«إنَّ مِن أَحَبِّكُمْ إليَّ وأَقْرَبِكُمْ منِّي مجلِسًا يوم القيامةِ أحاسِنَكُمْ أخلاقًا، وإنَّ أَبغضكُمْ إليَّ وأَبعدكُمْ منِّي مجلسًا يوم القيامةِ الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ والمُتَفَيْهِقُونَ»، قالوا: يا رسول الله، قد عَلِمنا الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ فما المُتَفَيْهِقُونَ؟ قال: «المُتَكَبِّرُونَ».
رواه الترمذي برقم: (2018)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (791)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2649).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الثرثارون»:
هُم الَّذِينَ يُكْثِرون الكلام تَكَلُّفًا وخروجًا عن الحقِّ، والثَّرْثَرَة: كَثْرة الكلام وتَرْدِيدُه. النهاية، لابن الأثير (1/ 209).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
والثَّرْثار: الكثير الكلام. الفائق في غريب الحديث(4/ 68).
«المتَشَدِّقُون»:
هم المتوسِّعون في الكلام من غير احتراز. غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 523).
يريد المُسْهبين في القول المُكثِرِينَ له. غريب الحديث للخطابي (1/ 126).
«المتَفَيْهِقُون»:
المتفيهق: من الفَهْقِ وهو الامتلاء، يقال: فَهق الحوض فهقًا وأفهَقْتُه (أي ملأته)، وهو الذي يتوسع في كلامه ويملأ بِهِ فَاه، وهذا من التكبر والرُّعونة. الفائق في غريب الحديث للزمخشري (4/ 69).
وقال القاسم بن سلام -رحمه الله-:
والمتفيهق: الذي يتوسع في كلامه، ويُفهق به فَمه. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (1/ 106).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من أحبكم إليَّ» أي: أكثركم محبّة لي، أو أَعظمكم محبوبية عندي. مرقاة المفاتيح (8/ 3174).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«أحبكم إليَّ» أي: في الدنيا. مرقاة المفاتيح (7/ 3018).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«إنَّ من أحبكم إليَّ» أي: أكثركم حبًّا إليَّ، أي: اتباعًا لسنتي، «وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة» أي: في الجنة؛ فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبيّ حينئذٍ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب؛ إذ هو المقام المحمود الذي أُعطيه يومئذٍ، و«يوم» تنازَعَهُ الوصفان قبله، ويحتمل ألّا يكون من ذلك، ويكون للأقرب منه. دليل الفالحين (5/ 84).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
«إنَّ مِن» للتبعيض «أحبكم» أي: أكثركم محبوبية «إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة» ظرف لـ«أقرب»، ويحتمل أن يكون لما قبله أيضًا، وتُعلم أحبيَّتهم له في الدنيا من غير هذا؛ إذ السكوت على الشيء لا ينفيه. دليل الفالحين (8/ 553).
قوله: «أحاسنكم أخلاقًا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أحاسنكم» جمع الأحسن. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 166).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أحاسنكم أخلاقًا»: نصبه على التمييز، وجمعه لإرادة الأنواع، أو لمقابلة الجمع بالجمع. مرقاة المفاتيح (7/ 3018).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«أحاسنكم أخلاقًا» أي: شمائل مرضية، مراعى فيها حدود الربوبية والعبودية. مرقاة المفاتيح (8/ 3174).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: أكثركم حسن خُلق، وهو اختيار الفضائل وترك الرذائل؛ وذلك لأن حُسن الخلق يحمل على التنزه عن الذنوب والعيوب، والتحلي بمكارم الأخلاق؛ من الصدق في المقال، والتلطف في الأحوال والأفعال، وحسن المعاملة مع الرحمن، والعشرة مع الإخوان، وطلاقة الوجه، وصلة الرحم، والسخاء والشجاعة، وغير ذلك من الكمالات. فيض القدير (2/ 529).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
حسن الخُلق هو ما اطمأنت إليه النفوس الشريفة الطاهرة من أوضار الذنوب ومساوئ الأخلاق، المتحلِّية بمكارم الأخلاق، من الصدق في المقال، واللطف في الأحوال والأفعال، وحسن معاملته مع الرحمن، ومعاشرته مع الإخوان، وصلة الرحم والسخاء والشجاعة. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3233).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أخلاقًا» الخُلق: مَلَكَة تَصْدُر بها الأفعال بسهولة من غير روية، وحسن الخُلق: اختيار الفضائل، وترك الرذائل. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (10/ 137).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
حسن الخُلق احتياز الفضائل واجتناب الرذائل. إرشاد الساري (6/ 31).
