«إنَّ مِن إجلالِ اللَّهِ إكرامَ ذي الشَّيْبَةِ المسلمِ، وحامِلِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السُّلطانِ المقْسِطِ».
رواه أبو داود برقم: (4843)، وابن أبي شيبة برقم: (32561)، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (357)، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
صحيح الأدب المفرد برقم: (357)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (98).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الغالي»:
هو المتعمق حتى يخرجه ذلك إلى إكفار الناس، كنحوٍ من مذهب الخوارج وأهل البدع. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (3/ 483).
«الجافي»:
التارك له وللعمل به. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (3/ 483).
«المقْسِطِ»:
بضم الميم، العادل في حكمه. التيسير، للمناوي (1/ 347).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ من إجلال الله»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إن من إجلال الله» أي: من جملة تعظيم الله تعالى وتوقيره. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3186).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: من تعظيمه وتبجيله. شرح سنن أبي داود (18/ 546).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: من تعظيمه، والمصدر مضاف إلى الفاعل، أو إلى المفعول. شرح المصابيح (5/ 301).
قوله: «إكرام ذي الشيبة المسلم»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«إكرام ذي الشيبة» البيضاء «المسلم» أي: تعظيم الشيخ الكبير الذي نَفَدَ عمره في الإسلام والإيمان، وطُعِّمَه في طفولته وغُذِّيَه واستمر عليه حتى طعن في السن، حتى ابيضت شيبته في الإيمان، فتعظيمه وتوقيره في المجالس، وتقديمه في الصلاة على غيره، وفي اللحد في القبر، والرفق به والشفقة عليه، من كمال تعظيم اللَّه؛ لحرمته عند اللَّه تعالى. شرح سنن أبي داود (18/ 546).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إكرام ذي» أي: صاحب «الشيبة المسلم»؛ بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 347).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «إكرام ذي الشيبة المسلم» التخصيص بالمسلم إما لكمال العناية والاهتمام، أو للفرق بين التوقير والإكرام، فتدبر. لمعات التنقيح (8/ 254).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إكرام ذي الشيبة» أي: إكرام العبد ذي الشيبة «المسلم»؛ فإن الله قد أكرمه بالشيب وإخراج سواد شَعْره إلى البياض، فقد ورد في الشيب: «أنه نور من الله» وأنَّ أول من شاب إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقال: «ما هذا يا رب؟! قال: هذا نور، قال: رب زدني من نورك». التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 561).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«إكرام ذي الشيبة المسلم» أي: أنه تعالى يكرمه فيغفر له، ويعظِّم شأنه، ويعلمكم أنه يكرمه، أو من إجلالكم الله تعالى أن تُكرموا ذا الشيبة المسلم، فتعظيمكم إياه وتوقيره إجلالٌ لله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 115).
وقال الشيخ محمد الشنقيطي -حفظه الله-:
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ من إجلال الله: إجلال ذي الشيبة المسلم» فكيف بإجلال العالم الحافظ لكتاب الله، الحافظ لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي أحيا الله به السُّنة، وأمات به البدعة؟! لا شك أنَّه أحق، وإجلاله إجلال للدِّين؛ ولذلك إذا ذُكِرَ العالم بما يليق بوصْفٍ به مِن وصْفِ الشرف والتكريم أحسَّت الناس بهيبة العلم، وأحست بمكانة العالم، وإذا ذُكِرَ كما يُذكر عوام الناس لم يُفَرَّق بينه وبين العوام، وهذه مظلمة في حق العلماء -رحمة الله عليهم-، وهذا يستوي فيه الأحياء والأموات، ما دام أنَّه عالِم بكتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي أنْ يُجَلَّ، وأنْ يُكرم. شرح الترمذي كتاب الطهارة (1/ 15).
