«جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «يا رسول الله، أيُّ الصَّدقةِ أعظمُ أجرًا؟ قال: أنْ تَصَدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولا تُمْهِلُ حتى إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلانٍ».
رواه البخاري برقم: (1419) واللفظ له، ومسلم برقم: (1032)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«شحيحٌ»:
الشُّح: أشد البخل، وهو أبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البُخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور وآحادها، والشح عامٌّ، وقيل: البخل بالمال، والشح بالمال والمعروف. النهاية، لابن الأثير (2/ 448).
«وتأملُ»:
بضم الميم، أي: تطمع به. شرح مسلم، للنووي (7/ 123).
«ولا تُمْهِلُ»:
أي: لا تؤخر. النظم المستعذب، لبطال الركبي (2/ 98).
«الحُلْقُومَ»:
و«الحُلْقُوم» وهي الحُنجُور، وهو مَخْرَجُ النَّفَسِ، لا يجري فيه الطعام والشراب. تهذيب اللغة، للهروي (5/ 196).
شرح الحديث
قوله: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
لم أعرف اسمه، ويحتمل: أن يكون أبا ذرٍّ؛ لثبوت معنى ذلك من حديثه. فتح الباري (1/ 272).
وقال برهان الدين ابن العجمي -رحمه الله-:
قوله: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله...» لا أعرف هذا الرجل. تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم (ص: 193).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قيل: يحتمل أنه أبو ذرٍّ؛ لما في مسند أحمد. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 506).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الاحتمال فيه بُعْدٌ؛ لاختلاف الجوابين، فالظاهر: أن السائل هنا غير أبي ذرِّ -رضي الله عنه- والله تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 5).
قوله: «أي الصدقة أعظم أجرًا؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أي الصدقة» أي أنواعها «أعظم أجرًا؟» أي: أجزل ثوابًا، وأكمل مآبًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1321).
وقال العيني -رحمه الله-:
«أي الصدقة أعظم أجرًا؟»؛ فإذا كانت هذه الصدقة أعظم أجرًا كانت أفضل من غيرها. عمدة القاري (8/ 280).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
سأل عن عِظَمِ الأجر لا عن الكثرة في الصدقة؛ لأنه معلوم أنه كلما كان أكثر كان أعظم أجرًا. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 421).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وهذا يدلنا على حرص أصحاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- على معرفة الأعمال الفاضلة، وحرصهم على معرفة الأفضل، وهذا يدلنا على عنايتهم وحرصهم على معرفة ما هو خير، وما هو أفضل من غيره؛ ليأخذوا به، وليعملوا به -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-. شرح سنن أبي داود (337/ 3).
قوله: «أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أن تصَّدَّق» بتشديد الصاد، وأصله: تتصدق، فأُدْغِمت إحدى التاءين، قوله: «وأنت صحيح شحيح» في الوصايا: «وأنت صحيح حريص». فتح الباري (3/ 285).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «تصدق» بتخفيف الصاد وحذف إحدى التاءين، وفي بعضها بتشديدها بإدغام التاء فيها، والمتصدق هو الذي يعطي الصدقة. الكواكب الدراري(7/ 188).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وأنت صحيح» جملة اسمية وقعت حالًا، والمراد بالصحيح في هذا الحديث: من لم يدخل في مرض مخوف، كذا قيل، «شحيح» خبر بعد خبر، أي: من شأنه الشح للحاجة إلى المال. مرعاة المفاتيح (6/ 291).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والشح: المنع مطلقًا، يعم منع المال وغيره، وهو من أوصاف النفس المذمومة. المفهم (3/ 78).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
الشح: البخل مع الحرص، وقيل: أعم من البخل، وقيل: هو كوصف لازم من قبل الطبع. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (5/ 362).