وقال محمد عبد العزيز الخولي -رحمه الله-:
الخُلق: يُطلق على كل صفة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير تكلُّف، كالكرم يصدر عنه الإعطاء بلا عناء، والحلم يستدعي مصابرة السفيه والعفو عن المسيء، والحكمة تقتضي وزن كل عمل بميزان المصلحة. الأدب النبوي (ص: 125، 126).
وقال المظهري -رحمه الله-:
حسن الخُلق معناه: العفو عن الذنوب، ومداراة الناس، وتحمُّل أذاهم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 251).
قوله: «وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإنَّ أبغضكم إليَّ» أي: في الدنيا «وأبعدكم مني» أي: في العقبى. مرقاة المفاتيح (7/ 3018).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وإنَّ أبغضكم» أي: أكثركم بغضًا «إليَّ»، ولعل الخطاب للمؤمنين الحاضرين، فلا ينافي أن الكافرين أبغض إليه مطلقًا. دليل الفالحين (8/ 553).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، ولا شك أن فيهم محبوبين ومبغوضين من جهات مختلفة، وإن كانوا جميعًا محبوبين، ثم هم يتفاوتون في مراتب المحبة والبغض، فبعضهم أحب وبعضهم أبغض، فلا إشكال في هذه العبارة. لمعات التنقيح (8/ 129).
وقال ابن الحاجب -رحمه الله-:
قال: «ألا أخبركم بأبغضكم إليَّ... وأبعدكم مني» فيلزم أنْ يكون المخاطَبون محبوبين مبغوضين، مقرَّبين مبعودين، وهو غير جائز، ووجه اللزوم: أنَّه قد أضاف الأحب والأبغض إلى المخاطبين، فيلزم أنْ يكونوا مشتركين في أصل ما أُضيف إليهم من المحبة والبغض...
والجواب: أنَّ المضاف إليه في هذه المواضع المـُعْتَرَض بها، يجب أنْ تكون مُخصَّصة بالمشتركين في أصل المعنى الذي دل عليه (أفعل)، فيكون قوله: «بأَحَبِّكم» أحب المحبوبين منكم، وكذلك «أقربكم» و«أبغضكم» و«أبعدكم» وقوله: أكرم الناس وشبهه، على ذلك.
ويجوز أنْ يُقدَّر مضاف محذوف، كأنه قيل: أَحَبّ محبوبيكم، وأكرم كرماء الناس، ويكون دليل التأويل على أحدهما: ما عُلم من لغتهم أنهم لا يُطلقون (أفعل) التفضل إلا على ذلك، فلما كان ذلك معلومًا عندهم، صح إطلاق العام مرادًا به التخصيص، بما دل عليه من القاعدة المذكورة عندهم، فلذلك جاءت هذه الألفاظ في نحو هذه المواضع على ما ذكر من المعنى. أمالي ابن الحاجب (1/ 315-316).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قال الدارقطني: وأراد بـ«أبغضكم» بغيضكم، وبـ«أحبكم» التفضيل، ولا يكون المخاطَبون بأجمعهم مشتركين في البغض والمحبة، وقال الحاجبي (ابن الحاجب): تقديره: بأحب المحبوبين منكم، وأبغض المبغضين منكم، ويجوز إطلاق العام وإرادة الخاص؛ للقرينة.
أقولُ: إذا جعل الخطاب خاصًّا بالمؤمنين، فكما لا يجوز «أبغضكم» لا يجوز «بغيضكم»؛ لاشتراكهم في المحبة، والقول ما ذهب إليه ابن الحاجب؛ لأن الخطاب عام يدخل في البَرِّ والفاجر والموافق والمنافق، فإذا أُريد به المنافق الحقيقي فالكلام ظاهر، وإذا أريد به غير الحقيقي كما سبق في باب علامات النفاق فمستقيم أيضًا، يدل عليه: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وهذا القول أولى، والمقام له أدعى للحديث السابق. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3105).
قوله: «الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»:
قال المنذري -رحمه الله-:
الثرثار: بثاءين مُثَلثَتَيْنِ مفتوحتين، هو الكثير الكلام تكلفًا، والمتشدِّق هو المتكلِّم بملء شدقه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق أصله من الفَهَقِ وهو الامتلاء، وهو بمعنى المتشدق؛ لأنه الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه؛ إظهارًا لفصاحته وفضله، واستعلاء على غيره؛ ولهذا فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمتكبر. الترغيب والترهيب (3/ 277).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اشتقاق المتفيهق من فَهِقَ الوادي إذا امتلأ، وكأنَّ هذا امتلأ كِبْرًا؛ ولذلك استطال على الناس لسانه واستحقاره، كما يسيل الوادي إذا فَهِقَ. عارضة الأحوذي (8/132).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
المتفيهق أصله -أي اشتقاقه- من الفَهْق بفتح الفاء، وسكون الهاء، وبالقاف، وهو الامتلاء. دليل الفالحين (5/ 85).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
يُقال: الفَهَق والفَهْق (يعني: بالوجهين، بفتح الهاء وإسكانها). غريب الحديث (1/ 106).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والثرثار: كثير الكلام، والمراد به: مَن كثر كلامه زورًا ورياءً وخروجًا عن الحق.
