«لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، ولو صَلُحَ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأَمرتُ المرأةَ أنْ تَسجُدَ لزوجها؛ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عليها، والَّذي نَفسِي بِيَدِهِ، لو كان مِنْ قَدَمِهِ إلى مَفْرِقِ رأسه قَرْحَةً تَتَبَجَّسُ بالقَيْحِ والصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ ما أَدَّتْ حَقَّهُ».
رواه أحمد برقم: (12614)، من حديث طويل، والنسائي في الكبرى برقم: (9102)، مختصرًا، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7725)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1936).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«قَرْحَةً»:
بفتح القاف وسكون الراء، هي ألم الجرح، ثم استعملت في الجراح، والقروح الخارجة في الجسد، وفي كل ألم من شيء. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 177).
«تَتَبَجَّسُ»:
بموحدة، وتشديد جيم، وسين مهملة، أي: تتفجَّر. حاشية السندي على مسند أحمد (3/260).
يقال: بجس، انبجست: انفجرت. تحفة الأريب، لأبي حيان (ص72).
«بِالْقَيْحِ»:
الْمِدَّةُ الخالِصَةُ من غَيْرِ دَمٍ. المحيط في اللغة، للصاحب ابن عباد (1/ 234).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
القَيْحُ: الأبيضُ الخَاثِرُ الَّذي لا يُخَالِطُهُ دمٌ، وقَاحَ الجُرْحُ قَيْحًا مِن بابِ بَاعَ: سَالَ قَيْحُهُ، أو تَهَيَّأَ، ويَقُوحُ وأَقَاحَ بالألفِ لُغَتَانِ فيه، وقَيَّحَ بالتَّشْدِيدِ: صارَ فيه القَيْحُ. المصباح المنير (2/ 521).
«الصَّدِيدِ»:
القيح الذي كأنه ماء، وفيه شُكْلةٌ (حمرة تخلط البياض) دم. الألفاظ، لابن السكيت (ص: 77).
وقال الصاحب ابن عباد -رحمه الله-:
الصدِيْدُ: الدَّمُ المُخْتَلِطُ بالقَيْحِ. المحيط في اللغة (2/ 208).
شرح الحديث
قوله: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أصل السجود: الخضوع، وسميت هذه الأحوال سجودًا؛ لأنها تلازم الخضوع غالبًا، ثم قد صار في الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض على نحو مخصوص. المفهم (1/ 273).
وقال الجصاص -رحمه الله-:
السجود لغير الله تعالى على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر بن عبد الله وأنس. أحكام القرآن (1/ 37).
وقال الجويني -رحمه الله-:
فإن الأُمَّة أجمعت على أنَّ السجود لغير الله تعالى محرم. التلخيص (1/ 467).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات. مجموع الفتاوى (4/ 16).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
وأجمع المسلمون على: أن السجود لغير الله محرم. مجموع الفتاوى (4/ 358).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا:
احتجَّ بعضُ المُبطِلين في جواز السجود لغير الله من الملوك والشيوخ والوالدين بثلاث حجج:
أحدها: أنه سجودُ تحيةٍ وذلَّةٍ ومسكنةٍ، لا سجودُ عبادةٍ؛ ولهذا يسمُّونه تقبيلَ الأرض، فإن ذلك يُشترط له شروط الصلاة.
الثاني: أنه وإن كان في الصورة سجودًا للبشر، فهو في المعنى سجودٌ لله الذي خلقه وأحياه وأقامه، كما قد قيل في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} الشمس: 1: إنه قسم بربِّ الشمس، وهو بمنزلة السجود إلى الكعبة.
الثالث: أن العبد فقير يحتاج إلى الله، والكائنات قائمةٌ بالله، أو هي الله على زعم هذا المبطل، فإنه من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، فينبغي له أن يخضع لكلِّ شيء مستعينًا به مستمدًّا منه.
فانظر إلى هؤلاء الكفّار الضالين، بينما أحدهم يزعم أنه هو الله، وأنه ما ثَمَّ غيرُه، ويصعَدُ فوقَ الأنبياء والصديقين، إذ جعلَ يخضعُ لكلِّ موجودٍ من الكفار والمنافقين والكلاب والخنازير وغير ذلك، إذا صحَّح دليلَه وطَرَد علَّته، وإلّا بطلتْ، وتمسَّك بسجود الملائكة لآدم، ويعقوب وبنيه ليوسف، وزعمَ على زندقته أن الملائكة هي القوى الروحانية، وإبليس والشياطين هي الأحكام الطبيعية، والإنسان هو الجامع الذي سجدتْ له القوى جميعُها.
