«أَيَعْجِزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فَشَقَّ ذلك عليهم وقالوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصَّمَدُ ثلث القرآن».
رواه البخاري برقم: (5015)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- واللفظ له، ومسلم برقم: (811)، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَيَعْجِزُ»:
العُجُوز، بالضم: الضعف، والفعل كضرب وسمع، فهو عاجز من عواجز. القاموس المحيط (ص: 515).
«فَشَقَّ»:
شق الأمر علينا يشق من باب قتل أيضًا، فهو شاق، والمشقة منه. المصباح المنير، للفيومي (1/319).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
شق عليه الأمر يَشُق شقًا ومشقة: إذا صعب عليه وثقل. تاج العروس (9/ 88).
«يُطِيقُ»:
الإطاقة: القدرة على الشيء. المحكم والمحيط الأعظم، لا بن سيده (6/ 533).
«الوَاحِد»:
الواحد منفرد بالذات في عدم الْمِثْلِ والنظير، والأحد منفرد بالمعنى، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزأ، ولا يُثَنَّى، ولا يقبل الانقسام، ولا نظير له، ولا مِثْل، ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله -عز وجل-. لسان العرب (3/ 451).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الأحد: وهو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر، وهو اسمٌ بُنِيَ لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والهمزة فيه بدل من الواو، وأصله: وحد؛ لأنه من الوحدة. النهاية (1/ 27).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الأَحَد: بمعنى الواحد وهو أَوَّل العدد..، وأَما قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1، فهو بدل من الله؛ لأَن النكرة قد تُبدل من المعرفة. لسان العرب(3/70).
«الصَّمَدُ»:
السَّيد الذي قد انتهى سُودَدُه؛ لأن الناس يَصْمِدُونه في حوائجهم. غريب القرآن، لابن قتيبة (ص: 542).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
الصمد: هو السيد الذي انتهى إليه السودد، وقيل: هو الدائم الباقي، وقيل: هو الذي لا جوف له، وقيل: الذي يُصْمَد في الحوائج إليه، أي: يُقْصَد. النهاية (3/ 52).
شرح الحديث
قوله: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«أيعجِز أحدكم» بكسر الجيم من باب ضرب يضرب، والهمزة للاستفهام الاستخباري. إرشاد الساري (7/464).
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أيعجز أحدكم» الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، ويعجِز بكسر الجيم؛ لأنه من باب ضرب يضرب. عمدة القاري (20/ 34).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
معناه: أَلَا يستطيع أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة؟ منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 81).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
قوله: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟» وكل الناس يعجزون عن ذلك، ولا يستطيع أحد أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة إلا من أعانه الله -عز وجل- على ذلك، وهم فهموا من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنهم يبتدئون من أول سورة الفاتحة إلى أن يتعدوا سورة براءة، حتى يصلوا إلى ثلث القرآن، أي: يقرءون عشرة أجزاء، فلما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك شق ذلك على الصحابة -رضوان الله عليهم-، «وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ؟». شرح رياض الصالحين (94/ 14).
قوله: «فشق ذلك عليهم»:
قال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ» أي: فصُعب عليهم ذلك؛ لأنهم فهموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى قراءة ثلث القرآن في ليلة واحدة. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 81).
وقال الفضيل الشبيهي -رحمه الله-:
«فشق ذلك عليهم»؛ حيث لم يفهموا مراده. الفجر الساطع على الصحيح الجامع (7/ 21).
قوله: «قالوا: أينا يطيق ذلك؟»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قالوا» أي: الصحابة الحاضرون لهذا الخطاب. البحر المحيط الثجاج (16/ 401).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وعلى الرواية الأخرى: قالوا: «وكيف يَقْرَأ؟» أي: أحدنا. مرقاة المفاتيح (4/ 1466).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
قوله: «قالوا: أينا يطيق ذلك؟» أي: أن الأمر صعب عليهم أن يقرؤوا ثلثه، ويمكن أن يقول البعض اليوم: أنا أستطيع أن أقرأ القرآن كله في يوم واحد أو في ليلة واحدة، ولكن قراءة الصحابة كانت على غير ما نقرأ نحن، فقد كانت قراءتهم قراءة تدبر وتفكر، وقراءة أدب مع الله -سبحانه وتعالى-، فكان من الصعب عليهم أن يقرؤوا ثلث القرآن في ليلة، أي: عشرة أجزاء، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر أسهل، فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، وإذا كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، فستكون الفاتحة أعظم من ذلك، والغرض من ذلك بيان أن تحرص على ذلك، فاقرأ فاتحة الكتاب، واقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). شرح رياض الصالحين (94/ 14).
