«نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ والفراغُ».
رواه البخاري برقم: (6412)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نعمتان»:
النِّعمة: الحالة الحسنة. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص:814).
«مغبون»:
الغَبْنُ: الوَكس والخديعة، وأكثر ما يكون في البيع والشِّراء. الموسوعة الفقهية الكويتية (31/٨٢)
قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
الغَبْنُ: أن تَبخَس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإِخفاء. المفردات (ص:602).
شرح الحديث
قوله: «نعمتان»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«نعمتان» تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، وقيل: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير. فتح الباري (11/ 230).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال ابن الخازن: النعمة ما يتنعَّم به الإنسان ويستلذه. قوت المغتذي على جامع الترمذي (2/ 559).
وقال ابن باديس -رحمه الله-:
النعمة: ما يفعل على وجه الإحسان ضد النقمة، وهي ما يفعل على وجه العقوبة. مجالس التذكير من أحاديث البشير النذير (ص:135).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«نعمتان» عظيمتان جليلتان. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 288).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«نعمتان» أي: عظيمتان... و«نعمتان» مبتدأ، وخبره «مغبون فيهما» من الغبن؛ وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع بدون ثمن المثل، وهو وصف، و«كثير من الناس» نائب فاعله، أو مبتدأ، وخبره «مغبون» و«فيهما» ظرف لغو، والجملة الخبر، والرابط ضمير الوصف، وأُفرِدَ باعتبار لفظ «كثير». «الصحة والفراغ» بدلان من نعمتان؛ بدل مفصل من مجمل. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 313).
قوله: «مغبون فيهما كثير من الناس»:
قال ابن الخازن -رحمه الله-:
«مغبون فيهما» الغبن هو فوت الحظ، والمراد في المجازاة والتجارة؛ وذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غُبِنَ، والمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة؛ وذلك لأن كل كافر له أهل ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غَبْنُ كل كافر بتركه الإيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. لباب التأويل في معاني التنزيل (4/ 302).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«مغبون»: اسم مفعول من (غَبِنَ) إذا خسر الرجل في تجارته، وذهب عنه مطلوبه. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 273).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«مغبون فيهما» الغبن: خروج الشيء من اليد بغير عوض؛ يعني: لا يَعرف قَدْر هاتين النعمتين كثيرٌ من الناس ما داموا فيهما، فإذا تبدَّل الصحةُ بالمرض والفراغُ بالاشتغال فحينئذ يندمون على ما فاتهم من أوقات الصحة والفراغ، ولا ينفعهم الندمُ. شرح المصابيح (5/ 381).
وقال السندي -رحمه الله-:
«مغبون فيهما» أي: ذو خسران فيهما. حاشية على سنن ابن ماجه (2/ 542).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«مغبون فيهما» أيش معنى مغبون؟ يعني: باعها برخص، يعني: لو شخص يطلع بسيارته للمعارض بدلًا مِن أن تسوى مائة ألف يبيعها بألف وألفين هذا مغبون وإلا لا؟ مغبون. شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري (2/ 24).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«مغبون فيهما» أي: لا يعرف قدرهما كثير من الناس. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (13/ 230).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«مغبون فيهما كثير من الناس» أي: لا يعرف قدرهما، ولا ينتفع بهما كثير من الناس في حياته الدنيوية والأخروية. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 288).
قوله: «الصحة والفراغ»:
قال العيني -رحمه الله-:
«الصحة» أي: إحدى النعمتين: الصحة في الأبدان. قوله: «والفراغ» أي: الأخرى منهما الفراغ، وهو عدم ما يشغله من الأمور الدنيوية. عمدة القاري (23/ 31).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«الصحة» في البدن «والفراغ» من الشواغل بالمعاش المانع له عن العبادة. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 236).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الصحة والفراغ» أي: صحة البدن والقوة الكسبية، وفراغ الخاطر بحصول الأمن، ووصول كفاية الأمنية. مرقاة المفاتيح (8/ 3225).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الصحة والفراغ» لأن بهما ما يتكامل التنعم بالنعم، ومن لا يعرف قدر النعم بوجدانها عرف بوجود فقدانها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 426).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «الصحة والفراغ» من الشواغل الدنيوية المانعة للعبد عن الاشتغال بالأمور الأخروية، فلا ينافي الحديث المار: «إن الله يحب العبد المحترف»؛ لأنه في حرفة لا تمنع القيام بالطاعات، شبَّه المكلف بالتاجر، والصحة، والفراغ برأس المال؛ لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح، فمَنْ عامل الله بامتثال أوامره ربح، ومَنْ عامل الشيطان باتباعه ضيّع رأس ماله. والفراغ نعمة غُبِنَ فيها كثير من الناس، ونبه بـ«كثير» على أن الموفق لذلك قليل. فيض القدير (6/ 288).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
ونحن نستعيذ بالله مِن أنْ نُغبن بفضل نعمته علينا، ونجهل نفع إِحسانه إلينا. وقد قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصَّبوة.