والمتشدق: المتكلِّف في الكلام، فيلوي به شدقه، وقيل: المستهزئ بالناس الذي يلوي بهم وعليهم شدقه.
والمتفيهق: الذي يتوسَّع في الكلام، يملأ فاه من التكبر والرعونة، من الفَهَقِ وهو الِامْتِلَاءُ، يقال فَهِقَ الْحَوْضُ فَهَقًا، وأَفْهَقْتُهُ إذا ملأتُه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 234).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الثرثارون» يعني: المكثرون الكلام من غير فائدة دينية.
المتشدِّق: المستهزئ بالناس، الذي يلوي شدقه -أي: جانب فمه-؛ استهزاء بالناس.
المتفيهق: الواسع الكلام من غاية التكلف والرعونة، يتوسع في الكلام ولا يبالي أخير يقول أم شر؟
وقيل: المتفيهق: المتكبر. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 167).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والثرثار: هو الكثير الكلام تكلفًا، والمتشدّق المتطاوِل على الناس بكلامه، الذي يتكلم بمِلء فيه تفاصُحًا وتفخيمًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق أصله من الفَهَق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه تكثّرًا وارتفاعًا، وإظهارًا لفضله على غيره. تهذيب سنن أبي داود (3/ 352).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«الثرثارون» وهم الذين يُكثرون الكلام تكلفًا وخروجًا عن الحق.
«المتشدقون» أي: المتفصحون، وقيل: المستهزئون بالناس.
«المتفيهقون» أي: المتوسِّعون في الكلام، وفي هذا شيء من التكبر والرعونة. شرح المصابيح (5/ 229).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«المتشدقون» أي: المتوسِّعون في الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل: أراد بالمتشدق المستهزئ بالناس، يلوي شدقه لهم وعليهم، وقيل: هم المتكلفون في الكلام، فيلوي به شدقيه، والشدق جانب الفم.
«المتفيهقون» أي: الذين يملؤون أفواههم بالكلام ويفتحونها، مِن الفَهَقِ، وهو الامتلاء والاتساع، قيل: وهذا من التكبر والرعونة، والحاصل أن كل ذلك راجع إلى معنى الترديد في الكلام؛ ليميل بقلوب الناس وأسماعهم إليه. مرقاة المفاتيح (7/ 3019).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الثرثارون» الذين يكثرون من الكلام تكلفًا وخروجًا عن حد الواجب، «والمتشدقون» الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحًا وتعظيمًا لنطقهم، «والمتفيهقون» الذين يتوسعون في الكلام، ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفَهَقِ، وهو الامتلاء. التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 656).
وقال النووي -رحمه الله-:
يُكره التقعيرُ في الكلام بالتشدُّق وتكلُّف السجع والفَصاحة، والتصنُّع بالمقدمات التي يَعتادُها المتفاصحون وزخارف القول، فكلُّ ذلك من التكلُّف المذموم، وكذلك تكلُّف السجع، وكذلك التحريّ في دقائق الإِعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوامِّ، بل ينبغي أنْ يقصدَ في مخاطبته لفظًا يفهمُه صاحبُه فهمًا جليًّا، ولا يستثقلُه...
واعلم أنه لا يدخلُ في الذمِّ تحسين ألفاظ الخُطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب؛ لأن المقصودَ منها تهييج القلوب إلى طاعة الله -عزّ وجلّ-، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر. الأذكار (ص: 372).
قوله: «قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قالوا» أي: الحاضرون من الصحابة، ولم أقف على أسمائهم «يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون» كذا هو بالواو في الأصول على الحكاية؛ لما وقع منه في لفظ الخبر، أي: عرفنا المراد منهما. دليل الفالحين (5/ 85).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«المتكبرون» أي: المظهِرون للكبرياء والعظمة في أقوالهم وأفعالهم. مرقاة المفاتيح (7/ 3019).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«المتكبرون» أي: ومِن كِبْرِهم ينشأ تشدقهم بالكلام؛ إذ المتفيهق الذي يتوسَّع في الكلام، ويفتح به فاه، مأخوذ من الفَهَقِ، وهو الامتلاء والاتساع. الفتوحات الربانية (7/ 130).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: الحث على حسن الخلق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه. شرح مسلم (15/ 78).