«يُسلِّمُ الراكبُ على الماشي، والماشي على القاعدِ، والقليلُ على الكثيرِ».
رواه البخاري برقم: (6232)، ومسلم برقم: (2160)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وزاد البخاري في رواية برقم: (6231): «يُسلِّمُ الصغيرُ على الكبيرِ».
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «يُسلِّمُ الراكبُ على الماشي»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
وسلام الراكب على الماشي؛ لئلا يتكبر بركوبه على الماشي، فأُمر بالتواضع. شرح صحيح البخاري (9/ 15).
وقال المازري -رحمه الله-:
وإنما شُرع سلام الراكب على الماشي لفضل الراكب عليه من باب الدنيا، فعدل الشرع بأن جعل للماشي فضيلة أن يُبدأ، واحتياطًا على الراكب من الكِبْر والزهو إذا حاز الفضيلتين، وإلى هذا المعنى أشار بعض أصحابنا، وإذا تلاقى رجلان كلاهما مارٌّ في طريق بدأ الأدنى منهما على الأفضل؛ إجلالًا للفضل وتعظيمًا للخير؛ لأن فضيلة الدين مرعية في الشرع مقدَّمة. المعلم بفوائد مسلم (3/ 149).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فيَبدأ الراكب بالسلام على الماشي؛ لعلو مرتبته؛ (و)لأن ذلك أبعد له من الزهو. المفهم (5/ 484).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا التقى راكب وراجِل في الطريق ليسلِّم الراكب على الراجل؛ لأن السلام معناه سلامة من تُسلِّم عليه من شِرِّك، وكان الشخصان إذا التقيا ربما يخاف كل واحد منهما الآخر، وربما يخاف أحدهما فقط، فليسلِّم غير الخائف على الخائف، والظاهر أن الراكب لا يخاف من الراجل، بل الراجل يخاف من الراكب، فإذا كان كذلك فليسلم الراكب على الراجل؛ ليزيل الخوف من قلب الراجل، فيحتمل أن يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الراكب بابتداء السلام على الماشي، والماشي بابتداء السلام على القاعد؛ لإزالة الخوف.
ويحتمل أن يأمرهما بابتداء السلام للتواضع؛ فإن تسليم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد أقرب إلى التواضع من العكس. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 121).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«يسلم الراكب» إنما يستحب ابتداء السلام للراكب؛ لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف بين الملتَقِيَيْن إذا التقيا أو من أحدهما في الغالب، أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن، أو لمعنى التعظيم؛ لأن السلام إنما يقصد به أحد الأمرين: إما اكتساب ودٍّ، أو استدفاع مكروه، قاله أقضى القضاة الماوردي. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3038).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معلقًا على ما نقل عن الماوردي:
قلتُ: أما التواضع ففي الكل موجود ولو انعكس الوجود، ولذا قالوا: ثواب المسلِّم أكثر من أجر المجيب، مع أن فعل الأول سُنة وفعل الآخر فرض، فلا بد من ملاحظة معنى آخر في الترتيب المقدم فتدبر. مرقاة المفاتيح (7/ 2938).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«يسلم الراكب على الماشي» أي: تواضعًا حيث رفعه الله بالركوب، ولئلا يظن أنه بهذا خير من الماشي. مرقاة المفاتيح (7/ 2938).
وقال الخولي -رحمه الله-:
الراكب يسلم على الماشي؛ لأن الغرض من السلام استجلاب المودة، ودفع النفرة، وتآلف القلوب، والراكب أحسن حالًا من الماشي، فالبدء من جهته دليل على تواضعه لأخيه المسلم في حال رفعته، فكان ذلك أجلب لمحبته ومودته، وحكمة أخرى: أن السلام تحية الوارد على غيره، والراكب أسرع في السير من الماشي في الأكثر، فكان الوارد عليه فنُدب له الابتداء بالسلام، وإذا تلاقى راكبان أو ماشيان فأيهما أحسن حالًا بدأ أخاه، فإن تساويا بدأ أيهما شاء، وللبادئ فضل على غيره. الأدب النبوي (ص:159).
