الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«كُنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قُبّة، فقال: أترضونَ أنْ تكونوا رُبُعَ أهلِ الجنةِ؟» قلنا: نعم، قال: «أترضونَ أنْ تكونوا ثُلُثَ أهلِ الجنةِ؟» قلنا: نعم، قال: «أترضونَ أنْ تكونوا شَطْرَ أهلِ الجنةِ؟» قلنا: نعم، قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده، إني لأرجو أنْ تكونوا نِصْفَ أهلِ الجنةِ؛ وذلك أنَّ الجنةَ لا يدخلُهُا إلا نفسٌ مسلمةٌ، وما أنتم في أهلِ الشركِ إلا كالشَّعرةِ البيضاءِ في جلدِ الثورِ الأسودِ، أو كالشَّعرةِ السُّوداءِ في جلدِ الثورِ الأَحمرِ»


رواه البخاري برقم: (6528) واللفظ له، ومسلم برقم: (221)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
وفي رواية للبخاري برقم: (6530) ومسلم برقم: (222) «..‌إِنّي ‌لأطمع أن تكونوا...».
وفي رواية لمسلم برقم: (221): «فَكَبَّرْنا» بدلًا عن قولهم: (نعم)


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«قُبّة»:
بِنَاء مستدير ‌مقوس ‌مجوف ‌يعْقد ‌بالآجر ‌وَنَحْوه.المعجم الوسيط، نخبة من اللغويين(2/709)
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
القُبّة من الخيام: بيت صغير ‌مُستديرٌ، وهو من بيوت العرب.النهاية في غريب الحديث(4/٣)

«شَطْرَ»:
أي: نصف. النهاية، لابن الأثير (2/ 473).


شرح الحديث


قوله: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قلنا: نعم، قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قلنا: نعم، قال: «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟» قلنا: نعم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أترضون؟» في رواية يوسف: «إذ قال لأصحابه: ألا ترضون؟»، وفي رواية إسرائيل: «أليس ترضون؟»، وفي رواية مالك بن مغول: «أتحبون؟» قال ابن التين: ذَكَرَهُ بلفظ الاستفهام لإرادة تقرير البشارة بذلك، وذَكَرَهُ بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم، قوله: «قلنا: نعم» في رواية يوسف: «قالوا: بلى»، ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق: «فكبَّرنا» في الموضعين، ومثله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي يليه وزاد: «فحَمَدْنَا» وفي حديث ابن عباس: «ففرحوا»، وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشَّرهم به فحَمِدُوا الله على نعمته العظمى وكبَّروه؛ استعظامًا لنعمته بعد استعظامهم لنقمته. فتح الباري (11/ 387).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
خرج مخرج الاستفهام، وأُريد به البُشرى، وبشَّر بالأقل بالأول، ثم بالأكثر؛ ليعظم سرورهم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 33).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«رُبْعَ» بسكون وسطه وضمِّه، وكذا «ثُلْثَ». اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (16/ 144).
وقال القسطلاني -رحمه الله- (في رواية):
«‌أترضون ‌أن ‌تكونوا ‌ربع ‌أهل ‌الجنة؟ قالوا: بلى» فيه أن "بلى" يُجاب بها في الاستفهام كما في مسلم: «أنت الذي لقيتني بمكة؟» فقال له المجيب: «بلى»، ولكن هذا عندهم قليل فلا يُقاس عليه. إرشاد الساري (9/ 373).