وبطلانُ هذا الكلام ظاهرٌ، بل كفرُ صاحبه ظاهر، فإن نصوص السنة وإجماع الأمة تُحرِّم السجودَ لغير الله في شريعتنا تحيةً أو عبادةً، كنهيه لمعاذ بن جبل أن يسجد لما قدمَ من الشام وسجدَ له سجود تحية، وأخبر بها عن رؤساء النصارى، وقوله: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها»؛ بل قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قيام أصحابه في الصلاة خلفَه، وقال: «لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا» رواه مسلم، ونهى عن الانحناء وقتَ التحية؛ لأنه ركوعٌ، وهو دون السجود، وأما تفريقه بينه وبين سجود الصلاة فلا يفيده؛ لأنَّ الجنس المأمور به يُشترط له شروط، وأما المنهي عنه فيُنْهَى عنه بكل حال، فإن عبادة الله وطاعته تُفعَل على وجه ... ألا ترى أنه يحرم السجود للشمس والقمر والطواغيت إلى الكعبة وغيرها بوضوءٍ وغير وضوءٍ؛ لأن النهي يعمُّ كلَّ ما يُسمَّى سجودًا، ثم السجود الواجب لله يشترط له شروط يكون بها أخصَّ، بل العبادة الواجبة لله يُشترط لها شروط شرعية، والعبادة لغيره محرَّمة على كلّ حال... وأما الثاني والثالث فهَذَيَان، بل كفر صريحٌ مخالفٌ للعقل والدين، وقصة آدم ويعقوب منسوخة بشرعنا، وتفسير الملائكة والشياطين بما ذكر قَرْمَطةٌ وزندقةٌ معروفة من الفلاسفة. جامع المسائل (8/ 24 - 26).
وقال إسماعيل حقي -رحمه الله-:
لا يجوز السجود لغير الله على وجه العبادة؛ لا في هذه الأُمَّة، ولا في الأمم السابقة، وإنما شاع بطريق التحية للمتقدمين، ثم أبطله الإسلام. روح البيان (8/ 59).
قوله: «ولو صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأمرت المرأة أَنْ تَسْجُدَ لزوجها؛ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا»:
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
«لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» ليس سجود عبادة، وإنما سجود تحية، وكذلك الزوجة لها حق على زوجها، وعليه أن يوفِّيَها حقها، بل ينبغي أن يوفي الزوج الحق الذي عليه أولًا، ثم يطالب بحقه ثانيًا. شرح بلوغ المرام (154/ 6).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وقد نهى الله عن السجود لمخلوق كالشمس والقمر، وأمر بالسجود لخالقها، وكذا المرأة لزوجها المخلوق، بل لخالقه. شرح سنن أبي داود (9/ 466).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أي: لكثرة حقوقه عليها، وعجزها عن القيام بشكرها، وفي هذا غاية المبالغة لوجوب إطاعة المرأة في حق زوجها، فإن السجدة لا تحل لغير الله. مرقاة المفاتيح (5/ 2125).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» لما له عليها من عظيم الحق الواجب القيام به. دليل الفالحين (3/ 113).
وقال السندي -رحمه الله-:
«لأمرت المرأة» إلخ، كناية عن تعظيم حق الزوج له. كفاية الحاجة (1/ 570).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»؛ لأنه أعظم الخلق عليها حقًّا، وفيه: عظمة حق الزوج على الزوجة. التنوير (9/ 172).
قوله: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لو كان مِنْ قَدَمِهِ إلى مَفْرِقِ رأسه قَرْحَةً تَتَبَجَّسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ ما أَدَّتْ حَقَّهُ»:
قال السندي -رحمه الله-:
«لو كان» أي: الزوج.
«إلى مِفرق رأسه» بفتح فسكون فكسر أي: وسط رأسه.
«قَرْحَة» بفتح قاف، وسكون راء: حبة تخرج في البدن، وهذا خبر «كان». حاشية السندي على مسند أحمد (3/260).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
القَرْحَة: واحدة القروح، وهي حبَّات تخرج في بدن الإنسان. فتح القريب المجيب (8/ 661).
وقال المنذري -رحمه الله-:
«تنبجس» أي: تتفجر وتنبع. الترغيب والترهيب (3/ 36).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
«القَيْحُ»: المِدَّةُ لا يخالطها دم. الصحاح (1/ 398).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
«والصديد» القيح المختلط بالدم. مطالع الأنوار (4/ 267).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ومقصود الحديث: الحث على عدم عصيان العشير، والتحذير من مخالفته، ووجوب شكر نعمته، وإذا كان هذا في حق مخلوق فما بالك بحق الخالق؟! فيض القدير (5/ 329).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولا يخفى ما في هذا التمثيل من بيان تأكد حق الزوج. التنوير (5/ 368).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فهذه أحاديث في أنه لو صلح السجود لبشر لأُمِرَتْ به الزوجة لزوجها يشهد بعضها لبعض، ويقوِّي بعضها بعضًا. نيل الأوطار (6/ 248).