وقال موسى شاهين لاشين -رحمه الله-:
والشح بخل مع حرص ...، والمراد من الصحة في «صحيح»: من لم يدخل في مرض مخوف، فيتصدق عند انقطاع أمله من الحياة، وليس القصد: أن الحرص أو الشُّحَّ سبب في أفضلية الإنفاق، فيكون ممدوحًا، ولكن أفضلية الإنفاق حينئذٍ لما فيه من مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام المانع وهو الصحة والشح أو الحرص. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 67).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
فأما قوله: «أن تصدق وأنت صحيح»؛ فإن المرض منذر بالموت، وقوله: «وأنت شحيح» يعني -صلى الله عليه وسلم-: أن كل نفس على الإطلاق لا يزايلها شُحٌّ، فإذا عصى شحه ذلك عُدَّ مجاهدًا لنفسه، وكان محسوبًا في جملة المجاهدين في سبيل الله. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 457).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أن تصدق وأنت صحيح» أي: في حال صحتك؛ لأن الرجل في حال الصحة يكون شحيحًا؛ أي: بخيلًا يخشى الفقر، تقول له نفسه: لا تتلف مالك؛ كي لا تصير فقيرًا، فتحتاج إلى الناس، بل اترك مالك في بيتك؛ لتكون غنيًّا، ويكون لك عزة عند الناس بسبب غناك؛ فإن الصدقة في هذه الحالة أفضل مراغمة للنفس. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 525).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: تصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك، وتشح نفسك بأن تقول: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا؛ فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1526).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
أي: صدقة أخرجها في زمان كمال حيويته، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 704).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
أي: لأن أكثر الأصِحَّاء يَشِحُّون ببعض ما في أيديهم من الفقر، ويأملون من الغنى. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 288).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وأنت صحيح شحيح» تأكيد للصحيح، والواو للحال؛ أي: في صحتك؛ لأن الرجل في حال الصحة يكون شحيحًا. شرح المصابيح (2/ 456).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
أي: مظنة أن تشح وتمنعك نفسك أن تبذل. لمعات التنقيح (4/ 325).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه دليل على أن بعض المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال لا تمحو عنه سمة البخل إذا كانت في حال مرضه، ولا تحوز له فضيلة الأجر؛ ولذلك شرط أن يكون المتصدق صحيح البدن، شحيحًا بالمال، يجد له وقعًا في قلبه وحزازة في نفسه؛ لما يأمله من طول العمر، ومخافة من حدوث الفقر. أعلام الحديث (1/ 757).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالًّا على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد: أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية -والله أعلم-. فتح الباري (3/ 285).
قوله: «تخشى الفقر، وَتَأْمُلُ الغنى»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«تخشى الفقر» أي: بصرف المال. مرعاة المفاتيح (6/ 291).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«الفقر» أي: إن أنفقت لوسوسة الشيطان بذلك، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} البقرة: 268، «وتأمُل» بضم الميم «الغنى» أي: تطمع به. دليل الفالحين (2/ 301).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«تخشى الفقر وتأمل الغنى» بضم الميم، أي: تطمع في الغنى؛ لمجاهدة النفس حينئذٍ على إخراج المال مع قيام المانع وهو الشح؛ إذ فيه دلالة على صحة القصد، وقوة الرغبة في القربة. إرشاد الساري (3/ 21).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
الذي أراه: أن الذي يأمل الغنى يكون أشد من الغني في الجمع والاحتشاد، فإذا عصى هواه، وجاهد شَرَهَهُ وحرصه، وتصدق به، كان له فيه فضل آخر -إن شاء الله-. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 457).