وقال العراقي -رحمه الله-:
هل يستوي الراكبان، أو يُراعَى علو أحدهما فيسلم حينئذ راكب الجَمل على راكب الفرس، وراكب الفرس على راكب الحمار؟
لم أرَ لأحد لذلك تعرُّضًا، والظاهر أن مثل ذلك لا يعتبر، وقد يكون أحد المركوبين أعلى من الآخر مع استواء جنسهما، ولا شك في أن ذلك غير منظور إليه والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 102).
قوله: «والماشي على القاعد»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«والماشي على القاعد» قال المهلَّب: وتسليم المارّ على القاعد هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام، وكذلك فعل آدم بالملائكة حين قيل له: «اذهب فسلِّم على أولئك؛ نفر من الملائكة جلوس». شرح صحيح البخاري (9/ 15).
وقال المازري -رحمه الله-:
«والماشي على القاعد» وأما بدء المارّ للقاعد فلم أرَ في تعليله نصًا، ويحتمل أن يجري في تعليله على هذا الأسلوب، فيقال: إن القاعد قد يَتوقع شرًّا من الوارد عليه، أو يوجِس في نفسه خيفة، فإذا ابتدأه بالسلام آنس إليه، ولأن التصرف والتردد في الحاجات الدنيوية وامتهان النفس فيها يُنقص من مرتبة المتصاونين والآخذين بالعزلة تورعًا، فصار للقاعدين مزية في باب الدين؛ فلهذا أمر ببدايتهم، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم والتشوُّف إليهم فسقطت البداية عنه، وأُمر بها المار؛ لعدم المشقة عليه. المعلم بفوائد مسلم (3/ 149).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«والماشي على القاعد» وأما الماشي فقد قيل فيه مثل ذلك (أي أنه يزهو) وفيه بُعد؛ إذ الماشي لا يزهو بمشيه غالبًا، وقيل: هو معلَّل بأن القاعد قد يقع له خوف من الماشي؛ فإذا بدأه بالسلام أَمِنَ من ذلك وهذا أيضًا بعيد؛ إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد، فقد يخاف الماشي من القاعد، وأشبه من هذا أن يقال: إن القاعد على حالِ وقار وثبوت وسكون، فله مزية على الماشي بذلك؛ لأن حاله على العكس من ذلك. المفهم (5/ 484).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «والمارّ على القاعد» هو كذا في رواية همام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ: «الماشي»؛ لأنه أعم من أن يكون المار ماشيًا أو راكبًا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي وصححه والنسائي وصحيح ابن حبان بلفظ: «يسلِّم الفارس على الماشي، والماشي على القائم»، وإذا حُمل القائم على المستقِر كان أعم من أن يكون جالسًا أو واقفًا أو متكئًا أو مضطجعًا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعدَّدت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى مارَّان راكبان أو ماشيان، وقد تكلم عليها المازري فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرًا في الدِّين إجلالًا لفضله؛ لأن فضيلة الدِّين مرغَّب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكبُ الفرس، أو يكتفى بالنظر إلى أعلاهما قدرًا في الدين فيبتدؤه الذي دونه، هذا الثاني أظهر، كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرًا من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطانًا يُخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجِرَين في أبواب الأدب، وأخرج البخاري في (الأدب المفرد) بسند صحيح من حديث جابر قال: «الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل». فتح الباري (11/ 15- 16).
وقال الخولي -رحمه الله-:
«والماشي على القاعد» الماشي يسلّم على القاعد؛ لأن السلام تحية الوارد عُرفًا وَوَضْعًا، والوارد هنا هو الماشي، ثم إن القاعد قد يَتوقَّع الشر من القادم عليه، فإذا بدأه بالسلام أزال الخوف عنه، وحكمة ثالثة: أن القاعد قد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم، فسقطت البداءة عنه دفعًا للمشقة. الأدب النبوي (ص:160).
