الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«لا صلاةَ بحضرةِ الطعامِ، ولا هو يُدافعُهُ ‌الأخبثانِ».


رواه مسلم برقم: (560)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يُدَافِعُهُ»:
أي: يُطَالبه، ويدفع حضور صلاته. مرقاة المفاتيح (3/ 835).

«‌الأَخْبَثَان»:
يعني: البول والغائط. التمهيد، لابن عبد البر (5/ 378).


شرح الحديث


قوله: «لا صلاة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: كاملة. مرقاة المفاتيح (3/ 835).
وقال الشيخ البسام -رحمه الله-:
وذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة مع كراهتها على هذه الحال، وقالوا: إنَّ نفي الصلاة في هذا الحديث نَفيٌ لكمالها، لا لصحتها. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص:96).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ظاهر هذا نفي الصحة والإجزاء، وإليه ذهب أهل الظاهر في الطعام، فتأوَّل بعض أصحابنا (المالكية) حديث مدافعة الأخبثين على أنه شَغَلَهُ حتى لا يدري كيف صلّى، فهو الذي يعيد قبل وبعد، وأما إن شَغَلَهُ شغلًا لا يمنعه من إقامة حدودها، وصلّى ضَامًّا ما بين وَركَيه فهذا يعيد في الوقت، وهو ظاهر قول مالك في هذا، وذهب الشافعي والحنفي في مثل هذا إلى أنه لا إعادة عليه. المفهم (2/ 165).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وكلهم مجمِعُون أنَّ مَن بلغ به ما لا يعقل به صلاته، ولا يضبط حدودها أنه لا تجزئه، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها. إكمال المعلم (2/ 495).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
المراد منه: نفي فضيلة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد المصلي أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب. شرح المصابيح (2/ 94).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لا صلاة» أي: فاضلة كاملة، ونفى أهل الظاهر صحتها. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 565).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«لا صلاة» أي: كاملة، بل مكروهة. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/ 44).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وهذا الحديث عام في كل صلاة، ومنعها مع حضور الطعام، ومدافعة الأخبثين؛ لأن (لا) لنفي الجنس مع النَّكِرة تَعُمُّ، و(صلاة) نكرة مع (لا) فكان ذلك عامًّا في كل صلاة. العدة في شرح العمدة (1/ 316).
وقال النووي -رحمه الله-:
وهذا النهي للتنزيه، فتُكره الصلاة في هذين الحالين، ولا تحرم وتبطل، وإن انتهى به ذلك إلى ما انتهى، وقال بعض أصحاب الشافعي: إن انتهى إلى ذهاب خشوعه لم تصح صلاته، والمشهور الأول، وبه قال جماهير العلماء.
الإيجاز في شرح سنن أبي داود (ص:368).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
والمشهور ‌مِن ‌مذهبنا ‌ومذاهب ‌العلماء ‌صحة صلاته مع الكراهة، وحكى القاضي عياض عن أَهل الظاهر بطلانها، والله أعلم.المجموع، شرح المهذب(4/١٠٦).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
والنفي هنا بمعنى النهي للتنزيه عند الجمهور، وللتحريم عند الظاهرية وابن حزم وأبي ثور وجماعة، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قُدِّمت. المنهل العذب المورود (1/ 296).

قوله: «بحضرة الطعام»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بحضرة الطعام» وفي نسخة: «بحضرة طعام» أي: بحضور طعام يريد أكله. مرقاة المفاتيح (3/ 835).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله: «بحضرة الطعام» هو بفتح الحاء وإسكان الضاد وفتحها، فإنْ حُذفت الهاء قيل: (بِحَضَر) بفتح الحاء والضاد ... والمراد بالطعام ما يريد أكله في الحال، ولا يمنعه منه إلا الصلاة، فأما ما لا يريد أكله في الحال كالصائم والشبعان ومن ينتظر غائبًا يَعْلَم أنه لا يحضر إلا بعد فراغه من الصلاة ونحو ذلك، فلا منع من الصلاة في حقه ولا كراهة، ولو ضاق الوقت بحيث لو توضأ أو أكل خرج الوقت، فالمشهور أنه يصلي في الوقت على حاله، وقيل: يؤخرها حتى يتوضأ ويأكل ثم يقضيها بعد الوقت. الإيجاز في شرح سنن أبي داود (ص:368- 373).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
فأما أهل القياس والنظر، ففهموا المعنى في الحديث: في تقدُّم الطعام على الصلاة؛ لعدم التشويش بالتشوُّف إلى الطعام؛ لتنبيهه -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الرواية المفسِّرة: «وأحدكم صائم»؛ فإنه مؤدٍ إلى عدم الحضور في الصلاة.