قوله: «فقال: الله الواحد الصَّمَدُ ثلث القرآن»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «فَقَالَ: اللَّهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ» الأحد عند الأكثرين بمعنى: الواحد، وفرَّق قوم فقالوا: الواحد في الذات، والأحد في المعنى. كشف المشكل (2/ 167).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فَقَالَ: اللَّهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ» عند الإسماعيلي من رواية أبي خالد الأحمر، عن الأعمش فقال: يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فهي ثلث القرآن، فكأن رواية الباب بالمعنى، وقد وقع في حديث أبي مسعود المذكور نظير ذلك.
ويحتمل: أن يكون سمى السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الصفتين المذكورتين، أو يكون بعض رواته كان يقرؤها كذلك، فقد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} الإخلاص: 1، 2، بغير {قُلْ} في أولها. فتح الباري (9/ 60).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «الوَاحِدُ الصَّمَدُ» هي قراءة، أو اسمٌ سمى به السورة. التوشيح شرح الجامع الصحيح (7/ 3182).
وقال العيني- رحمه الله-:
قوله: «الوَاحِدُ الصَّمَدُ» كناية عن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فيها ذكر الإلهية والوحدة والصمدية، وفي رواية الإسماعيلي من رواية أبي خالد الأحمر عن الأعمش فقال: يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فهي: ثلث القرآن. عمدة القاري (20/ 34).
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-:
يعني: واحدٌ منفردٌ عن كل مخلوقاته -جلَّ وعلا-، و «أَحَدٌ» اسم مختص بالله -سبحانه وتعالى- لا يُطلق على غيره.
«الصَّمَدُ» اختلفت عبارات المفسرين في معناه، لكن المعنى الجامع لها: أن الصمد هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهو الكامل في علمه، في قدرته، في رحمته، في حلمه، وفي غير ذلك من صفاته، وكذلك هو الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، كل الخلائق تصمد إليه في حاجتها، وتسأله، حتى المشركون إذا كانوا في البحر وماجت الأمواج فإنما يدعون الله وحده، فهو -جل وعلا- مرجع الخلائق كلها، فالصمد إذًا معناه: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. شرح رياض الصالحين (4/ 674).
وقال الملا القاري- رحمه الله-:
«ثُلُثُ القُرْآنِ» بضم اللام وسكونه. مرقاة المفاتيح (4/ 1466).
وقال المازري -رحمه الله-:
قيل: معنى ذلك أن القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وأوصاف لله جلَّت قدرته، و(قل هو الله أحد) تشتمل على ذكر الصفات، فكانت ثلثًا من هذه الجهة.
وربما أسعد هذا التأويل ظاهر الحديث الذي ذكر فيه «أن الله تعالى جزَّأ القرآن».
وقيل: معنى ثلث القرآن لشخص بعينه قصده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: معناه: أن الله يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها، ويكون منتهى التضعيف إلى مقدار ثلث ما يستحق من الأجر على قراءة القرآن من غير تضعيف أجر، وفي بعض روايات هذا الحديث: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حشد الناس وقال سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ: قل هو الله أحد»، وهذه الرواية تقدح في تأويل من جعل ذلك لشخص بعينه. المعلم بفوائد مسلم (1/ 461).
وقال الطيبي- رحمه الله- متعقبًا:
أقول: فعلى هذا لا يلزم من تكريرها على (المعنى) الأول استيعاب القرآن وختمه، ويلزم على الثاني. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1648).
وقال ابن بطال- رحمه الله-:
اختلف العلماء في معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن».
فقال أبو الحسن بن القابسي: لعل الرجل الذي بات يردد (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) كانت منتهى حفظه، فجاء يقلِّل عمله، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها لتعدل ثلث القرآن؛ ترغيبًا له في عمل الخير وإن قلَّ، ولله تعالى أن يجازي عبدًا على يسير بأفضل مما يجازي آخر على كثير.
وقال غيره: معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن» أنَّ الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء:
أحدها: القصص والعبر والأمثال.
والثاني: الأمر والنهي والثواب والعقاب.
والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجعل لقارئها من الثواب كثواب من قرأ ثلث القرآن. شرح صحيح البخاري (10/ 251).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا:
وادعى بعضهم أن قوله: «تعدل ثلث القرآن» يختص بصاحب الواقعة؛ لأنه لما ردَّدها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد.فتح الباري (9/61).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- متعقبًا لمن قال بأنها (خاص) بصاحب الواقعة:
وهذا تأويل فيه بُعد عن ظاهر الحديث، والله أعلم. الاستذكار (2/ 511).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
المراد منه: أن سورة الإخلاص تحتوي على معانٍ من علم التوحيد تقوم من القرآن مقام الثلث من الشيء، وفي كتاب مسلم في بعض طرق هذا الحديث من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الله تعالى جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) جزءًا من أجزاء القرآن¬»، وقد علمنا أن المراد من التجزئة والتقسيم هو: الإشارة إلى أنواع ثلاثة من العلم يشتمل عليها الكتاب، لا المعادلة من طريق النظم والتأليف، ولا يلزم منه أيضًا المساواة في مقادير المعاني والأحكام، فإنك إذا قلتَ: جزّأ فلان ليلَهُ ثلاثة أجزاءٍ، جُزْء للذِّكْرِ، وجُزْء للتلاوة، وجُزْء للصلاة، لم يلزم منه مساواة تلك الأجزاء، ولا مساواة الأعمال الواقعة فيها، فقوله: «يعدل ثلث القرآن» أي: يعدل المعنى الذي هو أحد المعاني الثلاثة التي انقسم عليها جملة الكتاب في تأويل ذلك.
وبيانه -والله أعلم-: أن القرآن بأجمعه ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
التوحيد، ويدخل فيه معرفة الأسماء والصفات.
والنبوات: بطرفي التأييد.
والتعليم والإخبار عمَّا كان، وعمَّا هو كائن، وعمَّا سيكون.
ولما وصف الله تعالى نفسه في هذه السورة بالوحدانية والإلهية، وبأنه مُنزَّه عن المشاركة، متعالٍ عن المشاكلة والمجانسة، مرجوع إليه في الحوائج، ما من شيء إلا وهو يحتاج إلى الله تعالى الواحد الصمّد، وهو غير محتاج إلى شيء، لا أوّل لوجوده، ولا ثاني لذاته، ولا نظير له في صفاته، تفرَّد بالأزلية والقِدَم (لفظ (القديم) ليس من أسماء الله تبارك وتعالى، ويغني عنه اسمه (الأول) "علماء اللجنة الدائمة") والبقاء السرمدية، علمنا أنها محتوية على أصول علم التوحيد الذي هو أحد الأقسام الثلاثة، فرأينا أنها عدلت بثلث القرآن لذلك. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 496/ 497).
وقال ابن الجوزي- رحمه الله-:
وفي معنى كونها ثلث القرآن ثلاثة أقوال:
قال أبو العباس بن شريح: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن؟» قال: إن القرآن أنزل أثلاثًا: فثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات، وقد جُمع في (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد الأثلاث وهو الصفات، فقيل: إنها ثلث القرآن.
والقول الثاني: أن معرفة الله هي معرفة ذاته، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة أفعاله، فهذه السورة تشتمل على معرفة ذاته؛ إذ لا يوجد منه مِثْلٌ، ولا وجد من شيء، ولا له مِثْلٌ، ذكره بعض فقهاء السلف.
والثالث: أن المعنى: مَن عمل بما تضمنته من الإقرار بالتوحيد، والإذعان للخالق، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولم يعمل بما تضمنه، ذكره ابن عقيل، قال: ولا يجوز أن يكون المعنى: من قرأها فله أجر قراءة ثلث القرآن؛ لقول رسول -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات». كشف المشكل (2/ 167).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وفي حديث أبي الدرداء: أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن» أي: تساويه؛ لأن معاني القرآن آيلة إلى تعليم ثلاثة علوم:
علم التوحيد.
وعلم الشرائع.
وعلم تهذيب الأخلاق وتزكية النفس، وسورة الإخلاص، تشمل على القسم الأشرف منها، الذي هو كالأصل والأساس للقسمين الآخرين، وهو علم التوحيد على أبين وجه وآكده. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 529-530).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وأما توجيه ذلك (الحديث): فقد قالت طائفة من أهل العلم: إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي. و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، هي صفة الرحمن ونسَبه، وهي متضمنة ثلث القرآن؛ وذلك لأن القرآن كلام الله تعالى، والكلام: إما إنشاء وإما إخبار، فالإنشاء هو: الأمر والنهي وما يتبع ذلك، كالإباحة ونحوها، وهو الإحكام.
