«ادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالإجابةِ، واعلموا أنَّ اللهَ لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ».
رواه الترمذي برقم: (3479)، والحاكم برقم: (1817)، والطبراني في الأوسط برقم: (5109)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (245)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (594).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ادعوا»:
الدُعاء: بالضم ممدودًا: الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير والابْتِهال إليه بالسُؤال. تاج العروس، للزبيدي (38/ 46).
وقال محمود عبد الرحمن -رحمه الله-:
والدعاء: اصطلاحًا: طلب الفعل من الأدنى إلى الأعلى، فالدعاء نوع من السؤال. معجم المصطلحات (2/ 81).
«موقنون»:
أي: متحققون جازمون. التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 54).
«غافلٍ»:
الغفلة: غَيبةُ الشيء عن بال الإنسان، وعدم تذكره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالًا وإعراضًا...، وأَغفلتُ الشيء إِغْفَالًا: تركته إهمالًا من غير نسيان. المصباح المنير، للفيومي(ص: 233).
وقال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
والغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلة التحفُّظ والتيقظ، يقال: غَفل فهو غافلٌ. المفردات في غريب القرآن (ص: 609).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: مُعرِضٍ عن الله، أو عما يَسألُه. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 76).
«لاهٍ»:
من لَهِيَ بالكسر يَلْهَى لَهْيًا؛ أي: تاركٍ، أو من اللهو، اللعب؛ أي: لاعبٍ عمّا سأله. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 77).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
واللَّهْوُ: اللعب، يقال: لهوتُ بالشيء أَلْهُو لَهْوًا، وتلهيتُ به، إذا لعبتَ به وتشاغلتَ، وغَفَلْتَ به عن غيره، وأَلْهَاه عن كذا، أي: شغله، ولَهِيتُ عن الشيء بالكسر أَلْهَى بالفتح لُهِيًّا، إذا سلوتَ عنه وتَركتَ ذِكره. النهاية (4/ 282-283).
شرح الحديث
قوله: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ادعوا» بهمزة وصل مضمومة، «الله» المنفرد بالإعطاء والمنع والضر والنفع، فذكْره هنا أنسب من ذكر الرب، أي: اسألوه من فضله من الدعاء، وهو استدعاء العبد ربه العناية، واستمداده منه المعونة، وحقيقته: إظهار الافتقار إليه والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية، وبه ردٌّ على من كره الدعاء من الصوفية وقال: الأولى السكوت والرضا والجمود تحت جريان الحكم والقضاء، وهذا الحديث نص في ردِّه، والذي عليه جمهور الطوائف: أنَّ الدعاء أفضل مطلقًا، لكن بشرط رعاية الأدب، والجد في الطلب، والعزم في المسألة والجزم بالإجابة. فيض القدير (1/ 228).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «ادعوا الله» أي: اسألوه من فضله، «وأنتم موقنون» متحققون جازمون «بالإجابة» حال الدعاء، بأن تكونوا على حال تستحقون فيها الإجابة بخلوص النية، وحضور الجَنَان، وفعل الطاعات بالأركان، وقوة الرجاء في الرحمن، وقيل معنى: «موقنون بالإجابة» أي: معكم نور اليقين حتى ينجاب (ينكشف) لكم الحِجَاب وينفلق، وتنفذ الدعوة إلى ربها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 54).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
معنى قوله: «وأنتم موقنون بالإجابة» أي: كونوا على حالة تستحقون الإجابة، أي: بحضور السر وصحة الحال، حتى يكون معروفًا في الملكوت، حتى يقال: صوتٌ معروف، وهو أن يكون تعرف إلى الله تعالى في أداء أوامره، واجتناب مناهيه، وقبول أحكامه غير متسخّط، ثم يدعوه، ولا يكون في سره غيره إلا سواه. بحر الفوائد (ص: 32).
وقال الطِّيبي -رحمه الله-:
قوله: «وأنتم موقنون بالإجابة» فيه وجهان:
أحدهما: أن يقال: كونوا أوان الدعاء على حالة تستحقون منها الإجابة؛ وذلك بإتيان المعروف، واجتناب المنكر، وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه، حتى تكون الإجابة على قلبه أغلب من الرد.
وثانيهما: أنْ يقال: ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة؛ لأن الداعي إذا لم يكن متحققًا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقًا، وإذا لم يكن الرجاء صادقًا لم يكن الدعاء خالصًا والداعي مخلصًا، فإن الرجاء هو الباعث على الطلب، ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل...، قيّد الأمر بالدعاء باليقين، والمراد النهي عن التعرض لما هو منافٍ للإيقان من الغفلة واللهو، بصدهما من إحضار القلب، والجد في الطلب بالعزم في المسألة، فإذا حصلا حصل اليقين... ثم اعلم أنَّ التيقظوالجد في الدعاء من أعظم آدابه، وأوثق عراه. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1713).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ادعوا الله وأنتم» أي: والحال أنكم «موقنون بالإجابة» أي: كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون بها الإجابة؛ من إتيان المعروف، واجتناب المنكر، ورعاية شروط الدعاء كحضور القلب، وترصد الأزمنة الشريفة، والأمكنة المنيفة، واغتنام الأحوال اللطيفة، كالسجود إلى غير ذلك؛ حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الرد، أو أراد وأنتم معتقدون أنَّ الله لا يخيِّبكم؛ لسعة كرمه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه؛ لتحقق صدق الرجاء وخلوص الدعاء؛ لأن الداعي ما لم يكن رجاؤه واثقًا لم يكن دعاؤه صادقًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1531).
