند موضع البركة التي بالسوق- قام فاستقبل فجَّ أسلم، فدعا ثم انصرف». الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 277).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وجملته: أن الرجوع في غير الطريق التي غدا منها سُنة، وبهذا قال مالك، والشافعي.
والأصل فيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله، قال أبو هريرة: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره»، قال بعض أهل العلم: إنما فعل هذا قصدًا لسلوك الأبعد في الذهاب؛ ليكثر ثوابه وخطواته إلى الصلاة، ويعود في الأقرب؛ لأنه أسهل وهو راجع إلى منزله، وقيل: كان يحب أن يشهد له الطريقان، وقيل: كان يحب المساواة بين أهل الطريقين في التبرك بمروره بهم، وسرورهم برؤيته، وينتفعون بمسألته، وقيل: لتحصل الصدقة ممن صحِبَه على أهل الطريقين من الفقراء، وقيل: لتبرُّك الطريقين بوطئه عليهما.
وفي الجملة: الاقتداء به سُنة؛ لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله من أجله؛ ولأنه قد يفعل الشيء لمعنى ويبقى في حق غيره سُنة مع زوال المعنى، كالرَّمَل والاضطباع في طواف القدوم، فعَلَه هو وأصحابُه لإظهار الجلَد للكفار، وبقيَ سنةً بعد زوالهم.
ولهذا روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: «فيم الرَّمَلانُ الآن، ولمن نُبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟»، ثم قال مع ذلك: «لا ندع شيئًا فعلناه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». المغني (2/ 289).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
وقيل: ليزور قبور أقاربه فيهما، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل: ليزداد غيظ المنافقين، وقيل: لئلا تكثر الزحمة، وقيل: كان يتوخى أطول الطريقين في الذهاب وأقصرهما في الرجوع، وهو أظهر المعاني، ثم من شاركه من الأئمة في المعنى استُحِب له ذلك، وفيمن لا يشارك وجهان: قال: أبو إسحاق (الشيرازي): لا يستحب له ذلك، وقال ابن أبي هريرة: يستحب كالرَّمَل والاضطباع؛ يؤمر بهما مع زوال المعنى، وإلى هذا ميل الأكثرين، وهو الموافق لإطلاق لفظ الكتاب، ويستوي في هذه السُّنة الإمام والقوم، نصَّ عليه في (المختصر)، ولم يتعرض في (الكتاب) إلا للإمام. فتح العزيز بشرح الوجيز (5/ 56).
وقال ابن رجب-رحمه الله-:
وقد استَحَب كثير من أهل العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد، وألحق الجمعة بالعيد في ذلك، ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره. فتح الباري (9/ 72).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وكان -صلى الله عليه وسلم- يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب في طريق ويرجع في أخرى...وقيل: ليُظْهِر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطُّرق، وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله، وقيام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع له؛ فإن الذاهب إلى المسجد أو المصلى إحدى خُطْوَتَيْهِ تَرفع درجة، والأخرى تحط خطيئة، حتى يرجع إلى منزله، وقيل -وهو الأصح-: إنه لذلك كله ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعله عنها. زاد المعاد (1/ 564).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد اختُلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة، اجتمع لي منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهي منها...
قيل: ليُسوِّي بينهما في مزية الفضل بمروره، أو في التبرك به، أو ليشُمَّ رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفًا بذلك، وقيل: لأن طريقه للمصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها، وهذا يحتاج إلى دليل، وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال، وقيل: حذرًا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره، قاله ابن التين، وتُعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلًا أنه -صلى الله عليه وسلم-كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، ويرجع من الطريق الأخرى، وهذا لو ثبت لقوى بحث ابن التين، وقيل: فعل ذلك ليَعُمَّهم في السرور به، أو التبرك بمروره وبرؤيته، والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد، أو الصدقة أو السلام عليهم، وغير ذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى؛ لئلا يَرُدَّ مَن يسأله، وهذا ضعيف جدًّا، مع احتياجه إلى الدليل، وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد (الإِسْفَرَايِيْنِيُّ)، وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر فقال فيه: ليسع الناس، وتُعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله: «ليسع الناس» يحتمل أن يُفسر ببركته وفضله، وهذا الذي رجحه ابن التين، وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخُطَا في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعي، وتُعقب بأنه يحتاج إلى دليل، وبأن أجر الخُطا يكتب في الرجوع أيضًا، كما ثبت في حديث أُبَي بن كعب عند الترمذي وغيره، فلو عكس ما قال لكان له اتجاه، ويكون سلوك الطريق القريب للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت، وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات؛ فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} يوسف: 67، فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين، وأشار صاحب الهدي (أي ابن القيم في زاد المعاد) إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذُكر من الأشياء المحتملة القريبة، والله أعلم. فتح الباري (2/ 473).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
والحكمة في ذلك: أن يشهد له الطريقان وسكانهما من الإنس والجن، ولإظهار شعائر الإسلام، وأن تعم البركة الطريقين، والسلام على أهل الطريقين، وتعليمهم وإرشادهم، ولو رجع في الطريق الذي ذهب فيه جاز؛ لقول بكر بن مبشر الأنصاري: "كنت أغدو مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى يوم الفطر ويوم الأضحى فنسلك بطن بُطْحَان حتى نأتي المصلى فنصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا"، أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي. الدين الخالص (4/ 358).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-:
وقيل: إن العلة لا تتعين فيه، وقد ثبت من السُّنة مخالفة الطريق في العيد. شرح كتاب آداب المشي إلى الصلاة (ص: 154).
وقال ابن القاسم -رحمه الله-:
وكذا الجمعة، قال في (شرح المنتهى): ولا يمتنع ذلك في غير الجمعة، وقال في المبدع: الظاهر أن المخالفة فيه شُرعت لمعنى خاص فلا يلتحق به غيره. حاشية الروض المربع (2/ 503).