والإخبار: إما إخبار عن الخالق، وإما إخبار عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق: هو التوحيد وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته.
والإخبار عن المخلوق: هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء وأممهم ومَن كذَّبهم، والإخبار عن الجنة والنار والثواب والعقاب.
قالوا: فبهذا الاعتبار تكون (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن؛ لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن. مجموع الفتاوى (17/ 206-208).
وقال المظهري-رحمه الله-:
قال المفسرون في تفسير هذه السورة في معنى هذا الحديث: إنما قال رسول الله -عليه السلام-: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن» لأن القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء:
أحدها: توحيد الله وصفاته.
والثاني: تكليف العباد من الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام.
والثالث: المواعظ والقصص التي يتعظ بها.
و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد هذه الأقسام الثلاثة، فتكون ثلث القرآن. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 78).
وقال الباجي-رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنها تعدل ثلث القرآن» يحتمل: أن يريد أن للقارئ بها من الأجر ما للقارئ بثلث القرآن.
ويحتمل: أن يريد بذلك لمن لا يُحسن غيرها ومَنَعَه مِن تعلمها عذر.
ويحتمل: أن يريد أن أجرها مع التضعيف يعدل أجر ثلث القرآن من غير تضعيف.
ويحتمل: أن الأجر عليها لذلك القارئ، أو لقارئٍ على صفةٍ مَا من الخشوع، والتفكر والتدبر، وإحضار الفهم، وتجديد الإيمان مثل أجرِ من قرأ ثلث القرآن على غير هذه الصفة، والله يضاعف لمن يشاء، والله أعلم بذلك. المنتقى شرح الموطأ (1/ 353).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- متعقبًا:
قال المحققون من علمائنا: إن القرآن بالنسبة إلى معانيه الكلية على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وأوصاف لله، و(قل هو الله أحد) تشتمل على ذكر أوصاف الحق -سبحانه وتعالى-، فكانت ثُلثًا من هذه الجهة.
قلتُ: وهذا إنما يتم إذا حُقق: أن هذه السورة مشتملة على جميع ذكر أوصافه تعالى، وليس ذلك فيها ظاهرًا، لكنها اشتملت (يعني: السورة) على اسمين من أسمائه تعالى يتضمنان جميع أوصاف كماله -تعالى-، لم يوجَدا في غيرها من جميع السور، وهما: الأحد، والصمد؛ فإنهما يدلان على أحديَّة الذات المقدسة الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظَّمة، وبيانه: أن الأحد والواحد وإن رجعا إلى أصل واحد لغة، فقد افترقا استعمالًا وعرفًا، وذلك: أن الهمزة من أحد منقلبة عن الواو من: وحد، كما قال النابغة:
كأنَّ رَحْلي وقد زَالَ النَّهارُ بنا *** يوم الجليلِ على مُسْتأْنسٍ وَحِد.
فهما من الوحدة، وهي: راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، غير أن استعمال العرب فيهما مختلف، فإن الواحد عندهم أصل العدد، من غير تعرُّض لنفي ما عداه.
والأحد يثبت مدلوله، ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا أكثر ما استعملته العرب في النفي، فقالوا: ما فيها أحد، ولم يكن له كفوًا أحد، ولم يقولوا هنا: واحد، فإن أرادوا الإثبات قالوا: رأيت واحدًا من الناس، ولم يقولوا هنا: أحدًا، وعلى هذا فالأحد في أسمائه -تعالى- مُشْعِرٌ بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره...
وأما الصَّمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصَّمد هو الذي انتهى سؤدده بحيث يُصْمَد إليه في الحوائج كلها، أي: يُقْصَد، ولا يصح ذلك تحقيقًا إلا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا يكمل إلا لله -تعالى-، فهو الأحد الصمد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الإخلاص: 3، 4، فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن، فظهرت خصوصية هذه السورة بأنها ثلث القرآن، كما قررناه، والله أعلم.
وقد كثرت أقوال الناس في هذا المعنى، وهذا أنسبها وأحسنها حسب ما ظهر، فلنقتصر عليه. المفهم (2/ 441-442).