قوله: «والقليل على الكثير»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» قال المهلب: وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا؛ لأن حق الكثير أعظم من حق القليل، وكذلك فَعَل أيضًا آدم؛ كان وحده والملأ من الملائكة كثير حين أُمِر بالسلام عليهم. شرح صحيح البخاري (9/ 15).
وقال المازري -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» وأما بداية القليل للجماعة الكثيرة فيحتمل أيضًا أن تكون الفضيلة للجماعة، ولهذا قال الشرع: «عليكم بالسواد الأعظم» و«يد الله مع الجماعة»، فأَمَر ببدايتهم؛ لفضلهم، أو لأن الجماعة إذا بَدؤوا الواحد خيف عليه الكِبْر والزهو، فاحتيط له بأن لا يُبدأ، وقد يحتمل غير ذلك، لكن ما ذكرناه هو الذي يليق بما قدمناه عنهم من التعليل، ولا تحسن معارضة مثل هذه التعاليل بآحاد مسائل شذت عنها؛ لأن التعليل الكلي لوضع الشرع لا يتطلب فيه ألا يشذ عنه بعض الجزئيات. المعلم بفوائد مسلم (3/ 149- 150).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» وأما ابتداء القليل بالسلام على الكثير فمراعاة لِشَرَفِيَّةِ جَمْعِ المسلمين وأكثريتهم. المفهم (5/ 484).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» وأما أمره -صلى الله عليه وسلم- الجمع القليل بابتداء السلام على الجمع الكثير فسببه: تعليم الأُمَّة أن يعظِّم القليل الكثير، وسبب بداية التسليم: إما إزالة الخوف، أو التواضع، أو تعظيم الصغير الكبير والقليل الكثير. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 122).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» رعاية للأدب؛ لأن التعظيم من القليل إلى الكثير. شرح المصابيح (5/ 156).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» أي: للتواضع المقرون بالاحترام والإكرام المعتبَر في السلام، مع أن الغالب وجود الكبير في الكثير. مرقاة المفاتيح (7/ 2938).
وقال الخولي -رحمه الله-:
«والقليل على الكثير» القليل يسلم على الكثير، ولعل الحكمة في ذلك: أنه إذا بدأ الكثير بالسلام على القليل خيف على هذا أن يُداخله شيء من الكِبْر لسلام الكثير عليه، ومن جهة أخرى: العدد القليل أسرع مشيًا من الجمع الكثير في الغالب، فكان كالوارد عليه والسلام تحية الوارد، ومن جهة ثالثة: بدء القليل أيسر كُلفة فكان أولى. الأدب النبوي (ص:160).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «والقليل على الكثير» يعني: إذا كانت هناك جماعة كثيرة فالقليلون هم الذين يسلِّمون على الكثيرين. شرح سنن أبي داود (591/ 3).
قوله: «يُسلِّمُ الصغير على الكبير»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«يُسلِّمُ الصغير على الكبير» قال المهلب: وأما وجه تسليم الصغير على الكبير: فمن أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير. شرح صحيح البخاري (9/ 15).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله «ليسلم الصغير على الكبير» صريح في الأمر، وتبين به أن قوله في رواية الصحيحين وغيرهما: «يسلِّم» لفظه خبر ومعناه الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} البقرة: 233، وهو أمر استحباب ...