لكن هل يقتصر على ما يَكْسِرُ سَوْرَةَ الجوع، أو يأكل ما يشبعه؛ بحيث لا يؤدي إلى خروج الصلاة عن وقتها، ولا يذهب حضوره فيها؟
نُقل عن الإمام مالك -رحمه الله-: البداءة بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا خفيفًا، واستدل بالحديث المفسر، وعلى أن وقت المغرب فيه توسعة.
لكن إن أراد التوسعة بالنسبة إلى الطعام للصائم، فمقبول، وإن أراد التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر بالنسبة إلى من يقول بضيق وقتها، وتقديره بزمان معيَّن يدخل فيه ما يَكْسِرُ سَوْرَةَ الجوع بِلُقَيْمَات.
وأما الظاهرية فقالوا بتقديم الطعام على الصلاة مطلقًا، وزاد بعضهم، فقال: وإن صلى فصلاته باطلة، والله أعلم...
وقد يمنع أصحاب المعاني في هذا الحديث الحكم بتأخير الصلاة بمجرد حضور الطعام، بل يقولون: لا يدفع حضوره التشوُّف إليه.
قال شيخنا أبو الفتح القاضي -رحمه الله-: والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر؛ فإما أن يكون متيسِّر الحضور عن قُرب حتى يكون كالحاضر، أو لا.
فإن كان الأول فلا يبعد أن يكون كالحاضر، وإن كان الثاني -وهو ما يتراخى حضوره- فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإن حضور الطعام يوجِب زيادة تشوُّف، وتَطَلُّع إليه.
وهذه الزيادة يمكن أن تكون اعتبرها الشارع في تقديم الطعام على الصلاة، فلا ينبغي أن يلحق بها ما لا يساويها؛ للقاعدة الأصولية: إن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرًا لم يُلْغَ، هذا آخر كلامه، وهو نفيس، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (1/ 317).
وقال العيني -رحمه الله-:
أي: لا يصلي الرجل والطعامُ قد حضر؛ وذلك لتأخذ النفس حاجتها منه، فَيَفِي بحقوق الصلاة، وهذا ما لم يكن في ضيق من الوقت، ثم هذا اللفظ بعمومه يتناول سائر الصلوات، ويشمل سائر أنواع الأطعمة. شرح سنن أبي داود (1/ 247).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يُحمل ‌هذا على ما إذا كان متماسكًا في نفسه لا يزعجه الجوع، أو كان الوقت ضِيْقًا يخاف فَوْتُه؛ توفيقًا بين هذا وبين قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا وُضِعَ عَشَاءُ أحدكم...الحديث». شرح المصابيح (2/ 101).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ولفظ «صلاة» نكرة في سياق النفي ولا شك أنها من صيغ العموم، ولإطلاق الطعام وعدم تقييده بالعَشاء، فذِكْرُ المغرب من التنصيص على بعض أفراد العام وليس بتخصيص، على أن العلة التي ذكرها شُرَّاح الحديث للأمر بتقديم العَشاء كالنووي وغيره مقتضية لعدم الاختصاص ببعض الصلوات؛ فإنهم قالوا: إنها اشتغال القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع في الصلاة عند حضوره، والصلوات متساوية الأقدام في هذا، وظاهر الأحاديث: أنه يقدّم العَشاء مطلقًا سواء كان محتاجًا إليه أم لا، وسواء كان خفيفًا أم لا، وسواء خشي فساد الطعام أو لا، وخالَف الغزالي فقال: قَيْدُ خشية فساد الطعام، والشافعية فزادوا قَيْد الاحتياج، ومالك فزاد قَيْد أن يكون الطعام خفيفًا.
وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الأحاديث ابن حزم والظاهرية، ورواه الترمذي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأحمد وإسحاق، ورواه العراقي عن الثوري فقال: يجب تقديم الطعام، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قُدِّمت، وذهب الجمهور إلى الكراهة، وظاهر الأحاديث أيضًا أنه يُقدّم الطعام وإن خشي خروج الوقت وإليه ذهب ابن حزم، وذكره أبو سعيد المتولي وجهًا لبعض الشافعية، ذهب الجمهور إلى أنه إذا ضاق الوقت صلى على حاله؛ محافظة على الوقت ولا يجوز تأخيرها، قالوا: لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا تفوتُه لأجله، وظاهر قوله: «ولا تعجل حتى تفرغ»: أنه يستوفي حاجته من الطعام بكمالها، وهو يَرُدُّ ما ذكره بعض الشافعية من أنه يقتصر على تناول لُقْمَاتٍ يكسر بها سَوْرَةَ الجوع، قال النووي: وهذا الحديث صريح في إبطاله. نيل الأوطار (2/ 9).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«لا صلاة بحضرة الطعام» أي: طعام تميل نفس مريد الصلاة إليه، أي: لا يَشْرَعُ أحدكم في صلاة ولو فرضًا عند حضور أي طعام تتعلَّق به النفس إلا بعد الأكل وأَخْذِ النَّفْس حاجتها من الطعام ... والطعام المتيسَّر حضوره عن قرب كالحاضر، وهذا ما لم يضق الوقت بحيث يخاف خروج وقت الصلاة، وإلا صلى وجوبًا ولا يؤخرها؛ محافظة على حرمة الوقت، هذا ما ذهب إليه الجمهور؛ لما جاء عن جابر أن النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- قال: «لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا لغيره» رواه البغوي في (شرح السنة). المنهل العذب المورود (1/ 296).