وقال ابن حجر-رحمه الله- معلقًا:
وقال غيره (يعني: غير القرطبي): تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته لله من الأحَدِيَّة المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبِتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المُقَرِّر لكمال المعنى، ونفي الكُفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقادي؛ ولذلك عادلت ثلث القرآن؛ لأن القرآن خبر، وإنشاء، والإنشاء: أمر ونهي وإباحة، والخبر خبر عن الخالق وخبر عن خلقه، فأَخْلَصت سورة الإخلاص الخبر عن الله، وخلَّصت قارئها من الشرك الاعتقادي.
ومنهم: مَن حمل المثلية على تحصيل الثواب، فقال: معنى كونها ثلث القرآن: أن ثواب قراءتها يحصل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن.
وقيل: مثله بغير تضعيف، وهي دعوى بغير دليل، ويؤيد الإطلاق ما أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء فذكر (يعني: مسلمًا) نحو حديث أبي سعيد الأخير، وقال فيه: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، ولمسلم أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «احشدوا فسأقرأ عليكم ثلث القرآن، فخرج فقرأ: قل هو الله أحد، ثم قال: ألا إنها تعدل ثلث القرآن»، ولأبي عبيد من حديث أبي بن كعب: «من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن».
وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك لثلث من القرآن معين؟ أو لأي ثلث فرض منه؟ فيه نظر، ويلزم على الثاني أن من قرأها ثلاثًا كان كمن قرأ ختمة كاملة.
وقيل المراد: من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن، وادعى بعضهم أن قوله: «تعدل ثلث القرآن» يختص بصاحب الواقعة؛ لأنه لما ردَّدها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد.
قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها؛ فلذلك استقلَّ عملَه فقال له الشارع (يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم-) ذلك ترغيبًا له في عمل الخير وإنْ قلَّ، وقال ابن عبد البر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي. فتح الباري (9/ 61).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
أخبرنا أحمد بن محمد وعبيد بن محمد قالا: حدثنا الحسن بن سلمة بن المعلى قال: حدثنا عبد الله بن الجارود قال: حدثنا إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد بن حنبل: حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- «مَن قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فكأنما قرأ ثلث القرآن» فلم يقم لي على أمر بيِّن.
قال: وقال لي: إسحاق بن راهويه: إنما معنى ذلك: أن الله جعل لكلامه فضلًا على سائر الكلام، ثم فضَّل بعض كلامه على بعض، فجعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لغيره من كلامه؛ تحريضًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَه على تعليمه، وكثرة قراءته، وليس معناه أن لو قرأ القرآن كله كانت قراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ذلك إذا قرأها ثلاث مرَّات، لا، ولو قرأها أكثر من مائتي مرَّة.
قال أبو عمر (يعني: ابن عبد البر نفسه): من لم يُجِبْ في هذا أخلص ممن أجاب فيه، والله أعلم. التمهيد (19/ 232).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
قيل: إن ذلك الرجل مخصوص وحده بأنها تعدل ذلك له، وهذه دعوى لا برهان عليها.
وقيل: إنها لما تضمنت التوحيد والإخلاص...، فلو كان هذا الاعتلال وهذا المعنى صحيحًا؛ لكانت كلُّ آية تضمنت هذا المعنى يحكم لها بحكمها، وهذا (ما) لا يقدم العلماء عليه من القياس، وكلهم يأباه. التمهيد (19/ 231).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
«تعدل ثلث القرآن» يعني: أجرها كأجر ثلث القرآن، لكنها لا تجزئ عن القرآن؛ ولهذا لو قرأها الإنسان مثلًا ثلاث مرَّاتٍ بدل قراءة الفاتحة في الصلاة لا تجزئ؛ لأن هناك فرقًا بين المعادلة في الأجر والمعادلة في الإجزاء، فقد يكون الشيء معادلًا لغيره في الأجر ولكنه لا يعادله في إجزائه، أرأيتم مثلًا إذا قال الإنسان: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرَّاتٍ كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، يعني: يعادل عتق أربع رقاب، لكن لو كان عليه عتق رقبة، وقال ذلك ما نفعه ذلك، فهناك فرق بين المعادلة في الثواب والمعادلة في الإجزاء، فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب، ولكنها لا تعدله في الإجزاء، ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرَّاتٍ في الصلاة لم تجزئه عن الفاتحة، والله الموفق. شرح رياض الصالحين (4/ 675-676).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وخالفت طائفة معنى الحديث في (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن: أن الله تعالى جعل القرآن ثلاثة أجزاء فجعل (قل هو الله أحد) منها جزءًا واحدًا، وزعموا أن تلك الأجزاء على ثلاثة معان أحدها: القصص والأخبار، والثاني: الشرائع والحلال والحرام، والثالث: صفاته تبارك اسمه، وفي سورة (قل هو الله أحد) صفاته؛ فلذلك تعدل ثلث القرآن.