قوله: «فكبرنا»:
قال النووي -رحمه الله-:
أمّا تكبيرهم فلسرورهم بهذه البشارة العظيمة.شرح صحيح مسلم(3/95)
وقال العيني -رحمه الله-:
أي: فعظّمنا ذلك أو قُلنا: الله أكبر، سرورًا بهذه البشارة. عمدة القاري(19/٦٨)
وقال الأُبّي -رحمه الله-:
والمقصود من هذا الكلام: تبشير آحاد الأُمَّة بدخول الجنة؛ لأن ظنَّ الواحد بدخولها مع كثرة داخليها من هذه الأُمَّة أجدر مِن ظَنِّه دخولها مع قلة داخلها منهم. إكمال إكمال المعلم (1/ 640).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
الخطاب لأصحابه باعتبارين: باعتبار أنه يحدثهم، وباعتبار أنهم الأُمَّة الإسلامية يومئذٍ، فقوله: «أترضون؟» خطاب لأصحابه، وقوله: «أن تكونوا» أي: أن يكون المسلمون؛ بقرينة قوله بعد ذلك: «إن الجنة لا تدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشَّعرة البيضاء في جلد الثور الأسود». النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص:250).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
نصف أهل الجنة من هذه الأُمَّة، والنصف الباقي من بقية الأمم كلها، وهذا يدل على كثرة هذه الأُمَّة؛ لأنها آخر الأمم، وهي التي ستبقى إلى يوم القيامة.
وقد جاء في السنن والمسند: أن صفوف أهل الجنة مائةٌ وعشرون، منها ثمانون من هذه الأُمَّة، فتكون هذه الأُمَّة ثلثي أهل الجنة، وهذا مِن رحمة الله -عز وجل-، ومن فضل الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُعطَى أجر كل مَن عمل بسنته وشريعته. شرح رياض الصالحين (3/ 326).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أما ترضون أن تكونوا» أيتها الأُمَّة المحمدية «ربع أهل الجنة؟» والهمزة فيه للاستفهام التقريري و(ما) نافية. الكوكب الوهاج (5/ 154).
وقال الشيخ محمد بن آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
«أَمَا» -بفتح الهمزة، وتخفيف الميم- هي أداة عَرْضٍ، بمنزلة (أَلَا)، وتختص بدخولها على الفعل، قال ابن هشام الأنصاري -رحمه الله- في مُغْنِيْهِ (أي مغني اللبيب): وقد يُدَّعى في ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريري، مثلها في (ألم) و(ألا)، وأن (ما) نافية. انتهى...
«أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» يجوز في «ربع» ضم الراء، والموحدة، وتسكينها، ويقال فيه أيضًا: رَبِيع بفتح فكسر، ومثله: ثلث، في فوقه إلى عُشَير، وعُشْرٍ، وعَشِير. البحر المحيط الثجاج (5/ 543).

قوله: «قال: والذي نفس محمد بيده»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
أما قوله: «والذي نفسي بيده» و«لا ومقلب القلوب» فهذه أيمان النبي -عليه السلام-، فالسُّنة أن يُحلف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته تعالى، وقد قال -عليه السلام-: «من كان حالِفًا فليحْلِف بالله أو ليصمت»، وأجمع العلماء أنه مَن حَلَفَ فقال: والله أو بالله أو تالله أن عليه الكفارة؛ لأن الواو والباء والتاء هي حروف القسم عند العرب، والواو والباء يدخلان على كل محلوف به، ولا تدخل الفاء إلا على الله وحده. شرح صحيح البخاري (6/ 95).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«والذي نفس محمد بيده» أتى بالقسم وباسمه مظهرًا؛ تأكيدًا للأمر، وتفخيمًا له. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 334).

قوله: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إني لأَطمعُ أن تكونوا شطرَ أهل الجنَّة» هذه الطماعية قد حُقِّقت له بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} الضحى:5، وبقوله: «إنَّا سنُرضيك في أمَّتك»، لكن علَّق هذه البُشرى على الطمع؛ أدبًا مع الحضرة الإلهيَّة، ووقوفًا مع أحكام العبوديَّة. المفهم (1/ 472).
وقال الأُبّي -رحمه الله- معلقًا:
المحقق حصوله إنما هو دخول الأُمَّة، وكونهم الشطر غيره، فلا يمتنع أن يكون الرجاء على بابه. إكمال إكمال المعلم (1/ 641).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ربع أهل الجنة» ثم «ثلث أهل الجنة» ثم «الشطر»، ولم يقل أولًا: شطر أهل الجنة، فلفائدة حسنة، وفي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم؛ فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته. شرح صحيح مسلم (3/95).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» في رواية أبي الأحوص وإسرائيل: «فقال: والذي نفس محمد بيده» وقال: «نصف» بدل شطر، وفي حديث أبي سعيد «إني لأطمع» بدل «لأرجو»... فكأنه -صلى الله عليه وسلم- لما رجا رحمة ربه أن تكون أُمَّته نصف أهل الجنة أعطاه ما ارتجاه وزاده، وهو نحو قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} الضحى: 5. فتح الباري (11/ 387- 388).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قال العلماء: كل رجاء جاء عن الله تعالى أو عن النبي فهو كائن ألبتة، وإنما أتى فيه بصيغة الرجاء دون صيغة الجزم على عادة الملوك في وعد ما يقطعون بفعله، يقولون: عسى تُعطى ذلك، وهم جازمون. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 334).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
«إني لأرجو» قال العلماء: كل رجاء جاء عن الله أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كائن. تطريز رياض الصالحين (ص:292).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
(«إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة») أي: نصْفهم، يعني: أن نسبة هذه الأُمَّة إلى جملة من يدخل الجنة الشطر أي: النصف، ومنه يقال: شاطَرْتُه مشاطرةً إذا قَاسَمْتُه فأخذتُ نصف ما في يديه. الكوكب الوهاج (5/ 154).
وقال الشيخ محمد بن آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
والمراد (بالشطر) هنا النصف، بدليل رواية يوسف بن أبي إسحاق المذكورة: «فو الذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة»، وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: «إني لأطمع» بدل «لأرجو». البحر المحيط الثجاج (5/ 544).