وقال بعض البلغاء: مَن أَمضى يومه في غير حقٍّ قضاهُ، أو فرض أدَّاه، أو مجد أَثَّلَهُ أو حَمدٍ حصَّله، أو خير أَسَّسَهُ أو عِلمٍ اقتبسه، فقد عَقَّ يومه، وظلم نفسه.
وقال بعض الشعراء:
لقد أَهاج الفراغ عليك شغلًا … وأسباب البلاء من الفراغآداب الدنيا والدين(ص: ٥٥)
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
ومعنى هذا (أي الحديث): أنهم مُقصِّرون في شكر هاتين النعمتين: (الصحة والفراغ)؛ لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. تفسير القرآن العظيم (8/ 478).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: لا يعملون في زمان الصحة والفراغ الأعمال الصالحة، ولا يهيِّئون أمر الآخرة، حتى تتبدَّل الصحة بالمرض، والفراغ بالاشتغال، فحينئذٍ يندمون على تضييع أعمارهم، ولا ينفعهم الندم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 273).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فمَنِ استعمل فراغه وصحته في طاعة مولاه فهو المغبوط، ومَنِ استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يَعقُبُه الشغل، والصحة يَعْقُبُها السَّقَم، ولو لم يكن إلا الهرم. إرشاد الساري (9/ 236).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«الصحة» أي: صحة البدن والنفس وقوتهما. «والفراغ» أي: خلو الإنسان من مشاغل العيش وهموم الحياة، وتوفر الأمن والاطمئنان النفسي، فهما نعمتان عظيمتان، لا يقدرهما كثير من الناس حق قدرهما، ولا ينتهزون فرصة وجودهما في الأعمال النافعة، بل يدعونها تمرُّ دون فائدة، حتى إذا مرت وفاتت الفرصة، وتبدَّلت الصحة مرضًا والقوة ضعفًا والفراغ شغلًا، تنبَّهوا من غفلتهم، وشعروا بالندم، وأدركوا أنهم قد خسروا نعمة صحتهم وفراغهم، فغُبنوا، وحزنوا أشد الحزن على ما فرطوا فيه، فكان مَثَلُهم في ذلك كمَثَل التاجر الذي يبيع سلعته بخسارة، حتى إذا شعر بأنه قد نقص رأس ماله حزن وندم على ما وقع له بسبب غفلته وتفريطه. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 288).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فكأنه قال: هذان الأمران نَقَصَ في الرأي كثير من الناس فيهما، فلا يستعملوهما في وقت الاحتياج إليهما، كما في الحديث الآخر: «ومن صحتك لسقمك ومن فراغك لشغلك»، فإذا لم ينظر في نفسه في هذين الوقتين فكأنه غبن فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو ليس له في ذلك رأي البتة، فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعات من صلاة وصيام وحج وغزو وشبهها في زمن صحته وشبابه، فأجدر أن لا يعمل شيئًا من ذلك في زمن الشيخوخة، وعلى هذا يقاس الفراغ. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 397).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس ما داموا فيهما، فإذا تبدَّلَ الصحة بالمرض والفراغ بالاشتغال، فحينئذٍ يندمون على ما فاتهم من أوقات الصحة والفراغ، ولا ينفعهم الندم. شرح المصابيح (5/ 381).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى هذا الكلام؟
قلتُ: له وجهان حسنان:
الأول: أن يُرادَ أن قليلًا من الناس مَنْ يحصل له الصحة والفراغ، بل من الناس مَنْ لا يحصل له منهما شيء، ومنهم مَنْ يجد أحدهما دون الآخر، فهذا مغبون؛ لأنه فقد رأس المال الذي كان يتوصل به إلى المطلوب؛ إما كُلًّا أو بعضًا، ويؤيد هذا المعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أصبح آمنًا في سِرْبِهِ معافىً في بدنه، وله قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها».