قوله: «ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولا تمهل» بالإسكان على أنه نهي، وبالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب. فتح الباري (5/ 374).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا تمهل» بالجزم على النهي، أو بالنصب عطفًا على «أن تصدق» أو بالرفع، وهو الذي في اليونينية «حتى إذا بلغت الروح»، أي: قاربت «الحلقوم» بضم الحاء المهملة، مجرى النفس عند الغرغرة. إرشاد الساري (3/ 21).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا تمهل» أي: ولا تؤخر الصدقة. شرح المصابيح (2/ 456، 457).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تمهل» أي: ولا تؤخر الصدقة، أو ولا تمهل نفسك. مرقاة المفاتيح (4/ 1321، 1322).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «إذا بلغت الحلقوم» يريد النفس، وإن لم يتقدم لها ذكر، ولكن معقولًا أنها هي المراد. أعلام الحديث (1/ 758).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «بلغت نفسه الحلقوم» مجاز وتقريب لخوف الموت، لا أنه على الحقيقة؛ إذ من بلغت نفسه الحلقوم لا يجوز له صدقة ولا وصية. إكمال المعلم (3/ 565).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «حتى إذا بلغت الحلقوم» أي: النفس، ولم يجر لها ذكر، لكن دل عليها الحال، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} الواقعة: 83، ومعناه: قاربت الحلقوم، فلو بلغته لم تأتِ منه وصية ولا غيرها، والحلقوم: الحلق. المفهم (3/78).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«حتى إذا بلغت الحلقوم»: أي: قاربت بلوغه؛ إذ لو بلغته حقيقة لم تصح حينئذٍ وصية ولا غيرها من التصرفات بالاتفاق، بل لا يتصور في مطرد العادة حينئذٍ، وهو حين الغرغرة ومعاينة الملائكة أن ينطق المحتضر أبدًا، ولا يلتفت إلى غير ما هو فيه من شأن الموت.
والضمير في قوله: «حتى إذا بلغت» عائد على الروح، وإن لم يجر لها ذكر بالصريح؛ لفهمها من السياق. مصابيح الجامع (3/ 360).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم» أي: ولا تؤخر الصدقة إلى أن بلغت الروح الحلقوم، يعني: إلى أن قربت من الموت، وتعلم مفارقتك من الدنيا. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 526).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: أفضل الصدقة أن تتصدق حال حياتك، وصحتك مع احتياجك إليه، واختصاصك به، لا في حال سقمك، وسياق موتك؛ لأن المال حينئذٍ خرج منك، وتعلق بغيرك. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1526).
قوله: «قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان» الاسمان الأولان كناية عن الموصَى له بالمال، والثالث كناية عن الوارث، يريد: أنه صار للوارث، فإنه إن شاء أبطله ولم يجزه. أعلام الحديث (1/ 757، 758).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي:
قوله: «وقد كان لفلان» قال الخطابي: مراد به: الوارث.
قلتُ: وفيه بعد، بل الأظهر أنه الموصَى له، ممن تقدمت وصيته له على تلك الحالة، ومن ينشئ له الوصية في تلك الحالة أيضًا. المفهم (3/ 79).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وقد كان لفلان» يعني: في هذه الحالة ثلثا مالك لورثتك، ولا يجوز تصرفك في هذه الحالة فيما زاد على ثلث مالك، وأنت تأمر في هذه الحالة بصرف جميع أموالك في الخيرات، فكيف تقبل صدقة من مال ليس لك فيه حكم، وهو ثلثا مالك. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 526).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «وقد كان لفلان»: يريد به: الوارث؛ لأنه لو شاء لم تجز الوصية، قاله الخطابي، يريد: «كان» بمعنى: صار، ولعله يريد: إذا جاوزت الثلث، أو كانت لوارث، وقيل: سبق القضاء به للموصَى له.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنه خرج عن تصرفه، وكمال ملكه، واستقلاله بما شاء من تصرفه، وليس له في الوصية كبير ثواب بالنسبة إلى صدقة الصحيح. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 289).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قلتَ» لورثتك: «لفلان كذا، ولفلان كذا» كناية عن الموصى له، «وقد كان لفلان» كناية عن الوارث؛ أي: والحال أن المال في تلك الحالة يكون متعلقًا لورثتك، لا يجوز تصرفك فيما زاد على ثلث مالك. شرح المصابيح (2/ 457).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا» كناية عن الموصَى له والموصى به فيهما، «وقد كان لفلان» أي: وصار ما أوصى به للوارث، فيبطله إن شاء إذا زاد على الثلث، أو أوصى به لوارث آخر، والمعنى: تصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك وشح نفسك، بأن تقول: لا تتلف مالك لئلا تصير فقيرًا، لا في حال سقمك وسياق موتك؛ لأن المال حينئذٍ خرج منك وتعلق بغيرك. إرشاد الساري (3/ 21).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«قلتَ» ليأسك حينئذٍ من خشية الفقر، ورجاء الغنى، وعلمك بأنك تؤخر المال لمن يحمدك، بل قد بلغتك الوصية «لفلان» بما هو «كذا و» أوصيتُ «لفلان» بما هو «كذا وقد كان» هذا «لفلان». فتح الإله في شرح المشكاة (6/326).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قلتَ» لورثتك: «لفلان» أي: لأجل فلان، وهو كناية عن الموصى له «كذا»؛ إشارة إلى الموصى به، «ولفلان» أي: لغيره «كذا»، أي: من المال بالوصية، والتكرير يفيد التكثير، والجملة مبتدأ وخبر...