واعتلوا بحديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: نحن أعجز من ذلك وأضعف، قال: إن الله جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل (قل هو الله أحد) جزءًا من أجزاء القرآن».
قال أبو عمر (يعني: نفسه): ليس في هذا الحديث حُجة لما ذكروه، ولا فرق بين ثلاثة أجزاء وثلاثة أثلاث، أو ثلاثة سهام؛ لأن ذلك كله معناه واحد، وقد وجدنا في خاتمة سورة الحشر وغيرها من صفات الله أكثر مما في (قل هو الله أحد)، ولم يأت في شيء منها أنها تعدل ثلث القرآن كما جاء في (قل هو الله أحد)، ولما لم تعدل (قل هو الله أحد) في كلماتها ولا في حروفها، إلا أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن، وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفضيل القرآن بعضه على بعض، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه، بل هو فضله -عز وجل- يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته؛ تفضلًا منه على من يشاء منهم، وقد قال الله -عز وجل- {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة 106، ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها، والعاملين بها؛ إما بتخفيف عنهم، وإما بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم؛ لأنها في ذاتها أفضل من غيرها، فكذلك (قل هو الله أحد) خير لنا؛ لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء، ولسنا نقول في ذاتها أفضل من غيرها؛ لأن القرآن عندنا كلام الله، وصفة من صفاته، ولا يدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها، هذا كله قد قاله أهل السنة والرأي والحديث، على أني أقول: إن السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم. الاستذكار (2/ 511-512).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا بعد ذكره أحاديث فيها بأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن:
ونحن نقول بما ثبت عنه (يعني: رسول الله) ولا نَعْدُوه، ونَكِلُ ما جهلنا من معناه إليه -صلى الله عليه وسلم-، فبه عَلِمْنَا ما علمنا، وهو المبيِّن عن الله مُراده، والقرآن عندنا مع هذا كُله كلام الله وصفة من صفاته ليس بمخلوق، ولا ندري لِمَ تعدل ثلث القرآن، والله يتفضل بما يشاء على عباده. التمهيد (19/ 231).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
نحن وإن سلكنا هذا المسلك (يعني: معرفة لماذا جعل الله هذه السورة ثلث القرآن) بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف أن بيان ذلك على الحقيقة إنما يُتلقى مِن قِبل الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه هو الذي ينتهى إليه في معرفة حقائق الأشياء، والكشف عن خفيات العلوم، فأما القول الذي نحن بصدده ونحوم حوله على مقدار فهمنا، وإن سَلِم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الاحتمال. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 506).
وقال الطيبي -رحمه الله- معلقًا على التوربشتي:
والقول الجامع فيه ما ذكره الشيخ التوربشتي -رحمه الله- من قوله: نحن وإنْ سلكنا هذا المسلك... الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1669).
وقال السيوطي- رحمه الله-:
ذهب جماعة إلى أنَّ هذا ونحوه من المتشابِه الذي لا يُدْرَى تأويله، وإلى ذلك نحا أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وإياه أختار، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/ 164).