قوله: «ولا هو يدافعه ‌الأخبثان»:
قال العيني -رحمه الله-:
أي: ولا يصلي والحال أنه يدافعه الأخبثان، وهما البول والغائط؛ وذلك لعدم التفرغ إلى العبادة بقلب فارغ.
وقوله: «وهو» مبتدأ، و«يدافعه الأخبثان» خبره، والجملة محلُّها النصب على الحال، وارتفاع الأخبثين على أنه فاعل «يدافعه»، وإنما ذكر المدافعة من باب المفاعلة الذي هو لمشاركة اثنين فصاعدًا؛ لأن كل واحد من المصلي والأخبثين كأنه يدافع الآخر، فَدَفْعُ المصلي بِحَبْسِهِ إياه، ومنعه من الخروج، ودَفْعُ الأخبثين بطلب الخروج. شرح سنن أبي داود (1/ 247).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا هو» أي: مريد الصلاة «يدافعه» أي: يطالبه ويدفع حضور صلاته «الأخبثان» أي: البول والغائط، وفي معناه الريح والقيء والمذي، وقيل: «هو» عائد إلى الشخص، مبتدأ محذوف الخبر، و«يدافعه» حال تقديره: ولا الشخص مصلٍّ صلاة كاملة حال مدافعة الأخبثين، وفي بعض النُّسخ: «ولا هو يدافعه» فالواو: للحال من مقدَّر تقديره: ولا صلاة كاملة حاصلة والشخص يدافعه الأخبثان، أي: مقارنة لمدافعة الأخبثين، ويمكن حمل «ولا هو يدافعه الأخبثان» على هذا الوجه، والجملة وقعت حالًا بلا واو. مرقاة المفاتيح (3/ 835).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقد جعل بعضهم مدافعة الأخبثين ناقضًا للطهارة، أو قائمًا مقام الناقض؛ لخروج الخبث عن محلِّه ومقرّه، فيجعله مانعًا للدخول في الصلاة، وهذا بعيد؛ لأنه إحداث سبب في نواقض الوضوء من غير دليل لم يذكرهُ أحدٌ من العلماء، وليس في الحديث صراحة به، وإن كان فيه مناسبة، لكنها لا تثبت بها الأحكام، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (1/ 318).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
أي: ولا تُصلى صلاة والحال أن مريدها يدافعه الأخبثان البول والغائط، وفي معناهما القيء والريح، فـ«لا» داخلة على محذوف والواو للحال، والمدافعة إما على حقيقتها؛ لأنهما يدافعانه بطلب خروجهما وهو يدافعهما بمنعهما من الخروج، وإما بمعنى الدفع مبالغة، وما قيل من أن في هذا تقديم حق العبد على حق الله تعالى مردود بأنه ليس كذلك، وإنما فيه صيانة حق الله؛ ليدخل العبد في العبادة بقلب خاشع غير مشغول. المنهل العذب المورود (1/ 297).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
(شف) (أي: قال الأشرف القنازعي في شرح المصابيح): هذا ‌التركيب ‌لا ‌أحققه. وأقول: يمكن أن يقال: إنَّ «لا» الأُولى لنفي الجنس، و«بحضرة طعام» خبرها، و«لا» الثانية زائدة للتأكيد، عطفت الجملة على الجملة.
وقوله: «هو» مبتدأ، و«يدافعه» خبر، وفيه حذف، تقديره: ولا صلاة حين هو يدافعه الأخبثان فيها، يعني الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدي الصلاة، والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، ويجوز أن يحمل المدافعة على الدفع مبالغة، ويجوز أن يحذف اسم «لا» الثانية وخبرها.
