«أَجْمِلُوا في طَلَبِ الدُّنيا، فإنَّ كلًّا مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له».
رواه ابن ماجه برقم: (2133)، واللفظ له. ورواه الحاكم برقم: (2133)، بلفظ: «فإنَّ كُلًّا مُيسرٌ لما كُتِبَ له منها»، من حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (898)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1699).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَجْمِلُوا»:
أي: اكتسبوا بوجه شرعي. مجمع بحار الأنوار، لمحمد طاهر الفتني (2/ 391).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ترفَّقوا في السعي في طلب حظِّكم من الرزق. فيض القدير (3/ 159).
«مُيَسَّرٌ»:
أي: مهيَّأ مصروف مسهل. النهاية، لابن الأثير (5/ 296).
شرح الحديث
قوله: «أجْمِلُوا في طلب الدنيا»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أجملوا» بهمزة قطع مفتوحة، فجيم ساكنة، فميم مكسورة، «في طلب الدنيا» أي: اطلبوا الرزق طلبًا جميلًا بأنْ ترفقوا، أي: تحسنوا السعي في نصيبكم منها، بلا كد وتعب ولا تكالب وإشفاق...، والدنيا: ما دنا من النفس من منافعها وملاذها وجاهها عاجلًا، فلم يُحرم الطلب بالكلية لموضع الحاجة، بل أمر بالإجمال فيه، وهو كان جميلًا في الشرع محمودًا في العُرْف، فيطلب من جهة حلِّه ما أمكن، ومن إجماله: اعتماد الجهة التي هيَّأها الله، ويسرها له، ويسره لها، فيقنع بها، ولا يتعداها، ومنه أن لا يطلب بحرص وقلق وشَرَهٍ وَوَلَهٍ؛ حتى لا ينسى ذكر ربه، ولا يتورط في شبهة، فيدخل فيمن أثنى الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} النور: 37، الآية. فيض القدير (1/ 162).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
أحسنوا فيه بأن تأتوه من وجْهه. مطالع الأنوار (2/ 138).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
وأَجْمَلَ في الطلب إذا لم يحرص. أساس البلاغة (1/ 148).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
أمر بالإجمال في الطلب، ولم يقل: اتركوا الطلب. إحياء علوم الدين (2/ 62).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
بأنْ تطلبوه (الرزق) بالطرق الجميلة المحلَّلة، بغير كدٍّ، ولا حرص، ولا تهافتٍ على الحرام والشبهات. إتحاف السادة المتقين (5/ 417).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال: «أجملوا» وما قال: اتركوا، إشارة إلى أنَّ الإنسان وإن علم أن رزقه المقدَّر له لا بد له منه، لكن لا يترك السعي رأسًا، فإن من عوائد الله تعالى في خلقه تعلق الأحكام بالأسباب، وترتيب الحوادث على العلل، وهذه سنته في خلقه مطردة، وحكمته في ملكه مستمرة، وهو وإن كان قادرًا على إيجاد الأشياء اختراعًا وابتداعًا لا بتقديم سبب، وسبْقِ علة، بأن يُشبع الإنسان بلا أكل، ويرويه بغير شرب، وينشئ الخلق بدون جِماع، لكنه أجرى حكمته بأن الشبع والري والولد يحصل عقب الطعم والشرب والجماع؛ فلذا قال: «أجملوا» إيذانًا بأنه وإن كان هو الرزاق، لكنه قدَّر حصوله بنحو سعي رفيق، وحالة كسب من الطلب جميلة، فجمع هذا الخبر بالنظر إلى السبب والمسبب له؛ وذلك هو الله والرزق والعبد والسعي، وجمع بين المسبب والسبب؛ لئلا يتكل مَن تلبَّس بأهل التوكل، وليس وليس منهم، فيهلك بتأخر الرزق، فربما أوقعه في الكفر؛ ولئلا يَنسب الرزق لسعيه، فيقع في الشرك، فقَرَن في الخطاب بين تعريف اعتلاق الأشياء بالمسبب اعتلاقًا أصليًّا، واعتلاقها بالسبب اعتلاقًا شرعيًّا؛ ليستكمل العبدُ حالة الصلاح مستمرة، وتثبت له قضية الفلاح مستقرة، وقد عرف مما سبق أن من اجتهد في طلب الدنيا، وتهافت عليها شَغَلَ نفسه بما لا يجدي، وأتعبها فيما لا يغني، ولا يأتيه إلا المقدور، فهو فقير وإن ملك الدنيا بأسرها، فالواجب على المتأدب بآداب الله تعالى أن يكل أمره إلى الله تعالى، ويسلم له، ولا يتعدى طوره، ولا يتجرأ على ربه، ويترك التكلُّف، فإنه ربما كان خذلانًا، ويترك التدبير (ترك التدبير من شطحات الصوفية) فإنَّه قد يكون هوانًا:
والمرء يُرزق لا من حيث حيلته *** ويُصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
وقال بزرجمهر: وكَّل الله تعالى الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل؛ ليُعلم أنه لو كان الرزق بالحِيَل لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه، والاحتيال لكسبه، الْتَقَى ملكان فتساءلا فقال أحدهما: أُمرت بِسَوْقُ حوت اشتهاه فلان اليهودي، وقال الآخر: أُمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. فيض القدير (1/ 162).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: اطلبوا الرزق طلبًا جميلًا، لا حرص ولا تكالب ولا إسفاف على الدنايا، ولا إشراف على الأموال، فإن الرزق الذي قُدِّر لكم سيصل إليكم ولكن بطلب جميل. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/ 547، 548).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: أحسنوا في طلب الرزق؛ أي: اطلبوه من الحلال. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 311).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: اكتسبوا المال بوجه جميل، وهو أن لا تطلبه إلا بالوجه الشرعي. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3337).