قوله: «وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة»:
قال النووي -رحمه الله-:
هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلًا، وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين. شرح مسلم (3/ 96).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى هذا التعليل؟
قلتُ: أشار إلى أن أهل الجنة قليلون بالنسبة إلى أهل الشرك، وأُمَّته أكثر أهل الجنة مع قِلَّتهم بالنسبة إلى سائر الخلق. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 191).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وذلك» أي: سبب طمعي كونكم نصف أهل الجنة: «أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة» أي: منقادة لأوامر الشرع ونواهيه. مرشد ذوي الحجا والحاجة (26/ 223).

قوله: «وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«وما أنتم في أهل الشرك» في سائر الأمم، ومنهم يأجوج ومأجوج. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 334).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وما أنتم في أهل الشرك» أي: من الأمم السابقين، أي: فأكثر تلك الأمم أهل الشرك؛ فلذلك قلَّ مؤمنهم حتى غلب مؤمنو هذه الأمَّة على مؤمني تلك الأمم كلها. حاشية على سنن ابن ماجه (2/ 573).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كالشَّعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشَّعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» كذا للأكثر، وكذا لمسلم، وكذا في رواية إسرائيل لكن قدَّم السوداء على البيضاء، ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري: الأبيض بدل الأحمر، وفي حديث أبي سعيد: «إن مَثَلَكُم في الأمم كمثل الشَّعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كَالرَّقْمَة في ذراع الحمار» قال ابن التين: أطلق الشَّعرة وليس المراد حقيقة الوحدة؛ لأنه لا يكون ثور ليس في جلده غير شعرة واحدة من غير لونه، والرَّقْمة: قطعة بيضاء تكون في باطن عضو الحمار والفرس، وتكون في قوائم الشاة، وقال الداودي: الرَّقْمة: شيء مستدير لا شَعر فيه سمعت به؛ لأنه كالرقم. فتح الباري (11/ 388).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«أو الشَّعرة» تنويع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما شكٌّ من الراوي، وحاصله: أنتم مع قِلَّتكم بالنسبة إلى الكفار نصف أهل الجنة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (23/ 37).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفي الحديث الآتي في الباب بعده: «أو كالرَّقْمَةِ في ذراع الحمار»، فالشَّعرة على التقليل والتكثير؛ لأنه لا يكون ثورًا ليس في جِلْدِه إلا مائة شعرة، والرَّقْمة: يحتمل أن تكون على الحقيقة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 33).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى قوله: «وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشَّعرة البيضاء في جلد ثور أسود»؟
قلتُ: أشار....مع كونهم أكثر أهل الجنة فهم من بين أهل الشرك أقل قليل؛ ليلقوا ذلك بالشكر، ولم يقف على هذا التحقيق مَن تقدَّمَنا من الشُّراح، والله الموفق وله الحمد. الكوثر الجاري (10/ 192).
وقال الأُبّي -رحمه الله-: (في رواية)
قوله: «وسأخبركم» أتى به توجيهًا لكونهم الشطر، فإن قلتَ: لا يتوجه به بل يُبعده؛ لأنهم إذا كانوا كالشعرة المذكورة فكيف يكونون الشطر؟
قلتُ: أسْقَطَ الراوي في هذا الطريق ما يتم به التوجيه، وهو قوله في الطريق الآخر: «لا يدخل الجنة إلا المؤمنون»، أي: لا تستبعدوا كونهم الشطر مع أنهم كالشعرة المذكورة؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وهم من المؤمنين الشطر. إكمال إكمال المعلم (1/ 641).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ما أنتم في الناس إلا كالشَّعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشَعْرَة بيضاء في جلد ثور أسود»، الظاهر: أنَّ (أو) للتخيير في التعبير، وتَحْتَمِل الشَّك. مرقاة المفاتيح (8/ 3518).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مَا المسلمون» أي: ما نسبةُ المسلمين «في الكفار» أي: بالنسبة إلى كثرة الكفار «إلا كـ» نسبةِ «شَعْرَة بيضاء في جلد ثور أسود» إلى سائر شعوره، «أو» قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الراوي عنه إلا «كـ» نسبة «شعرة سوداء في جلد ثور أبيض» بالنسبة إلى سائر شعوره، والشك من الراوي أو ممن دونه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 155).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الأنبياء كلهم مسلمون ومَن تَبِعَهم، وأن اليهودية والنصرانية بدعتان.
وفيه أيضًا: أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يكونون نصف أهل الجنة؛ وذلك لأن أُمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- عقبت الأمم، فورثت ما كانت عليه الأمم بأسرها، ثم لا يعقبهم غيرهم، وإذا نزل المسيح ابن مريم كان على مِلَّتِهم، فمِن حيث العدد والكثرة فإنهم فيما يوضحه التأمل لا يرد الجمع من أهل الجنة من يكون أكثر عددًا منهم.