الظاهر أن المراد الصغر في السن، وقد يراد الصِّغَر في القَدْر فقد يتميز صغير السن على كبيره بأمور ترجِّحه عليه، وقد يقال: المراد صغر السن، وأما صغر القَدْر فملحق به، وحينئذٍ فلو تعارضا قُدِّم صغر السن المنصوص على صغر القدر المقِيْس، والمراد السن الحاصل في الإسلام كما اعتبره الفقهاء في التقديم للإمامة في الصلاة بكبر السن. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 102).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنّ الرَّجل إذا لقي الرَّجل في الطريق فسلَّم عليه فقد أَمَّنه؛ فلكون الفارس أقوى من الراجل أَمَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يسلم الأقوى على الأضعف؛ ليكون الأَمَان من الأقوى، وكذلك الماشي على القاعد؛ لأن الماشي يأتي على القاعد ويمرُّ به، فأما تسليم القليل على الكثير؛ فإنه إذا نطق القليل بما يواجه به الكثير شملهم، ولو كان ذلك واجبًا على الكثير؛ لكان كل واحد منهم بمفرده يحتاج أن يسلِّم على القليل، وكان ذلك يطول ويؤدي إلى حرج، وهو في القليل أيسر. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 339).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الراكب بالإضافة إلى الماشي كأنه مارّ على قاعد لمكان إسراعه، وكذلك الماشي مع القاعد، والمراد من السلام الأَمَان، والماشي يخاف الراكب، والقاعد يخاف الماشي، فأَمَر بالسلام ليقع الأمن، فأما العدد الكثير فله زيادة مَرْتبة بالكثرة، فشُرع تسليم الناقص على الكامل، وكذلك الصغير على الكبير. كشف المشكل (3/ 451).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ثم إن الناس في الابتداء بالسلام إما أن تتساوى أحوالهم، أو تتفاوت؛ فإن تساوت فخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام كالماشي على الماشي، والراكب على الراكب، غير أن الأَوْلى مبادرة ذوي المراتب الدينية كأهل العلم والفضل؛ احترامًا لهم وتوقيرًا، وأما ذوي المراتب الدنيوية المحضة فإنْ سلَّموا يُرَدُّ عليهم، وإن ظهر عليهم إعجاب أو كِبْر فلا يسلم عليهم؛ لأن ذلك معونة لهم على المعصية، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يُبدؤوا بالسلام، وابتداؤهم هم بالسلام أولى بهم؛ لأن ذلك يدل على تواضعهم، وإن تفاوتت (المراتب) فالحكم فيها على ما يقتضيه هذا الحديث...
وهذه المعاني التي تكلَّف العلماء إبرازها هي حِكَم تناسب المصالح المحسنة والمكملة، ولا نقول: إنها نصبت نصب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يُعدل عنها، فنقول: إن ابتداء القاعد للماشي غير جائز، وكذلك ابتداء الماشي الراكب، بل يجوز ذلك؛ لأنه مظهر للسلام، ومفشٍ له كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أفشوا السلام بينكم»، وبقوله: «إذا لقيت أخاك فسلم عليه»، وإذا تقرر هذا فكل واحد من الماشي والقاعد مأمور بأن يسلم على أخيه إذا لقيه، غير أن مراعاة تلك المراتب أولى، والله أعلم. المفهم (5/483- 484).
وقال النووي -رحمه الله-:
وهذا الذي جاء به الحديث من تسليم الراكب على الماشي والقائم على القاعد والقليل على الكثير وفي كتاب (البخاري): والصغير على الكبير كله للاستحباب، فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل.
وأما معنى السلام فقيل: هو اسم الله تعالى، فقوله: السلام عليك أي: اسم السلام عليك، ومعناه: اسم الله عليك أي: أنت في حِفْظه، كما يقال: الله معك، والله يصحبك، وقيل: السلام بمعنى السلامة أي: السلامة ملازمة لك. شرح مسلم (14/141).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فالمناسب أن يسلم الكبير على الصغير والكثير على القليل؛ لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير.
قلتُ: حيث كان الغالب في المسلمين أَمْن بعضهم من بعض لوحظ جانب التواضع الذي هو لازم السلام، وحيث لم يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاق التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعًا إلى ما هو الأصل من الكلام ومقتضى اللفظ.