وقال الصنعاني- رحمه الله-:
الذي يظهر لي أنه ثُلُثٌ في أجر قراءتها لِسِرٍّ يعلمه الله. التحبير لإيضاح معاني التيسير (2/ 461).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قد عُلل كونها تعدل ثلث القرآن بعلل ضعيفة واهية، والأحسن أن يقال: ذلك لسرٍّ لم نطلع عليه، وليس لنا الكشف عن وجهه. تحفة الذاكرين (ص: 412).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وبالجملة فالواجب: علينا أن نقول بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا نستشكل ما صحَّ عنه، ولا نقول: كيف؟ ولا لم؟ بل نكل ما جهلنا وجهه وتعليله إلى العالم الخبير، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فاطر: 14. البحر المحيط الثجاج (16/ 402).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
الذي يظهر لي، ويميل إليه قلبي: ترجيح القول بتفويض حقيقة المعنى المراد بثلث القرآن إلى الله تعالى، كما يشير إليه كلام ابن عبد البر المذكور آنفًا؛ لأن هذه التوجيهات التي ذكروها، والتأويلات التي أوردوها لا تطمئن إليها النفس، ولا ينشرح لها الصدر، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (16/ 408).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
بقي أن يقال: فإذا كانت تعدل ثلث القرآن مع قلة حروفها أكان للرجل أن يكتفي بها عن سائر القرآن؟
فيقال في جواب ذلك: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنها تعدل ثلث القرآن»، وعَدل الشيء -بالفتح- يقال على ما ليس من جنسه، كما قال تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} المائدة: 95، فجعل الصيام عدل كفارة وهما جنسان، ولا ريب أنَّ الثواب أنواع مختلفة في الجنة، فإنَّ كل ما ينتفع به العبد ويلتذُّ به من مأكول ومشروب ومنكوح ومشموم هو من الثواب، وأعلاه النظر إلى وجه الله -تعالى-، وإذا كانت أحوال الدنيا لاختلاف منافعها يحتاج إليها كلها، وإن كان بعضها يعدل ما هو أكبر منه في الصورة، كما أنَّ أَلْفَ دينار تعدل من الفضة والطعام والثياب وغير ذلك ما هو أكبر منها، ثم مَن مَلَكَ الذهب فقد مَلَكَ ما يعدل مقدار ألف دينار من ذلك، وإن كان لا يستغني بذلك عن سائر أنواع المال التي ينتفع بها؛ لأن المساواة وقعت في القدر لا في النوع والصفة، فكذلك ثواب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، وإن كان يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر فلا يجب أن يكون مثله في النوع والصفة، وأما سائر القرآن ففيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما يحتاج إليه العباد؛ فلهذا كان الناس محتاجين لسائر القرآن ومنتفعين به منفعة لا تغني عنها هذه السورة، وإن كانت تعدل ثلث القرآن. مجموع الفتاوى (17/ 206-208).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
ونقل ابن السيد حَمْلَه على ظاهره عن الفقهاء والمفسرين، قال الأُبِّي: وهو الأظهر، وخبر مسلم: «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف؟ قال: {قل هو الله أحد}» ظاهر بل نص في ذلك، وكذا حديث: «احشدوا....» أي: اجتمعوا، قال: ولم يُؤْثِر العلماء قراءتها على السور الطوال؛ لأن المطلوب التدبر والاتعاظ، واقتباس الأحكام. شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 28).
وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور -رحمه الله-:
واختلفت التأويلات التي تأوَّل بها أصحاب معاني الآثار لهذا الحديث ويجمعها أربعة تأويلات:
الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة، أي تعدل ثلث القرآن إذا قُرِئ بدونها، حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله.
الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يُحسن غيرها من سورة القرآن.
الثالث: أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني؛ لأن معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها.
وأقول: إن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي، أو لأنه لا توجد سورة
واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص.
التأويل الرابع: أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب، مثل التأويل الأول ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد في (البيان والتحصيل): أجمع العلماء على أنّ من قرأ: (قل هو الله أحد) ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله اهـ. فيكون هذا التأويل قيدًا للتأويل الأول، ولكن في حكايته الإجماع على أنّ ذلك هو المراد نظر؛ فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد: واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الإشكال، ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض.
وقال أبو عمر بن عبد البر: السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها. التحرير والتنوير(30/٦٢١).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «أيعجز أحدكم» إلى آخره، استنبط منه الداودي التكليف بما لا يَشُقُّ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وفيه: أيضًا أنَّ عدم الترتيب في السور جائز؛ لأنه إذا قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فالترتيب أن يقرأ ما بعدها، فإذا أعادها فكأنه قرأ ما فوقها، وفي حديث أبي الدرداء: «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: نحن أعجز، قال: إن الله جزَّأ القرآن فجعل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) جزءًا من أجزاء القرآن»، وهو شاهد لما أسلفناه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 85).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلاله على مزيد فضل (قل هو الله أحد) لما تضمَّنه من تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به؛ لأنها مع قِصَرها جامعة لصفات الله الأحدية، ومتضمِّنه لنفي ما لا يليق بجلاله من الوالد والولد والنظير، فليس هناك من يمنعه كالوالد، ولا من يساويه كالكُفْءِ ولا من يعينه كالولد، وهذه أصول مجامع التوحيد الاعتقادية.