وقوله: «هو يدافعه» حال، أي: ولا صلاة للمصلي وهو يدافعه الأخبثان، ويؤيده رواية النهاية: «لا يصلي الرجل وهو يدافع الأخبثين»، ويجوز مثل هذا الحذف. شرح المشكاة للطيبي (4/ 1129).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
المرء ‌مزجور ‌عن ‌الصلاة ‌عند ‌وجود ‌البول ‌والغائط، والعلة المضمرة في هذا الزَّجر هي: أن يستعجله أحدهما حتى لا يتهيأ له أداء الصلاة على حسب ما يجب من أجله، والدليل على هذا: تصريح الخطاب: «ولا وهو يدافعه الأخبثان»، ولم يقل: ولا هو يجد الأخبثين، والجمع بين الأخبثين قُصد به وجودهما معًا، وانفراد كل واحد منهما لا اجتماعهما دون الانفراد. التقاسيم والأنواع (3/ 280).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
إنما أَمَرَ -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ بالطعام لتأخذ النفس حاجتها منه، فيدخل المصلي في صلاته وهو ساكن الجأش، لا تنازعه نفسه شهوة الطعام، فيُعجِّله ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها، وكذلك إذا دافعه البول، فإنه يصنع به نحوًا من هذا الصنيع، وهذا إذا كان في الوقت فضلٌ يتَّسِعُ لذلك، فأما إذا لم يكن فيه مُتَّسَع له ابتدأ الصلاة ولم يعرج على شيء سواها. معالم السنن (1/ 45).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد أجمعوا أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته ولم يترك من فرائضها شيئًا أن صلاته مجزية عنه، وكذلك إذا صلى حاقنًا فأكمل صلاته، وفي هذا دليل على أن الصلاة بحضرة الطعام إنما هو لئلا يشتغل قلب المصلي بالطعام فيسهو عن صلاته، ولا يُقِيْمَها بما يجب عليه فيها، وكذلك الحاقن وإن كنا نكره لكل حاقن أن يبدأ بصلاته في حالته، فإن فعل وسَلِمَت صلاته أجْزَتْ عنه، وبئس ما صنع، والمرء أعلم بنفسه، فليست أحوال الناس في ذلك سواء، ولا الشيخ في ذلك كالشاب، والله أعلم.
وقد رُوي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث لا حجة فيه؛ لضعف إسناده، منهم من يجعله عن أبي هريرة، ومنهم من يجعله عن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدًّا»، وقد ذكرناه بإسناده في (التمهيد)، وروي عن عمر فيه كراهية، وعن علي مثل ذلك، وعن ابن عباس أنه قال: "لأنْ أصلي وهو في ناحية من ثوبي أحب إلي من أن أصلي وأنا أدافعه"، وعن عبد الله بن عمر مثله، وعن سعيد بن جبير معناه، وعن نافع مولى ابن عمر كراهيته، وعن عكرمة مثله، كل هؤلاء يكرهون للحاقن الصلاة، وروي عن المسور بن مخرمة فيه رخصة، وعن طاوس أنه قال: إنا لَنَصُرُّه صرًّا ونضغطه ضغطًا، وعن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس به ما لم يعجله عن الركوع والسجود، وعن أبي جعفر محمد بن علي وعطاء بن رباح والشعبي أنهم قالوا: لا بأس أن يصلي وهو حاقن، وذكر أبو بكر قال: حدثنا أبو معاوية عن واصل قال: قلتُ لعطاء: أَجِدُ العَصْرَ من البول وتحضر الصلاة أَفَأُصَلِّي وأنا أجده؟ قال: نعم إذا كنتَ ترى أنك تحبسه حتى تصلي. الاستذكار (2/ 297).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
الفقه في خمس مسائل:
المسألة الأولى: أجمع العلماء على أنه لا ينبغي لأحد أن يصلي وهو حاقن، إذا كان حقنه ذلك يشغله عن الصلاة، أو عن إكمال الصلاة.
المسألة الثانية: قال مالك: إذا كان الرجل حاقنًا كان إمامًا أو مأمومًا فإنه ينصرف، وإن لم ينصرف وتمادى في الصلاة، فإن عليه الإعادة.
وقال مالك في (المجموعة) لابن عبدوس: أحب إليّ أن يعيد في الوقت وبعده.
قال الإمام (سليمان الباجي في المنتقى): ووجه ذلك: أنه مأمور بتقديم الغائط لمعنى التفرغ.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إنْ فَعَلَ فبئس ما صنع، ولا إعادة عليه.
والدليل على ما نقوله: الحديث المذكور؛ أنه أمر بتقديم الحاجة، وفيه النهي عن تقديم الصلاة، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فوجب أن يكون مفسدًا لها.
المسألة الثالثة: قال علماؤنا: إن ما يجده الإنسان من ذلك على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون خفيفًا، فهذا يصلي ولا يقطع.
والثاني: أن يكون ضامًّا بين وركيه، فهذا يقطع، فإن تمادى صحت صلاته، ويستحب له أن يعيد في الوقت.
والثالث: أن يشغله ويعجله عن استيفائها، فهذا يقطع، فإن تمادى أعاد أبدًا.
المسألة الرابعة: قال ابن القاسم: والقرقرة في البطن بمنزلة الحقن، وأما الغثيان: فلم يجب عنه.
وعندي: ألا تُقطع له الصلاة، والفرق بينه وبين الحقن: أن الحقن يقدر على إزالته، والغثيان لا يقدر على إزالته، فلا معنى لقطع الصلاة من أجله.
المسألة الخامسة: روى ابن نافع عن مالك: أنه من أصاب ذلك في صلاته، خرج واضعًا يده على أنفه كالراعف، ومعنى ذلك: أنه قد يمنعه خجله من الخروج على ذلك من التمادي على الصلاة، فإذا خرج على صفة الراعف، سهل عليه وبادر إلى الخروج، والله أعلم. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 127).