وقال المناوي -رحمه الله-:
اطلبوا الرزق طلبًا رفيقًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 417).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحلَّلة، بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات، أو غير مُنْكَبِّين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به، أو بأن لا تُعَيِّنوا وقتًا ولا قدرًا؛ لأنه تحكم على الله، أو اطلبوا ما فيه رضا الله، لا حظوظ الدنيا، أو لا تستعجلوا الإجابة. شرح الموطأ (4/ 394).
وقال السندي -رحمه الله-:
أجْمَلَ في الطلب: إذا اعتدل ولم يفرط. كفاية الحاجة (2/ 2).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أجملوا» واقتصدوا «في طلب الدنيا» ولا تحرصوا عليها، يقال: أجمل في الطلب؛ إذا اعتدل ولم يُفْرِطْ. مرشد ذوي الحجا والحاجة (12/ 362).
قوله: «فإن كلًّا مُيَسَّر لما خلق له»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن كلًّا» التنوين بدلٌ من المضاف إليه، أي كل مخلوق أو واحد أو إنسان «مُيسَّر لما كُتب له منها» أي: مستهل له ما سبق به الكتاب من حظوظ الدنيا، فلا يأتي الاجتهاد بزيادة ما سبق به الكتاب، ففيه ندبية الطلب أو وجوبه، والنهي عن الاجتهاد والكَدِّ. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 379).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن كلًّا» أي: كل واحد من الخلق «ميسر» مهيأ مصروف «لما كُتب» أي: قُدِّر «له منها» يعني: الزرق المقدَّر له سيأتيه، ولا بد، فلا فائدة لإجهاد النفس. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 37).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
فإنَّ الله تعالى قسَّم الرزق وقدَّره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه الأزلي، وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللوح أو الصحف، بحسب تعليق بشرط. فيض القدير (1/ 162).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فإن كلًّا» منكم أو من الرزق «ميسر» بصيغة اسم المفعول، أي: مُهَيَّأٌ. مرشد ذوي الحجا والحاجة (12/ 362).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: مهيأ لما خُلق لأجله، قابل له بطبعه. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 218).
وقال السندي -رحمه الله-:
«مُيسَّرٌ» أي: مُهيَّأ «لما خُلق له» أي: فيجعل له ذلك من غير تعب، فلا فائدة في إيقاع نفسه في التعب كثيرًا. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 2-4).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
أي: موفَّق ومهيَّأ لما خُلق له، أي لأمر قُدِّرَ ذلك الأمر له من الخير والشر. تحفة الأحوذي (8/ 423).
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
«مُيَسَّرٌ لما خُلق له» من مصالح الدين والدنيا ومضارهما، والسعيد من يَسَّره الله لأيسر الأمور، وأقربها إلى رضوان الله، وأصلحها لدينه ودنياه، والشقي من انعكس عليه الأمر. بهجة قلوب الأبرار (ص: 147).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ميسّر» أي: موفَّق «لما خُلق» أي: لعمل ما خُلق «له» من الجنة والنار، فعلى المكلَّف أن يواظب في الأعمال الصالحة؛ فإن عمله أمارة على ما يؤول إليه أمره غالبًا. الكوكب الوهاج (24/ 532).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
إشارة إلى تصريف الإنسان في أفعاله إلى ما يراد منه، بحسب القدر الجاري عليه، المستند إلى سابق العلم فيه، بحسب خَلق الدواعي والصوارف فيه. التعيين في شرح الأربعين (1/ 87).
وقال المظهري -رحمه الله-:
فكل واحد يجري عليه من الأفعال ما قُدِّر له من الخير والشر، كما أن الأرزاق تأتي عليهم بقَدْرِ ما قُدِّر لهم، يعني: أنتم عبيد، ولا بد لكم من العبودية، فلا تتركوا العبودية؛ فإن الله تعالى إذا رزقكم الإسلام يرزقكم العمل الصالح وييسره عليكم. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 185).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ومن هنا يُعلم بطلان قول من قال: إنه لا يُحْسِن الطلب؛ لأنه إنْ قد كَتَبَ له الرزق وقدَّره فهو سائقه إليه لا محالة، وإن لم يكتبه ضاع السعي والطلب.
والجواب: أنه تعالى قد قدَّر الرزق وكتبه، وقدَّر له سببًا هو الطلب بالإجمال، فمن فعل السبب أتاه المسبب، ومن لا فلا، وكل أعمال الدنيا والآخرة منوطة مسبباتها بأسبابها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 379، 380).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)