وفيه: أن الله يعطي على العمل القليل ما لا يعطيه على العمل الكثير. المنهل العذب المورود (8/ 114).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل سورة الإخلاص، وامتيازها بأنها تحوي في معناها ومضمونها ثلث القرآن؛ لاشتمالها على التوحيد الذي هو أحد مقاصد القرآن الثلاثة، وقال بعض أهل العلم: إنها تساوي ثلث القرآن في أجرها وثوابها. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 81).
وقال الشيخ عبد الرحمن السحيم -حفظه الله-:
وفي الحديث: دليل لأهل السنة على إثبات صفات الله -عز وجل-، وأنه مذهب الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد أقرّهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. إتحاف الكرام بشرح عمدة الأحكام (11/ 322).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: إثبات فضل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقد قال بعض العلماء: إنها تضاهي كلمة التوحيد؛ لما اشتملت عليه من الجمل المثبِتة والنافية، مع زيادة تعليل. ومعنى النفي فيها: أنه الخالق الرزاق المعبود؛ لأنه ليس فوقه من يمنعه كالوالد، ولا من يساويه في ذلك كالكُفْءِ، ولا من يعينه على ذلك كالولد.
ومنها: أن فيه إلقاء العالِم المسائل على أصحابه، وإن لم يبدؤوه بسؤالها؛ لأهميتها، وحاجتهم إليها.
ومنها: جواز استعمال اللفظ في غير ما يتبادر للفهم؛ لأن المتبادَر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب مثلًا، وقد ظهر أن ذلك غير مراد هنا.
ومنها: بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في شدة اهتمامه في تعليم أصحابه ما ينفعهم، وإن لم يسألوه، فهو مصداق قوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة: 128، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج 16/ 403-404.
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
وفي هذا الحديث: دلالة ظاهرة على تفاضل كلام الله - تعالى -، وصفته، وهو المأثور عن السلف، وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم، ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك.
قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة: 106، فأخبر تعالى أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فدلَّ على أن الآيات تتماثل مرة وتتفاضل أخرى.
والتوراة، والإنجيل والقران كلها كلام الله تعالى، وقد أجمع المسلمون على أن القرآن أفضلها، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة: 48، أي: هو المؤتمن، والشاهد، والحاكم، على ما سبقه من الكتب.
وأما الأحاديث فكثيرة، من جملتها هذا الحديث، ومَن تأمَّل كلام السلف ومَن سار على نهجهم علم أن هذا من الأمور المستقرة في نفوسهم، ولم يُعرف من السلف من قال: لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض؛ لأنه كله من صفات الله، وإنما حَدَثَ ذلك لما ظهرت البدع من المعتزلة والجهمية ومَن سلك طريقهم الذين اختلفوا في القرآن وجعلوه عضين.
وتفاضل الكلام من جهة المتكلَّم فيه -سواء كان خبرًا أو إنشاء- أمرٌ معلوم بالفطرة والشرع، فليس الخبر المتضمِّن حمد الله والثناء عليه بأسمائه الحسنى كالخبر المتضمن لذكر إبليس وفرعون وأبي لهب ونحوهم، وإنْ كان الكل كلامًا عظيمًا تكلَّم الله به.
وكذلك ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسله، والنهي عن الشرك وقتل النفس بغير حق والزنا وغير ذلك مما أمرت به الشرائع كلها أو حرَّمته كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، أو الأمر بالإنفاق على الحامل، والنهي عن قول: {رَاعِنَا} البقرة: 104، وإن كان لكل واجبًا.
وليس تفاضل الكلام باعتبار نسبته إلى المتكلِّم به؛ فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبيِّنة لمعانيه. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 53) / 54/ 55).
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور -رحمه الله-:
الملفت للنظر أنَّ السورة التي سميت بالإخلاص لا تحوي كلمة الإخلاص بحد ذاتها، على عكس عامة السور التي تحمل عنوانها الحَرفي في تضاعيفها، وهذا من أسرار (الإخلاص) التي جمعت فأوْعَتْ من صفات الله -عزَّ وجلَّ-. تفسير العدل والاعتدال(ص: 1649).