والوجه الثاني: أن كثيرًا من الناس يُرزق الصحة والفراغ، ولم يدّخرهما يوم الحاجة، إما أن يموت على ذلك، أو يفوِّتا منه ما ينفعه، ويبقى في الحَسرة والندامة، ويؤيد هذا المعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من صحتك لمرضك». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 122).
وقال السندي -رحمه الله-:
فمَنْ صحَّ بدنه وتفرَّغ من الأشغال العائقة، ولم يسعَ لصلاح آخرته فهو كالمغبون في البيع. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 542).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
والمقصود بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما، فيصير كل منهما في حقهم وبالًا، بعد أن كان كل منهما لو صرفوه في محله لكان لهم خيرًا أيَّ خير، فكانوا يتبدلون بذلك الخير هذا الوبال، والله أعلم بحقيقة الحال. حاشية على سنن ابن ماجه (2/ 542).
وقال المناوي -رحمه الله-:
إذ مَنْ لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غُبن ولم يُحْمَدْ رأيه. فيض القدير للمناوي(6/288).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال بعض العلماء: إنما أراد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «الصحة والفراغ نعمتان» تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًّا مؤنة العيش في الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما. ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنَّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم، وضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وأمرهم أن يعبدوه، ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرف يسيرة، وجعل مدة طاعتهم في الدنيا منقضيةً بانقضاء أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا في جنات، لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أمعن النظر في هذا كان حريًّا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه في طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه، والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كُنْه (حقيقة) تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرّت أيامه عنه في سهو ولهو، وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم، وقد روى الترمذي من حديث ابن المبارك عن يحيى بن عبيد الله بن موهب عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع» (أي: أقلع عن الذنوب). شرح صحيح البخاري (10/ 146- 147).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
أراد -صلى الله عليه وسلم- أنَّ مَن أصحَّ الله جسمه، وفرَّغه من شواغل هذه الدنيا، فلم ينفق صحته الواقعة في طرف من الزمان، فارغ عن شاغل له في أربح التجائر، وأعلى المكاسب من معاملة الله سبحانه وتعالى، في أعلى المقامات التي وعد عليها سبحانه بأنه يحب أهلها، ويكرمهم، ويقدمهم منه فإنه مغبون. وفيه دليل على أن الصحة نعمة فلا ينبغي أن يختار عليها البلاء. وفيه أيضًا دليل على أن الفراغ نعمة، فإذا فتح به فلا ينبغي أن يختار عليه عمل دنيا، فإذا أنعم الله تعالى على عبد من عباده بصحة في بدنه وفراغ في وقته، فلم ينفق هذه الصحة في هذا الفراغ لله سبحانه فقد غبن، ومن ذلك أنه إذا خلا في وقت دون وقت، فينبغي له أن ينفق ذلك الوقت الفارغ من شغل الدنيا في شغل الآخرة، ولا ينتظر بعمل الآخرة أن يتفرَّغ له في كل أوقاته، ولذلك فإنْ أعوزته الصحة التامة فلْيُنْفِقْ مما آتاه الله منها، ولا يغفل بقية النعمة عنده. الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 213).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أنه قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا للعبادة؛ لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغًا من الأشغال، ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا للعبد ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن، كيف والدنيا سوق الأرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر. كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 437).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يعني: أن هذين الجنسين من النِّعم مغبون فيهما كثير من الناس أي: مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ...؛ لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة، ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً، ولكننا لا نعرف هذا الغَبْن في الدنيا، إِنما يعرف الإنسان الغَبْن إذا حضرهُ أَجله، وإذا كان يوم القيامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} المؤمنون: 100.شرح رياض الصالحين(2/٦٥).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمَنِ استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومَنِ استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يَعقُبُه الشغل، والصحة يَعقُبُها السَّقَم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يفعلُ
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة *** ينوء إذا رام القيام ويحملُ
... وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في أول نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة، وقيل: الصحة، والأول أولى؛ فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يغبن فيها كثير من الناس، أي: يذهب ربحهم أو ينقص، فمَنِ استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة، فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغًا فإن المشغول قد يكون له معذرة، بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة، وتقوم عليه الحجة. فتح الباري (11/ 230).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب مثلًا للمكلف بالتاجر الذي له رأس مال، وهو يبيع ويشتري، ويطلب من تجارته سلامة رأس المال والربح، فالواجب عليه أن يتحرى فيها مَنْ يعامله، ويكون صدوقًا غير مخادع؛ لئلا يغبنه في معاملته، فنعمتا الفراغ والصحة رأس مال المكلف، فينبغي له أن يعامل الله تعالى بالإيمان بالله ورسوله، والمجاهدة مع النفس وأعداء الدين؛ لئلا يُغبَن، ويربح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}الصف: 10-11، ويجتنب معاملة الشيطان؛ لئلا يغبن، فيضيع رأس ماله مع الربح، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سبأ: 13، والشكر -كما علمت- في إزاء النعمة، وشكر العباد لله تعالى عبارة عن آداب الجوارح في طاعته، وتحري مراضيه بقلبه، والنداء على التحميد بلسانه وبناء المبالغة في الشكور ينبئ عن هذه الأقسام، والله أعلم. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3271).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فهذه النِّعم مما يُسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة، ويُطالب به، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} التكاثر: 8. جامع العلوم والحكم (2/ 76).