فإن قلتَ: إذا كان المشاة كثيرًا والقاعدون قليلًا فباعتبار المشي السلام على الماشي، وباعتبار القلة على القاعد، فهما متعارضان فما حكمه؟
قلتُ: تساقط الجهتان فحكمه حكم رجلين التقيا معًا فأيهما يبدأ بالسلام فهو خير له، أو يرجّح ظاهر أَمْن الماشي، وكذلك الراكب فإنه موجب الأمان؛ لتسلطه وعلوه. الكواكب الدراري (22/ 78).
وقال العراقي -رحمه الله-:
متى تمكَّن المأمور من هذه الأحاديث (أي: أحاديث السلام) بالابتداء منه فلم يبتدئ كان تاركًا للسنة، وأما الآخر فلا حرج عليه في المبادرة؛ لأن الأمر بالابتداء لم يتوجه إليه، وقد بادر إلى فعل خير. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 101).
وقال الديوبندي -رحمه الله-:
وجملة الأمر في هذه الأبواب: أن الشارع راعى فيها الجانبين، فحرَّض الماشي أن يسلِّم على القاعد، والراكب على الراجل؛ لئلا يسري الكِبر إلى صاحبه، حرَّض القليل أن يسلم على الكثير؛ رعاية للتعظيم، فقد يقصد من التسليم نقض كِبره حيث يُخاف منه الكِبر، وقد يراد تعظيم المسلَّم عليه حيث يكون موضعه، وهما نظران. فيض الباري على صحيح البخاري (6/ 195).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذه الأحاديث في شيء من آداب السلام ذكرها النووي -رحمه الله- في (رياض الصالحين) في آداب السلام، ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مَن الذي يُسَلِّم، فنقول: أولًا: خير الناس من يبدأ الناس بالسلام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف الخلق يبدأ من لقيه بالسلام، فاحرص على أن تكون أنت الذي تسلم قبل صاحبك ولو كان أصغر منك؛ لأن خير الناس من يبدؤهم بالسلام، وأولى الناس بالله من يبدؤهم بالسلام، فهل تحب أن تكون أولى الناس عند الله؟ كُلّنا يحب ذلك، إذن فابدأ الناس بالسلام، ثم ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الراكب يسلم على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير؛ وذلك لأن الراكب يكون مُتعلِّيًا فيُسلم على الماشي، والماشي متعلّيًا على القاعد فيُسلم عليه، والقليل يسلم على الكثير؛ لأن الكثير لهم حق على القليل، والصغير يسلم على الكبير؛ لأن الكبير له حق على الصغير، ولكن لو قُدِّر أن القليلين في غفلة ولم يسلموا فليسلم الكثيرون، ولو قُدِّر أن الصغير في غفلة فليسلم الكبير ولا تُتْرك السنة، وهذا الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس معناه أنه لو سلم الكبير على الصغير كان حرامًا، ولكن المعنى: الأَوْلى أن الصغير يسلم على الكبير، فإن لم يسلم فليسلم الكبير، حتى إذا بادرت بالسلام -كما قلنا من قبل- كان أفضل، وأولى الناس بالله من يبدؤهم بالسلام. شرح رياض الصالحين (4/ 407- 409).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
شَرع الله السلام بين عباده ليستأنسوا، فلا يستوحش مسلم من مسلم، ولينمو الود وتزداد المحبة والتآلف، وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- الْمُطَالَب بالبدء بالسلام؛ لئلا يكون للناس حُجة، ولئلا يُلقي بعضهم التبعة على بعض، ولئلا يتكاسل البعض في انتظار ابتداء البعض، فقال: ليبدأ الصغير سنًا بالسلام على الكبير، والمار ماشيًا أو راكبًا على القاعد والمضطجع، والقليل عددًا على الكثير. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/469).