قوله: «وحامل القرآن»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وحَمَلَة القرآن: هم العالِمُون بأحكامه، وحلاله وحرامه، والعاملون بما فيه. التمهيد (11/ 265).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
مَن حفظه وعَمِلَ بمقتضاه. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1211).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وحامل القرآن» أي: قارئه، سمَّاه حاملًا له لما يحمل عليه في حفظه من الدرس والمشقة، وفي تفهُّمه وتدبره والعمل بما فيه، فهو حامل لمشاق كثيرة تزيد على الأحمال الثقيلة. شرح سنن أبي داود (18/ 546).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
مَن حَفِظَ مبانيه وعرف معانيه، وعمل بأوامره ونواهيه، فكلُّ مَن حَمَلَهُ أكثر، وبمقصوده أَسْعَفَ، يكون من جُملتهم أشرف. مرقاة المفاتيح (3/ 931).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
أي: وإكرام قارئه وحافظه ومفسِّره. مرقاة المفاتيح (8/ 3114).
وقال المناوي -رحمه الله-:
حَفَظَتُه عن ظهر قلب، العاملون به، الواقفون عند حدوده، العارفون بمعانيه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 179).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
أي: القائمين والعالمين به، فإنهم هم الحملة حقيقة. لمعات التنقيح (3/ 345).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
حُفَّاظه القائمون بحقه تلاوة وعملًا. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 391).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«و» إكرام «حامل القرآن» أي: حافظه وقارئه. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 263).
قوله: «غير الغالي فيه، والجافي عنه»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
«الغالي فيه» المتجاوز فيه عن الحد، وقيل: هو الذي يقول في القرآن برأي من عند نفسه... «الجافي» المتجانب عن العمل بأحكام القرآن، والجفاء البُعد عن الشيء، يقال: جَفَاهُ إذا بَعُد عنه، وأجفاه إذا أبعده. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (2/ 20، 21).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«غير الغالي فيه» يعني: المتجاوز للحد في التشدد في العمل به، وتَتَبُّع ما خفي منه، واشتبه من معانيه، وانكشف عن عِلَلِهِ الدقيقة التي لا يصل إليها عقلُه بما يبتدعه في الدِّين ليَضِلَّ ويُضِلَّ غيره، ويجاوز حدود قراءته ومخارج حروفه ومدوده.
«و» لا «الجافي عنه» والجافي أي: التارك له، البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه، من الجفاء: وهو البعد عن الشيء، فجفاه إذا بعد عنه. شرح سنن أبي داود (18/ 546، 547).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«غير الغالي فيه» أي: المجاوز فيه عن الحد لفظًا ومعنًى، أو الخائن فيه بتحريفه، أو في معناه بتأويله بباطل.
«والجافي عنه» أي: المتباعد عنه، المعرض عن تلاوته والعمل به. شرح المصابيح (5/ 301).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«غير الغالي فيه» بالجر، أي: غير المجاوِز عن الحد لفظًا ومعنى كالموسوسين والشكَّاكين أو المرائين، أو الخائن في لفظه بتحريفه كأكثر العوام، بل وكثير من العلماء، أو في معناه بتأويله الباطل كسائر المبتدعة، «ولا الجافي عنه» أي: وغير المتباعد عنه المعْرِض عن تلاوته، وأحكام قراءته، وإتقان معانيه، والعمل بما فيه. مرقاة المفاتيح (8/ 3114).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«غير الغالي فيه» بغين معجمة أي: غير المتجاوِز الحدِّ في العمل به، وتتبُّع ما خفي منه، واشتبه عليه من معانيه، وفي حدود قراءته ومخارج حروفه، «والجافي عنه» أي: التارك له، البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 347).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قيل: «الغالي» من يبذل جهده في تجويد قراءته من غير تفكُّر وتدبُّر وعملٍ بما فيه، أو المسْرِع في القراءة فحسب، لا يصحح حروفه.
