«تُوفيَ رجلٌ بالمدينةِ، فصلَّى عليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا ليْتَه مات في غير مَوْلِدِه، فقال رجلٌ من الناسِ: لمَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الرَّجلَ إذا تُوفِّي في غيرِ مَوْلِدِهِ قِيْسَ له من مَوْلِدِهِ إلى مُنْقَطَع أَثَرِهِ في الجنةِ».
رواه أحمد برقم: (6656) واللفظ له، والنسائي برقم: (1832)، وابن ماجه برقم: (1614)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (1616)، صحيح سنن النسائي برقم: (1728).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غير مَوْلِده»:
أي: بأرض غير الأرض الذي وُلد بها. فيض القدير، للمناوي (2/336).
«قِيْسَ له»:
أي: تُذْرَعُ له. فيض القدير، للمناوي (2/336).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أي: قُدِّر له. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/242).
«مُنْقَطَعِ أَثَره»:
أي: إلى موضع قَطْعِ أجَلِهِ، وسُمِّي الأثر أجلًا لأنه يَتْبَع العمر. الكاشف عن حقائق السنن، للطيبي (4/ 1359).
شرح الحديث
قوله: «توفي رجل بالمدينة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تُوفي» أي: مات «رجل بالمدينة ممن وُلِدَ بها». مرقاة المفاتيح (3/1154).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«ممن ولد بها» من أهلها. فتح الإله في شرح المشكاة (5/482).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«توفي رجل» من المسلمين «بالمدينة» حالة كون ذلك الرجل «ممن ولد بالمدينة» وتوفي فيها. مرشد ذوي الحجا والحاجة (9/ 430).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ووقع في الكبرى: «سَنَة وُلد بها» وهو تصحيف. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/ 242).
قوله: «فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ليته مات في غير مولده»:
قال السندي -رحمه الله-:
«يا ليته مات بغير مولده»؛ لعله -صلى الله عليه وسلم- لم يُرِدْ بذلك: يا ليته مات بغير المدينة، بل أراد: يا ليته كان غريبًا مهاجرًا بالمدينة، ومات بها؛ فإن الموت في غير مولده فيمن مات بالمدينة كما يتصور بأن يُولد في المدينة ويموت في غيرها، كذلك يتصور بأن يولَد في غير المدينة ويموت بها، فليكن التمني راجعًا إلى هذا الشِّقِّ؛ حتى لا يخالف الحديث حديث فضل الموت بالمدينة المنورة. حاشية السندي على سنن النسائي (4/8).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله متعقبًا-:
لكن ظاهر الحديث ينافي التأويل المذكور؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تمنَّى لرجل ولد بالمدينة ومات بها أن يموت غريبًا منها، فتأويله بأن يُراد أن يُولد بغير المدينة، ويموت بها بعيد، بل الأَولى أن يقال: حديث فضل الموت بالمدينة أقوى منه، فيُقدم عليه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/242).
قوله: «فقال رجل من الناس: لمَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الرجل إذا تُوُفِّي في غير مولده»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«إنَّ الرَّجل» يعني الإنسان «إذا مات بغير مَوْلِدِه» أي: بغير المحل الذي ولد فيه، بأن مات غريبًا سواء كان في سفر أو في إقامة بغير وطنه. مرعاة المفاتيح (5/281).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إن الرجل إذا مات بغير مولده» محل ولادته. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 457).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
أي: غريبًا سواء أكان في سفر أم إقامة. الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد (7/53).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
(وفي رواية) «قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟» أي: لأي شيء تمنَّيت له الموت في غير مولده؟ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (18/242).
قوله: «قِيْسَ له من مولده إلى مُنْقَطَع أَثَره في الجنة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«قِيْسَ له» من القياس: التقدير، أي: قَدَّرَ له الرب تعالى أو ملائكته «من مولده إلى أن ينقطع أثره» محل انقطاع أثره، وهو محل وفاته، «في الجنة» متعلق بـ«قِيْسَ» له؛ وذلك لغُرْبَته عن محل ولادته، والمراد: إذا تغرَّب بطاعةٍ مِن غَزْوٍ أو طلب علم أو نحو ذلك، بل ظاهره مطلق الغربة، ولو في مباح أو معصية، لكن تخرج المعصية بدليل آخر، وظاهره ولو كان معه أهله. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 457).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«قِيْسَ له» أي: أَمَرَ الله ملائكتَه أن تَقِيْسَ، أي: تَذْرَع له «من مولده إلى مُنْقَطَعِ» بفتح الطاء «أَثَرِهِ» أي: إلى موضع انتهاء أجله، سُمي الأجل أثرًا؛ لأنه يَتْبَع العمر، وقوله: «في الجنة» متعلق بـ«قِيْسَ» يعني: من مات في غربته يُفسَح له في قبره بقدر ما بين قبره ومولده، ويُفتح له باب إلى الجنة؛ وذلك لأنه تحامل على نفسه بِتَجَرُّع مرارة مفارقة الأِلْف والخِلَّان والأهل والأوطان، ولم يجد له مُتَعَهِّدًا في مرضه غالبًا، ولم يحضره إذا احتضر أحد ممن يلوذ به، فإذا صبر على ذلك محتَسِبًا جُوزي بما ذُكر. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 284).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«قِيْسَ له» أي: ذُرِعَ له بالذراع الذى يُقاس به. الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد (7/53).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «قِيْسَ له» أي: قُدِّرَ له إلى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ. لمعات التنقيح (4/62).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«قِيْسَ له» أي: أَمَرَ الله الملائكة أن تَقِيْسَ له أي: تُذْرَع له. مرعاة المفاتيح (5/281).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قِيْسَ له» أي: حُسِبَ لأجله، أي: قَاسَت الملائكة لأجله قَدْرَ المسافة التي «مِن مولده» أي: من المكان الذي ولد فيه. مرشد ذوي الحجا والحاجة (9/431).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إلى مُنْقَطَعِ أثره» أي: إلى موضع قطع أجله. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1359).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الأثرُ: الأجَل، وسُمّي به لأنَّه يتبعُ العُمُرَ. النهاية (1/ 23).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وأصله أيضًا من أَثَرِ الأقدام، فإنْ مات لا يبقى لأَقْدَامه أَثَر، فافهم. لمعات التنقيح (4/ 62).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
قوله: «مُنْقَطَعِ أثره» الأَثَر: الأجل، سُمي به؛ لأنه يتبع العمر، وقال زهير بن أبي سلمى:
لو كنتُ أعجب من شيء لأَعْجَبَني *** سعي الفتى وهو مخبوٌّ له القدرُ
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها *** والنّفس واحدة والهمّ منتشرُ
والمرء ما عاش ممدود له أمل *** لا تنتهي العين حتّى ينتهي الأثرُ. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير، مخطوط، لوح (202) و(203).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«أَثَرِهِ» أي: إلى موضع قطع أجله، فالمراد بالأثر الأجل؛ لأنه يتبع العمر. مرعاة المفاتيح (5/281).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إلى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ» أي: إلى المكان الذي انقطع وتَمَّ فيه أثره وأجله؛ أي: حُسِبَ له قَدْر مسافة ما بين مولده ومحل موته. مرشد ذوي الحجا والحاجة (9/431).
وقال السندي -رحمه الله-:
ويحتمل: أن المراد إلى منتهى سفره ومشيه. حاشية السندي على سنن النسائي (4/8).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
ويحتمل: أن يكون المراد إلى موضعٍ انقطع فيه سفره، وانتهى إليه، فمات فيه، يعني: إلى منتهى سفره ومشيه، فالمراد أثر أقدامه. مرعاة المفاتيح (5/282).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال ميرك: ويحتمل: أن يكون المراد بِمُنْقَطَعِ أَثَرِهِ محل قطع خطواته...
وقال بعضهم: مُنْقَطَع أثره هو قبره، وفيه نظر. مرقاة المفاتيح (3/1154).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قلتُ: ويحتمل أن المراد: منتهى أثره ومشيه. مرشد ذوي الحجا والحاجة (9/431).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
يعني: من مات في الغربة فيُفسح له في قبره، ويُفتَح مقدار ما بين قبره وبين مولده، ويُفتح له باب إلى الجنة. الكاشف عن حقائق السنن (4/1360).
وقال السندي -رحمه الله-:
وظاهره أنه يُعْطَى له في الجنة هذا القَدْر؛ لأجل موته غريبًا.
وقيل: المراد أنه يُفسح له في قبره بهذا القَدْر، ودلالة اللفظ على هذا المعنى خفية. حاشية السندي على سنن النسائي (4/8).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله- متعقبًا:
وظاهر العبارة: أنه يُعطى له في الجنة مكان هذا المقدار، وهذا ليس بمراد، فإن هذا المقدار من المكان لا اعتبار به في جَنْبِ سعة الجنة، إلا أن يقال: المراد ثوابُ عَمَلٍ عَمِلَهُ في مثل هذه المسافة، لا يختص بعمله في مولده. لمعات التنقيح (4/62).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفيه: أنه فرَّق بينهما، وظاهره تخصيص أهل المدينة من عموم ما اتفق عليه العلماء؛ من أن الموت بالمدينة أفضل من مكة، مع اختلافهم في أفضلية المجاورة فيهما. مرقاة المفاتيح (3/1154).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وفيه: فضل كبير في الموت في الغربة، وظاهر الحديث: أنه متى مات في غير محل ولادته كان له ذلك، وإن وُلد بغير وطنه أو بوطنه وعقب ذلك انتقل عنه، وتَوَطَّن بغيره وأَلِفَه، ولم يصر يلتفت لمحل ولادته رأسًا، لكن المعنى في ذلك وهو أن من شأن الميت غريبًا أن يكون ذليلًا منكَسِرًا لمفارقته أهله ووطنه، فيقتضي اختصاص ذلك بمن يصدق عليه أنه مات غريبًا. فتح الإله في شرح المشكاة (5/482).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وفي الجنة» متعلق بمحذوف. مرعاة المفاتيح (5/282).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «من الجنة» متعلق بـ«قِيْسَ». الكاشف عن حقائق السنن (4/1360).