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يسلم الراكب على الماشي» أي: ليسلم الراكب على الماشي.. الخ، فالجملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى، وهذا أدب من آداب السلام ... «و» يسلم «الماشي على القاعد»، وفي رواية للبخاري: «والمار على القاعد» وهو أشمل؛ لأن المار أعم من أن يكون ماشيًا أو راكبًا، ... «و» يسلم «القليل على الكثير» لأن للكثير مزية؛ ولأن توجُّه الأمر بالسلام إلى القليل أخف وأسهل من توجهه إلى الكثير، وقال أبو الليث: إذا دخل جماعة على قوم فإن تركوا السلام فكلهم آثمون في ذلك، وإن سلَّم واحد منهم كفى عنهم جميعًا، وإن سلم كلهم فهو أفضل، وإن تركوا الجواب فكلهم آثمون، وإن رد واحد منهم أجزأهم وبه ورد الأثر، وإن أجاب كلهم فهو أفضل اهـ (تكملة) ... وقد زاد البخاري في هذا الحديث: «ويسلم الصغير على الكبير». الكوكب الوهاج (22/ 88- 90).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وأخرج عبد الرزاق وأحمد بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن شِبْل- بكسر المعجمة، وسكون الموحدة بعدها لام- بلفظ: «يسلِّم الراكب على الراجل، والراجل على الجالس، والأقل على الأكثر، فمن أجاب كان له، ومَن لم يجب فلا شيء له»، «والماشي على القاعد»، وفي لفظ للبخاري: «والمارّ على القاعد»، «والقليل على الكثير» هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدًا، والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدًا، وما فوق ذلك ...
هذا الحديث فيه بيان آداب السلام، وترتيب من يستحق أن يُسلم أولًا. البحر المحيط الثجاج (35/ 474- 478).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قال الإمام أبو داود السجستاني -رحمه الله تعالى-: "بابٌ: مَن أولى بالسلام؟"
سبق ذِكْر أن خير المتلاقيين الذي يبدأ بالسلام، وأن كل واحد يحرص على أن يكون سابقًا بالخير، لكن هناك أحوالًا يكون السلام فيها من بعض الناس أولى من البعض الآخر، أي: يكون السلام من أصحاب حالة وهيئة معينة على أصحاب حالة وهيئة معينة؛ كأن يكون أحدهما ماشيًا والثاني جالسًا، فإن الماشي هو الذي يسلم على الجالس لا العكس، ولهذا قال: «مَن أولى بالسلام؟» يعني: أن هناك أحوالًا للناس إذا مرّ بعضهم على بعض أن يكون بعضهم هو الأولى بأن يسلم، وليس من شأن الجالس أن يُسلم على الماشي، وإنما الماشي هو الذي يسلم على الجالس، هكذا جاء في السُّنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن إذا حصل نسيان أو أن الماشي كان ذاهلًا فإذا سلّم الجالس عليه ونبهه على ما قد حصل له من الذهول فهذا شيء طيب، وأما أن الجالس ينتظر القادم ثم يسلم عليه قبل أن يصل من أجل أن يسبق؛ فقد خالف سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إذًا: يسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماشي على الجالس، فهذه أحوال وهيئات لبعض الناس يكونون فيها هُم أولى بأن يحصل السلام منهم على غيرهم، فيسلم الصغير على الكبير ويحترمه ويوقره، وإذا حصل التلاقي وسَلّم الكبير على الصغير فلا بأس، وكذلك يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الجالس.
فهذا هو الأصل كما جاءت بذلك السُّنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويجوز عكسه؛ ولكنه -بالنسبة للجالس- إذا كان هناك ذهول من الماشي فكونه يُسلم عليه الجالس وينبهه أو يريد أن يتكلم معه ويسلم قبل الكلام، فهذا هو الذي ينبغي، والصغير يوقر الكبير، ويعوَّد على الأخلاق الكريمة، والآداب الحميدة فيما يتعلق بآداب السلام وغيره. شرح سنن أبي داود (591/ 3).