وقال المازري -رحمه الله-:
قوله هاهنا: «بحضرة الطعام» نحو قوله أيضًا: «إذا قُرِّبَ العَشَاء وحضرت الصلاة فابدؤوا به قبل أن تصلّوا صلاة المغرب» معناه: أن به من الشهوة إلى الطعام ما يشغله عن صلاته فصار ذلك بمنزلة الحقن الذي أمره بإزالته قبل الصلاة. المعلم بفوائد مسلم (1/ 418).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قد وقع في هذا الحديث نفسه في غير كتاب "مسلم" في رواية موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن الزهري زيادة حسنة تُفسِّر المعنى، وقد أخرج مسلم الحديث عن ابن وهب عن عمرو عن الزهري ولم يذكر فيه هذه الزيادة.
قال الدارقطني: روى هذا الحديث عن عمرو بن الحارث ثقتان حافظان: ابن وهب، وموسى بن أعين، ولموسى فيه زيادة حسنة، فأخرج مسلم الحديث الناقص وترك التام، إلا أن يكون لم يبلغه وهو قوله: «إذا وُضِعَ العَشَاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تُصلُّوا».
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فذهب الشافعي إلى ما تقدم من معناه، وذكر نحوه ابن حبيب، وحكى ابن المنذر عن مالك: أنه يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعامًا خفيفًا، وذهب الثوري وإسحاق وأحمد، وأهل الظاهر إلى الأخذ بظاهر الحديث وتقديم الطعام، وروى مثله عن عمر بن الخطاب وابنه، زاد أهل الظاهر: فإن صلى فصلاته باطلة.
في الحديث حُجَّة على توسعة وقت المغرب.
وفيه حُجَّة أن صلاة الجماعة ليست بفرض على الأعيان في كل حال؛ لقوله: «وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشَاء»، ومنعه عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان -يعنى البول والغائط- مثل النهي عن صلاة الحاقن؛ وذلك لشغله بها.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وغيره إلى أن ذلك مؤثِّر في الصلاة بشرط شغله عنها، واستحب الإعادة في الوقت وبعده في ذلك، قال: والذي يعجِّل صلاته من أجله هو الذي يشغله، وتأوَّله بعض أصحابنا على أنه إنْ شَغَلَه حتى لا يدري كيف صلى فهو الذى يعيد قبل وبعد، وأما إنْ شَغَلَه شغلًا لم يمنعه من إقامة حدودها وصلى ضامًّا بين وركيه فهذا يعيد في الوقت، وذهب الشافعي والحنفي في مثل هذا إلى أنه لا إعادة عليه، وظاهر قول مالك في هذا استحباب الإعادة، وكلهم مجمعون أن مَن بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها أنه لا تجزئه، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها. إكمال المعلم (2/ 493).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب به وذهاب كمال الخشوع، وكراهتها مع مدافعة الأخبثين وهما البول والغائط، ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب ويُذهب كمال الخشوع، وهذه الكراهة عند جمهور أصحابنا وغيرهم إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة، فإذا ضاق بحيث لو أكل أو تطهَّر خرج وقت الصلاة صلى على حاله؛ محافظة على حرمة الوقت ولا يجوز تأخيرها، وحكى أبو سعد المتولي من أصحابنا (الشافعية) وجهًا لبعض أصحابنا: أنه لا يصلي بحاله، بل يأكل ويتوضأ وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته، وإذا صلى على حاله وفي الوقت سعة فقد ارتكب المكروه وصلاته صحيحة عندنا وعند الجمهور، لكن يستحب إعادتها ولا يجب، ونَقَل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنها باطلة. شرح مسلم (5/ 46).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله- معلقًا:
هذا الحديث أَدْخَلُ في العموم من الحديث الأول، أعني بالنسبة إلى لفظ «الصلاة» والنظر إلى المعنى يقتضي التعميم، وهو الأليق بمذهب الظاهرية، وقد قدمنا ما يتعلق بحضور الطعام.
«والأخبثان» الغائط والبول، وقد ورد مصرحًا به في بعض الأحاديث.
و«مدافعة الأخبثين» إما أن تؤدي إلى الإخلال بركن، أو شرط، أو لا، فإنْ أدى إلى ذلك امتنع دخول الصلاة معه، وإن دخل واختلَّ الركن أو الشرط فسدت بذلك الاختلال، وإن لم يؤدِّ إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة، ونُقل عن مالك: أن ذلك مُؤَثِّر في الصلاة بشرط شغله عنه، وقال: يعيد في الوقت وبعده، وتأوَّله بعض أصحابه على أنه إنْ شَغَلَه حتى إنه لا يدري كيف صلى، فهو الذي يُعيد قبل وبعد، وأما إن شَغَلَهُ شغلًا خفيفًا لم يمنعه من إقامة حدودها، وصلى ضامًّا بين وركيه، فهو الذي يعيد في الوقت... وكلام القاضي عياض: فيه بعض إجمال.