«والجافي عنه» المعْرِض عن تلاوته وعمله، من التجافي بمعنى التباعد... ويجوز أن يقال: الغالي مَن اشتغل بتلاوته، ولا يشتغل أصلًا بتعلم الفقه وسائر العبادات، والجافي الذي لا يشتغل بالقرآن أصلًا، وهو قريب من المعنى الأول. لمعات التنقيح (8/ 254، 255).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«غير الغالي فيه» والغلو تجاوز الحد، يعني غير متجاوز الحد في التجويد وأداء الحروف، «والجافي عنه» أي: التارك لتلاوته. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 263).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
إنما قال ذلك؛ لأن من أخلاقه وآدابه التي أَمَرَ بها: القصد في الأمور، وخير الأمور أوساطها، وكِلَا طرفي قصد الأمور ذميم. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 382).
وقال ابن علان -رحمه الله- بعد أنْ ذَكَرَ كلام ابن الأثير:
قلتُ: لا سيما من أعرض عنه لكثرة النوم والبطالة والإقبال على الدنيا والشهوات، وما أقبح بحامل القرآن أن يتلفظ بأحكامه ولا يعمل بها! فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا. دليل الفالحين (3/ 212).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«غير الغالي فيه والجافي عنه» الغالي فيه: هو المتجاوز للحدِّ، ويكون ذلك بالتَّكلف والتَّنطع، أنْ يتكلف في قراءته أَو يتكلف في معانيه، وكذلك الجافي عنه الذي يَهمله ويَهجره ولا يبالي، فالغالي والجافي ضدان، الغالي في جانب الإفراطِ والجافي في جانب التّفريط، فهذا مفرِط وهذا مفرَّط، فالغالي مُفْرِط؛ لأنه متجاوز للحدِّ، والجافي مُفرَّط؛ لأنه متساهل ومتهاون وغافل وغير مقبل عليه، وغير مشتغل بقراءته.شرح سنن أبي داود(549)
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فالغُلُو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقَصد هو المأمور به. الحكم الجديرة بالإذاعة (ص: 47).
قوله: «وإكرام ذي السلطان المقسط»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وإكرام ذي السلطان المقسط» بضم الميم، أي: العادل في حكمه بين رعيته. شرح سنن أبي داود (18/ 547).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
هو الذي يتبع أمر الله؛ بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط. التوشيح شرح الجامع الصحيح (2/ 687).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإكرام ذي السلطان المقسط» العادل؛ فإن له حقًّا على رعيته يلزم به إكرامه وتوقيره. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 563).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«وإكرام ذي السلطان» لأنه ذو قهر وغلبة، وقيل: ذو الحجة؛ لأنه تقام به الحجج، «المقسط» أي: العادل. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 115، 116).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قال ابن العماد: وإنما خُصَّت هذه الثلاث المذكورة في الحديث؛ لأنها راجعة إلى أوصاف الرب -عَزَّ وَجَلَّ-، فذو الشيبة حصل له كبر السن، والباري -سبحانه وتعالى- له الكبرياء، وحامل القرآن كذلك؛ لأن القرآن كلام اللّه، وكلامه صفته، فكأنه اتصف بشيء من صفات الرب -عَزَّ وَجَلَّ-، ولَبِسَ بها حلة الكرامة، فوجب أن يُعامل بالإجلال والمهابة، وكذلك الإمام المقسط، يعني السلطان العادل؛ لما اتصف بالعدل الذي ضد الجور، والعدل من صفاته عَزَّ وَجَلَّ، وجب أن يُعامل بالإجلال وبالسمع والطاعة والمبادرة إلى امتثال أمره ونهيه؛ لأنه أمر بأمر اللّه تعالى. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (2/ 21).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولعل عدم ذِكر الوالد في (هذا) الحديث لظهوره وعمومه، أو لأن الكلام في الأجانب، فإذا كان الأب شيخًا، وحاملًا للقرآن، وسلطانًا ظاهريًا، فيزداد إجلاله؛ لأنه يجب تعظيمه من وجوه كثيرة. مرقاة المفاتيح (8/ 3115).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: إكرام هؤلاء الثلاثة مما يرضاه الله تعالى، ويثيب عليه. تطريز رياض الصالحين (ص: 243).