والمعنى: أنك حينئذٍ تصرف المال إلى الخيرات، «وقد كان لفلان» قيل: جملة حالية، أي: وقد صار المال الذي تتصرف فيه في هذه الحالة ثلثاه حقًّا للوارث وأنت تتصدق بجميعه، فكيف يقبل منك؟... ويمكن أن يقال: معناه و«كان» أي: عندكم «لفلان» كذا من المال؛ فيكون الذم على الإمهال إلى تلك الحال، فإن فعل الخير في حال الصحة عمل أرباب الكمال، ورد الحقوق لا ينبغي فيه الإهمال؛ لأن الخطر كثير في المال، ويدل عليه صدر هذا الحديث. مرقاة المفاتيح (4/ 1321، 1322).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «قلتَ: لفلان كذا» هذا على سبيل التمثيل، فقيل: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث؛ لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، يعني: بخل حتى أشرف على الموت ثم طفق يتصدق مما تعلق به حق الوارث وهو باطل، ويحتمل أن يكون المراد بالجميع: الموصى له، وإنما أدخل «كان» في الثالث إشارة إلى تقدير المقدر له. لمعات التنقيح (4/ 325).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«قلتَ» ليأسك من الحياة أوصيتُ «لفلان» بما هو «كذا و» أوصيتُ «لفلان» بما هو «كذا، وقد كان لفلان كذا»، الظاهر: أن هذا من باب الإقرار لا الوصية. دليل الفالحين (2/ 302).
وقال موسى شاهين لاشين -رحمه الله-:
يحتمل أن يكون بعضها وصية، وبعضها إقرارًا، أي: أوصي لفلان من الأقارب غير الورثة بكذا، وأقر أن لفلان عندي كذا، وقد آل الأمر في المال للورثة، إن أجازوه نفذ وإلا فلا. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 67).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وحاصل معنى الحديث: أن أفضل الصدقة أن تتصدق في حال حياتك، وصحتك، مع احتياجك إلى المال، واختصاصه بك، وشح نفسك به بأن تقول لك: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا، لا في حال سقمك، وسياق موتك؛ لأن المال حينئذٍ خرج عنك، وتعلق بغيرك، يعني: أن أعظم الصدقة أجرًا أن تصدق حال حاجتك، فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس؛ لأن فيه مجاهدة النفس على إخراج المال الذي هو شقيق الروح مع قيام مانع الشح، وليس هذا إلا من قوة الرغبة في القربة إلى الله -عز وجل-، وصحة العقد، فكان أفضل، وأعظم أجرًا من غيره. البحر المحيط الثجاج (19/ 567).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه: أن أعمال البر كلما صعُبت كان أجرها أعظم؛ لأن الصحيح الشحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النفقة، وسوَّل له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه، والجور في فعله. شرح صحيح البخاري (3/ 417).
وقال الشيخ موسى شاهين لاشين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الحديث:
1 - حرص الصحابة على التسابق في الخيرات، والمسارعة إلى الأفضل من الطاعات.
2 - التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادًا لحلول الأجل، واشتغالًا بطول الأمل.
3 - الترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية، وفوات الأمنية.
4 - أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه وصمة البخل والشح التي لحقته في صحته. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/ 68).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)