والتحقيق: ما أشرنا إليه أولًا: أنه إن مَنَعَ مِن ركن أو شرط: امتنَع الدخول في الصلاة معه، وفسَدت الصلاة باختلال الركن والشرط، وإن لم يَمْنَع من ذلك فهو مكروه، إن نظر إلى المعنى، أو ممتنع إن نظر إلى ظاهر النهي، ولا يقتضي ذلك الإعادة على مذهب الشافعي.
وأما ما ذكر من التأويل أنه لا يدري كيف صلى، أو ما قال القاضي عياض: إنَّ مَن بلغ به ما لا يعقل صلاته، فإن أريد بذلك: الشك في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب، وهو البناء على اليقين، وإن أريد به: أنه يُذهب الخشوع بالكلية فحكمه حكم من صلى بغير خشوع.
ومذهب جمهور الأُمَّة: أن ذلك لا يُبطل الصلاة، وقول القاضي: ولا يَضْبِطُ حدودَها، إن أريد به: أنه لا يفعلها كما وجب عليه فهو ما ذكرناه مبيَّنًا.
وإن أريد به: أنه لا يستحضرها، فإنْ أَوْقَعَ ذلك شكًّا في فعلها، فحُكمه حكم الشاك في الإتيان بالركن، أو الإخلال بالشرط من غير هذه الجهة، وإنْ أُريد به غير ذلك من ذهاب الخشوع: فقد بيناه أيضًا.
وهذا الذي ذكرناه: إنما هو بالنسبة إلى إعادة الصلاة، وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها فقد يقال: إنه لا يجوز له أن يدخل في صلاة لا يتمكن فيها من تذكُّر إقامة أركانها وشرائطها، وأما ما أشار إليه بعضهم من امتناع الصلاة مع مدافعة الأخبثين؛ من جهة أن خروج النجاسة عن مقرها يجعلها كالبارزة، ويوجب انتقاض الطهارة، وتحريم الدخول في الصلاة، من غير التأويل الذي قدمناه: فهو عندي بعيد؛ لأنه إحداثُ سبب آخر في انتقاض الطهارة من غير دليل، صريح فيه، فإنْ أسنده إلى هذا الحديث فليس بصريح في أن السبب ما ذكره، وإنما غايته: أنه مناسب أو محتمل، والله أعلم. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 179).
وقال ابن العطار -رحمه الله-: 
وأما أحكامه (أي الحديث):
ففيه: دليل على أن شهود الصلاة في الجماعة ليس بواجب؛ لأن النداء بالإقامة إذا سمعه وهو في بيته وقد حضر طعامه لم يُجِبْهُ، وبدأ به، وإن فاتته الصلاة في الجماعة.
وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن الجماعة لا يسقط أصل وجوبها به، لكن حضور الطعام عُذر في تركها، ووجود العذر رخصة في ترك الواجب، لا أنه يرفعه بمعنى عدم تعلق الخطاب به.
وفيه: دليل على أنه يبدأ بالأكل، ويأكل حاجته بكاملها بحيث يسمى عَشَاء، ويؤيد ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية في صحيح مسلم: «فابدؤوا بالعَشَاء، ولا تَعْجَلَنَّ حتى تفرغ منه»، وهذا يضعف تأويل من تأوَّله على أكل ما يكسر سَوْرة الجوع، ويبطله؛ لكن شرطه: ألا تخرج الصلاة عن وقتها، وتصير قضاء، هذا هو المذهب الصحيح عند الشافعي، وجمهور أصحابه، وغيرهم.
وحكى أبو سعيد المتولي من أصحاب الشافعي وجهًا لبعض الأصحاب: أنه لا يصلي، بل يأكل، ويتوضأ، وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع، فلا يفوته، وهو ضعيف؛ لما يلزم منه مِن ترْكِ واجبٍ لأجل المحافظة على فعل مندوب.
مع أن العلماء من أصحاب الشافعي، وغيرهم قالوا: وإنْ ترك الطعام وصلى على حاله وفي الوقت سعة فصلاته صحيحة، وكان فعلها مكروهًا، ويستحب له إعادتها.
وفيه: دليل على أنه ينبغي ألا يدخل في الصلاة إلا وقلبه فارغ من كل ما يشغله، ويُذهب خشوعه؛ لأنه إذا نهي عنها لأمرٍ لازم ليس وجوده بتعاطيه فغيره مما يتعاطاه أولى.