فأما من أهلكه الله تعالى من الأمم التي كَذَّبت الرسل من قوم نوح وعاد وثمود فإن أولئك ليسوا من أهل الجنة، ويكون قوله: «أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء» إشارة إلى جميع الخلق؛ وذلك أن الخلق خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، كما قال الله -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} النحل: 78، فلم يُفِقْ مِن سَكْرَةِ ذلك إلا مَن وفَّقَه الله -عز وجل- للعلم واتباع المرسلين. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 31).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وحاصله: أنتم -مع قِلَّتكم بالنسبة إلى الكفار- نصف أهل الجنة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (16/ 39).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وعند أحمد وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} الواقعة: 13- 14، شقَّ ذلك على الصحابة فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} الواقعة: 39- 40، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، بل ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتُقَاسِمُونهم في النِّصف الثاني». إرشاد الساري (9/ 306).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
والمقصود: أن عدد المؤمنين بجوار عدد أهل الشرك قليل، فإذا كانوا يوم القيامة تفضَّل الله -عز وجل- على المؤمنين فأدخلهم بفضله ورحمته الجنة، وجعلهم نصف عدد أَهل الجنة كما جاء في هذا الحديث. شرح رياض الصالحين (28/ 9).
قال النووي -رحمه الله-:
وفيه فائدة أخرى: هي تكريره البشارة مرة بعد أخرى.
وفيه أيضًا: حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيره وحمده على كثرة نعمه، والله أعلم.
ثم إنه وقع في هذا الحديث «شطر أهل الجنة»، وفي الرواية الأخرى «نصف أهل الجنة»، وقد ثبت في الحديث الآخر أن أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأُمَّة منها ثمانون صفًّا، فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، فيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أولًا بحديث الشطر، ثم تفضل الله سبحانه بالزيادة، فأُعلم بحديث الصفوف، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك؛ ولهذا نظائر كثيرة في الحديث معروفة، كحديث: «الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة» و«بخمس وعشرين درجة» على إحدى التأويلات فيه. شرح صحيح مسلم (3/95).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1-منها: بيان كون هذه الأُمَّة نصف أهل الجنة، وقد وردت روايات في كونهم ثلثي أهل الجنة.
2-ومنها: مشروعية الحمد والتكبير عند الفرح والسرور، وعند استعظام الأمور، فقد كبَّر الصحابة -رضي الله عنهم-، وحمدوا الله تعالى؛ لسرورهم بهذه البشارة العظيمة.
3-ومنها: بيان كثرة أعداد أهل النار بالنسبة لأهل الجنة.
4-ومنها: كمال شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشدَّة حرصه على رجاء الخير لأُمَّته، وطلب ذلك من ربه -سبحانه وتعالى-.
5-ومنها: بيانُ عظيمِ فضل الله -سبحانه وتعالى- على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكثرة عطائه له، كما أخبر الله -عز وجل- بذلك؛ حيث قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} الضحى: 5، وقال: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} النساء: 113.
6-ومنها: أن في عدم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر: «أما ترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟» بل أخبرهم بالتدريج، فائدة حسنة، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم؛ فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته.
7-ومنها: أن فيه فائدة أخرى أيضًا وهي: تكريره -صلى الله عليه وسلم- البشارة مرة بعد أخرى.
8-ومنها: أن فيه أيضًا حملهم على تجديد شكر الله تعالى، وتكبيره، وحمده على كثرة نعمه.
9-ومنها: أنه وقع في هذا الحديث «شطر أهل الجنة»، ووقع عنه -صلى الله عليه وسلم- في رواية أحمد والترمذي وابن ماجه: «أن أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة منها ثمانون صفًّا»، فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، فيكون النبيُّ أخبر أولًا بحديث الشَّطْر، ثم تفضَّل الله -عز وجل- بالزيادة، فأَعْلَمَه -صلى الله عليه وسلم- بحديث الصفوف، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- به بعد ذلك؛ ولهذا نظائر كثيرة في الحديث معروفة، كحديث: «صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة»، و«بخمس وعشرين درجة» على إحدى التأويلات فيه.
10-ومنها: أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلًا، وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين.البحر المحيط الثجاج (5/ 546).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
وفيه: فضل هذه الأُمَّة المستجيبة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-. الحلل الإبريزية (4/ 295).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
هذا الحديث فيه: بيان فضل هذه الأُمَّة، وأنها نصف أهل الجنة؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة»، ولا منافاة بين قوله هنا: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة»، وبين حديث: «أنهم ثلثا أهل الجنة»، فيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُخبر أولًا أن هذه الأُمَّة نصف أهل الجنة، ثم زاده الله خيرًا، فأُخبر أنهم ثلثا أهل الجنة. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (1/ 415).


ابلاغ عن خطا