وقال ابن باديس -رحمه الله-:
فقه الحديث ومقصوده:
عُمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة ثمرة معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمرُّ فارغة فقد غَبَنَ حظه منها وخسرها، وكذلك بدنه فهو أنفس آلة عنده، وإنما فائدة الآلة بالعمل، فإذا كانت الآلة في عمل فهو ربح وزيادة، وإذا كانت في بطالة فهو في نقص وخسران، فالرشيد الرشيد هو مَنْ أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، وتلك الآلة العظيمة، فعمَّر وقته بالأعمال، وداوم على استعمال ذاته فيها فربحهما، والسفيه السفيه مَنْ أساء التصرف فيهما، فأخلى وقته من العمل، وعطَّل ذاته عن الشغل فخسرها.
ولَمَّا كان الإنسان مضطرًّا إلى السعي في معاشه، فيشغله ذلك عن وجوه الطاعات من العلم ونوافل الصلاة والصوم والحج وغيرها، ومُعَرَّضًا للأمراض فتمنعه منها، ولكنه لا يخلو من حالة يكون فيها فارغًا من الشغل لمعاشه، ومعافىً من المرض في بدنه، ذكره هذا الحديث الشريف بما عليه في هذه الحالة من المحافظة عليها، وعمارتها بالطاعات حتى لا يخسرها، وتنقص من عمره بلا فائدة، فيكون مغبونًا فيها.مجالس التذكير من حديث البشير النذير (ص:136).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله -عز وجل- بقدر ما يستطيع، إن كان قارئًا للقرآن فليكثر من قراءة القرآن، وإن كان لا يعرف القراءة يُكثر من ذكر الله -عز وجل-، وإذا كان لا يمكنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان، فكل هذه خيرات كثيرة تَذهبُ علينا سُدى، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة وفرصة الفراغ.
وفي هذا دليل على أن نعم الله تتفاوت، وأن بعضها أكثر من بعض. وأكبر نعمة يُنعم الله تعالى بها على العبد: نعمة الإسلام، ونعمة الإسلام التي أضل الله عنها كثيرًا من الناس، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة: 3، فإذا وجد الإنسان أن الله قد أنعم عليه بالإسلام وشَرَحَ الله صدره له؛ فإن هذه أكبر النعم.شرح رياض الصالحين (2/ 65).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
يؤخذ من الحديث:
1-أن الصحة والفراغ من النعم العظيمة التي يمكن أن تعود بالنفع الأكبر على الإنسان.
2-أن الغافلين عن استغلال النعم فيما وضعت له كثير، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سبأ: 13.
3-الحث على الاستفادة من الصحة قبل المرض ومن الفراغ قبل الانشغال. المنهل الحديث في شرح الحديث (4/ 197- 199).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
دل هذا الحديث على...الترغيب في انتهاز الفرص المواتية من صحة وفراغ ومال ومركز وجاهٍ، والاستفادة منها فيما يرضي الله تعالى؛ لأن الفرصة قلَّما تعود إلى صاحبها مرة أخرى، فالعاقل من ينتهزها، ويغتنمها في طاعة الله. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 289).