وفيه: دليل على فضيلة هذه الأُمَّة، وما منحها الله تعالى من مراعاة حظوظ البشرية، وتقديمها على الفضائل الشرعية، ووضع الشديدات عنها، وتوفير ثوابها على ذلك، خصوصًا إذا قَصَدَهُ للمتابعة؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (1/ 316).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا حضر الطعام وهو جائع، أو غلب عليه الأخبثان لا يصلي -لا منفردًا ولا بالجماعة- حتى يزيل عن نفسه الجوع والأخبثين، فإنْ صلَّى كُرِهَ وأجزأته صلاته، والنفي ههنا بمعنى نفي الكمال. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 217).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح، وقد تُشغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما؛ لقوة حاجته العاجلة إليه، كالجائع الشديد الجوع، فإنَّ أَلَمَهُ بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «‌لا ‌يُصلِّين ‌أحدكم ‌بحضرة ‌طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين». درء تعارض العقل والنقل (6/ 73).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
واختلف العلماء فيمن صلى وهو حقِن:
فقال الشافعي وأبو حنيفة وعبيد الله بن الحسن: تُكره صلاته وهي جائزة مع ذلك إن لم يترك شيئًا من فرضها.
وقال ابن القاسم عن مالك: إذا شَغَله ذلك فصلى كذلك فإني أحب أن يعيد في الوقت وبعده.
وقال الثوري: إذا خاف أن يسبقه البول قدَّم رَجُلًا وانصرف.
وقال الطحاوي: لا يختلفون أنّه لو شُغل قلبه بشيء من أمر الدنيا لم يستحب له الإعادة، كذلك إذا شغله البول. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (3/ 285).
وسئل ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
عن ‌مدافعة الحدث إذا خيف معها فوات الصلاة المسنونة كالرواتب أو فوت الجماعة ما الذي يقدِّمه؟ وهل يفرِّق بين ما إذا رجا قضاءها أو لا، وبين موضع يقِلُّ فيه الماء أو لا؟
فأجاب -نفع الله به- بقوله: متى خاف من المدافعة ضررًا شديدًا فهي عذر في إخراج النافلة بل والفريضة عن وقتها، فإذا لم يكن بقي من وقتها إلا ما يسعها وهو متوضئ لكنه خشي مِن حَبْسِ نحوِ ريحٍ دافعه ضررًا قدَّم تفريغ نفسه وإن خرج الوقت؛ خشية من الضرر الذي يلحقه، وإن لم يخف منه ضررًا فالأَوْلَى له تفريغ نفسه، وإن خشي فوت الجماعة خروجًا من خلاف مَن أبطل الصلاة مع ‌مدافعة الحدث، وإذا قدَّم تفريغ النفس على الجماعة مع كونها فرضًا فأَوْلَى أن يقدِّمه على النافلة، وإن خشي خروج وقتها سواء أَرَجَا قضاءها أم لا، سواء أكان في موضع يَقِلُّ فيه الماء أم لا. الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 212).
قال الحلبي في شرح "المنية":
ويُكره أن يدخل في الصلاة وقد أخذه غائط أو بول؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» متفق عليه، ‌والمراد ‌نفي ‌الكمال ‌كما ‌في ‌نظائره، وهو يقتضي الكراهة، وإن كان الاهتمام بالبول والغائط يشغله -أي: يشغل قلبه- عن الصلاة ويُذهب خشوعه يقطعها ... وإن مضى عليها ... أجزأه، أي: كفاه فِعْلُها على تلك الحال وقد أساء وكان آثمًا لأدائه إياها مع الكراهة التحريمية، وكذلك الحكم إن أخذه البول أو الغائط بعد الافتتاح، أي: افتتح الصلاة ولم تكن به مدافعة، فحدثت به بعد الافتتاح، فالحكم أنه يقطعها، وإن لم يقطعها أجزأه مع الإساءة. غنية المتملي (ص: 366).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «ولا وهو يدافعه الأخبثان» هذا هو محل الشاهد من الترجمة، والأخبثان هما: البول والغائط، فقوله: «وهو يدافعه الأخبثان» أي: البول والغائط أو أحدهما، فإذا كان حاقنًا أو حاقبًا -يعني: فيه بول أو غائط- وبحاجة إلى التخلص منه وكان منحبسًا فإنَّ عليه أن يبدأ بالتخلص من هذين الأخبثين؛ حتى يُقْبِلَ على صلاته باطمئنان وارتياح وعدم تشوش. شرح سنن أبي داود (18/ 19).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
الأخبثان: البول والغائط، فإذا كان عنده ما يشغله فليتفرغ مما يشغله، كالبول والغائط، وهكذا الطعام الحاضر يأكل منه قدر حاجته؛ حتى يأتي الصلاة وقلبه فارغ غير مشغول، حتى يؤديها بخشوع وبحضور قلب.