وقال المُظْهِري -رحمه الله-:
قوله: «ادعوا الله وأنتم موقنون» الواو في «وأنتم» واو الحال؛ يعني: ليكن الداعي ربه على يقين بأنه تعالى يجيبه؛ لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته، أو لعدم كرم في المدعو، أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي، وهذه الأشياء منفية عن الله تعالى؛ فإنه -جلّ جلاله- عالم كريم قادر، لا مانع له من الإجابة، فإذا عَلم الداعي أنه لا مانع لله في إجابة الدعاء، فليكن موقنًا بالإجابة، فإن قيل: قد قلتم: إن الداعي ليكن موقنًا بالإجابة، واليقين إنما يكون إذا لم يكن الخلاف في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يستجاب وبعضه لا يستجاب، فكيف يكون للداعي يقين؟
قلنا: الداعي لا يكون محرومًا عن إجابة الدعاء ألبتة؛ لأنه يعطى ما يَسْأل، وإن لم تكن إجابة دعائه مقدرة في الأزل لا يستجاب دعاؤه فيما يَسأل، ولكن يدفع عنه من السوء مثل ما يسأل، كما جاء في الحديث، أو يعطى عوضُ ما سأل يوم القيامة من الثواب والدرجة؛ لأن الدعاء عبادة، ومَن عمل عبادة لا يجعل محرومًا من الثواب. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 127-128).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة»؛ لأن الإيقان بها من حسن الظن بالرب تعالى، وقد ثبت أنَّه عند حُسْنِ ظن عبده به. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 472).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «وأنتم موقنون بالإجابة» لأن الله عند ظن عبده به؛ ولأنه على كل شيء قدير؛ ولأنه حيي كريم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 31).
قوله: «واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافلٍ لاهٍ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء» أي: غالبًا، أو استجابة كاملة، «من قلب غافلٍ» بالإضافة وتركها، أي: معرِض عن الله، أو عما سأله، «لاهٍ» من اللهو، أي: لاعب مما سأله، أو مشتغل بغير الله تعالى، وهذا عمدة آداب الدعاء؛ ولذا خُصَّ بالذكر. مرقاة المفاتيح (4/ 1531).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ» أي: لا يعبأ بسؤال سائل مشغول القلب بما أهمه من دنياه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 54).
وقال الإمام الرازي -رحمه الله-:
أجمَعوا على أنَّ الدعاء مع غفلة القلب لا أثر له. مفاتيح الغيب (3/ 622).
وقال العَزِيزي -رحمه الله-:
قوله: «واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ» المراد أَنَّ القلب استولى عليه به عن الدعاء، فلم يحضر التذلل والخضوع والمسكنة اللائق ذلك بحال الداعي. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 69).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ» بل يتعين على مَن يدعو إحضار قلبه، وتدبُّر ما يقوله؛ فهذا شرط من شروط الإجابة. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 31).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ» عن معنى ما قاله، أو «غافلٍ لاهٍ» عن الطاعات أو عن الله أو عن رجائه الإجابة، والمراد: الحث على حضور القلب، والإقبال عليه بالكلية عند الدعاء. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 472).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وكذلك الدعاء فإنه من أَقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أَثره عنه؛ إما لضعفه في نفسه؛ بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا فإن السَّهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة؛ من أَكل الحرام والظلم، ورين الذَّنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة، والشهوة، واللهو وغلبتها عليها، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنَّ الله لا يقبل دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ»، فهذا دواؤنا نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوَّته. الجواب الكافي (ص: 6).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ينبغي للتائب والمستغفر، وللعامل أَنْ يجتهد في القيام بما عليه مِن ذلك، مُوقنًا أنّ الله تعالى يقبل عَمله، ويغفر ذنبه، فإنَّ الله تعالى قد وعَدَ بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، فأمّا لو عَمل هذه الأعمال، وهو يعتقد، أو يَظنُّ أنّ الله تعالى لا يقبلها، وأَنها لا تنفعه، فذلك هو القُنوط مِن رحمة الله، واليأَس من رَوْحِ الله، وهو مِن أعظم الكبائر، ومَن مات على ذلك وصل إلى ما ظنّ منه.المفهم(7 /٥ ـ 6).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ومن أَعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى.جامع العلوم والحكم(2/403).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فمَن دعاه مُوقنًا أَنْ يجيب دعوة الداعي إِذا دعاهُ أجابه، وقد يكون مشركًا وفاسقًا، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} يونس: 12....
ولكن هؤلاء الذين يُستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته، وأَنّه يُجيب دُعاء المضطر، إذا لم يكونوا مُخلصين له الدِّين، في عبادته، ولا مُطيعين له ولرسوله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعًا في الحياة الدُّنيا وما لهم في الآخرة من خَلاق.اقتضاء الصراط المستقيم(2/٣١٤ ـ 315).