لكن لا يجوز للمسلم أن يتخذ هذا عادة، ويطلب من أهله تقديم العَشاء وقت الصلاة؛ حتى يضيعها، هذا لا يجوز، ويُنكر عليه ذلك، إنما إذا صادف ذلك ووجد الطعام حاضرًا بعد الأذان، أو صادف قومًا عندهم طعام حاضر قُدِّم فليبدأ، ولا يجعل ذلك عادة، ويتعمّد فعل ذلك، حتى يضيِّع الصلاة في المساجد؛ فإنَّ هذا معناه: القصد إلى إضاعة الجماعة، والتملُّص منها، بحجة أنه أحضر الطعام بغير قصد، مع أنه فَعَلَ ذلك بقصد، وهو الذي طلب الطعام، وهو الذي أحضره ليتأخر عن صلاة الفريضة، هذا منكر لا يجوز له أن يفعل ذلك. الإفهام في شرح عمدة الأحكام (ص:166).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
دل الحديث على كراهة الصلاة بحضور طعام يريد المصلي الأكل منه في الحال؛ لاشتغال القلب به، ويلحق بهذا ما في معناه مما يُشغِل القلب، ويُذهِب كمال الخشوع في الصلاة، وعلى كراهة الصلاة حال احتياجه إلى قضاء الحاجة بولًا أو غائطًا. المنهل العذب المورود (1/ 297).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
تقدم... ذِكْر رغبة الشارع الأكيدة في حضور القلب في الصلاة بين يدي ربه، ولا يكون ذلك إلا بقطع الشواغل التي يسبب وجودها عدم الطمأنينة والخشوع؛ لهذا فإن الشارع ينهي عن الصلاة بحضور الطعام الذي نفس المصلي تتوق إليه، وقلبه متعلق به، وكذلك ينهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، اللذين هما البول والغائط؛ لأن صلاة الحاقن أو الحاقب غير تامة؛ لانشغال خاطره بمدافعة الأذى.
اختلاف العلماء:
أَخَذَ بظاهر الحديث الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية، فلم يصححوا الصلاة مع وجود الطعام، ولا مع مدافعة أحد الأخبثين، وعدُّوا الصلاة باطلة، إلا أن شيخ الإسلام لم يصححها مع الحاجة إلى الطعام، الظاهرية شذُّوا، فلم يصححوها مطلقًا.
وذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة مع كراهتها على هذه الحال.
وقالوا: إنَّ نفي الصلاة في هذا الحديث نَفيٌ لكمالها، لا لصحتها.
ما يؤخذ من الحديث:
1-كراهة الصلاة عند حضور الطعام المحتاج إليه، وفي حال مدافعة الأخبثين، ما لم يضق الوقت فتُقَدَّم مطلقًا.
2-أن حضور القلب والخضوع مطلوبان في الصلاة.
3-ينبغي للمصلى إبعاد كل ما يشغله في صلاته.
4-أن الحاجة إلى الطعام أو الشراب أو التبوُّل أو التغوُّط كل أولئك عُذر في ترك الجمعة والجماعة، بشرط ألا يجعل أوقات الصلوات مواعيد لما ذكر ما هو في مقدور الإنسان منها. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص:96).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما قاله الظاهرية لا يخفى رجحانه؛ لظواهر النصوص، فتنبَّه، والله تعالى أعلم.
في فوائده:
1-منها: النهي عن الصلاة بحضرة الطعام...
2-ومنها: أن هذا الحديث يدل على أن حمل الصلاة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا وُضِحَ عَشَاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء» على العموم أَوْلى؛ لأن لفظ «صلاة» في هذا الحديث نكرة في سياق النفي، ولا شك أنها من صيغ العموم؛ ولأن لفظ الطعام مطلق غير مقيَّد بالعَشاء، فالظاهر أنَّ ذِكْرَ المغرب في حديث أنس -رضي الله عنه- الماضي من التنصيص على بعض أفراد العام، وليس بتخصيص، والله تعالى أعلم.
3-ومنها: النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين: البول والغائط، وكذا يلحق ما في معناه مما يُشغِل القلب، ويُذهب كمال الخشوع في الصلاة. البحر المحيط الثجاج (12/ 436 - 437).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يعني: أنه إذا كان الطعام قد قُدِّم وحَضَرت المائدة والناس بحاجة إليها ثم دخلوا في الصلاة، فإنه يكون عندهم شيء من التشوش والانشغال فيما هم بحاجة إليه؛ ولذا يبدؤون بالطعام ثم يأتون بالصلاة؛ لأنهم إذا أتوا بها بعد أن أخذوا حاجتهم من الطعام الذي قُدِّمَ لا يكون هناك التشوش والانشغال عن الصلاة بالتفكير في الطعام، لا سيما إذا كان الناس بحاجة شديدة إليه بسبب جوع؛ فإنَّ بَدَاءَتهم بالطعام فيه تمكينهم من التفرغ لصلاتهم، وعدم انشغالهم عنها بتشوش البال وبالتفكير في ذلك الذي هم بحاجة إليه. شرح سنن أبي داود (18/ 19).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)

وهل يشمل الحديث الفرائض والنوافل أو خاص بالفرائض ؟ ينظر (هنا)  


ابلاغ عن خطا