أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم إِنِّي أَعُوذُ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ العدو، وَشَمَاتَةِ الأعداء».
رواه أحمد برقم: (6618)، والنسائي برقم: (5487)، والحاكم في المستدرك برقم: (1945)، والطبراني في المعجم الكبير برقم: (93)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح سنن النسائي برقم: (5055)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1541).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَعُوذُ»:
العوذ: الالتجاء والاستجارة، فمعنى أعوذ بِاللَّه: أَي ألْتَجِئُ إلى رَحمته وعِصْمَتِه. الكليات (ص: 651).
«غلبة الدَّين»:
ثِقله وشِدَّته؛ وذاك حيث لا قُدرة على وفَائه، سِيمَا مع الطلب. التيسير بشرح الجامع الصغير» (1/ 223).
«شَمَاتَة الأعداء»:
شَمِتَ العَدُوُّ، كفَرِحَ وزْنًا ومعْنًى، شَمَاتًا، وشَمَاتةً، بِالْفَتْح فيهمَا، أَو شَمِتَ الرَّجُلُ: إِذا فَرِحَ بِبَلِيَّةِ العَدُوِّ. تاج العروس (4/ 580).
قال الغزالي -رحمه الله-:
الشَّماتة: الفَرَحُ بالشَّرِّ الواصِل إلى غيرِ المُستَحِقِّ، ممَّن يَعرِفُه الشَّامِت. ميزان العمل (ص: 286).
وقال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله-:
الشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدِّين والدنيا. الجامع لأحكام القرآن (7/ 291).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
الشَّمَاتَة: السُّرُورُ من الأعداء بِمَا يُصِيبُ من يُعَادُونَه من المصائب. فتح القدير (2/283).
شرح الحديث
قوله: «اللهم إِنِّي أَعُوذُ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
إنما استعاذ من الدَّين لأنه ذريعة إلى الكذب، والخُلْفُ في الوعد مع ما يقع الْمِدْيَانِ تحته من الذِّلَّة، وما لصاحب الدَّين عليه من المقال. شرح صحيح البخاري (6/ 520).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أعوذ بك من غلبة الدَّين» وإنما استعاذ من الدَّين لأنَّ نفس الإنسان مُعلَّقة به، فكان مَظِنةَ الاستعاذة. شرح المصابيح (3/ 208).
وقال ماهر بن عبد الحميد بن مقدم -حفظه الله-:
استعاذ -صلى الله عليه وسلم- من شدة الدَّين وثِقله، بحيث لا قدرة على وفائه سِيَّما مع الطلب؛ لما فيه من الوقوع بالمحذورات الشرعية، كالخُلْفِ في الوعد والكذب؛ ولما فيه كذلك من الغمِّ على القلب، وإتعاب العقل، ووَهَن الجسد، والنفس، وإنما استعاذ مِن غلَبَتِه لأن الاستدانة بدون غَلَبَة قد يحتاج إليها كثير من العِبَاد، وقد مات -صلى الله عليه وسلم- ودِرْعُه مرهونة في أصْوَاعٍ من شعير. شرح الدعاء من الكتاب والسنة (ص491-492).
قال المناوي -رحمه الله-:
«غَلَبَةِ الدَّيْنِ» ثِقله وشِدَّته؛ وذلك حيث لا قُدْرة على وفائه، سِيَّما مع الطلب، وفي خبرٍ أو أثرٍ: "ما دَخَلَ هَمُّ الدَّين قلبًا إلا أذْهَبَ من العقل ما لا يعود". فيض القدير (2/ 147).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«غَلَبَة الدَّين» أي: كَثْرَتُه، وهي أنْ يَفْدحَهُ الدَّين ويُثْقِلَه، وفي معناه: «ضِلَعُ الدَّين» كما في رواية، أي: ثِقْلُهُ الذي يميل صاحبه عن الاستواء، والضِّلَعُ بالتحريك: الاعوجاج. مرقاة المفاتيح (4/ 1698).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وغَلَبَةُ الدَّين اللَّذَيْن استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه الدَّين الذي استُدين فيما يكره الله تعالى، ولا يجد سبيلًا إلى قضائه، وإن طالَبَهُ صاحبُه فهو مُعرَّض لهلاك أموال الناس، ومُتلِف لها، فهو متعرِّض إلى قهر الرجال بالشكوى عليه، والملازمة إلى أن يُوفي، وكذا الْمُسْتَدين الذي لا ينوي وفاء الدَّين، وعزم على جحده، فهو عاصٍ لربه، وظالم لنفسه. شرح سنن أبي داود (7/ 415).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«غَلَبَةِ الدَّيْنِ» وفي رواية: «ضَلَعِ الدَّيْنِ» بفتح الضاد المعجمة واللام، يعني: ثِقْله وشِدَّته؛ وذلك حيث لا قُدرة على الوفاء، ولا سيَّما مع المطالبة، وقال بعض السلف: "ما دخل همُّ الدَّيْن قلبًا إلا أذْهَبَ من العقل ما لا يعود إليه أبدًا". السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 313).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «غَلبة الدَّين» المراد به: ما ثقُل قضاؤه على المدين، وأمّا ما يغلب في ظنِّه أنه يتمكَّن من قضائه فلا يُستعاذ منه؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- استدان وتكرَّر منه الاستدانة، ومات ودِرْعُه مرهونة في آصُعٍ من شعير عند يهود، واستدان عمر وهو خليفة، وقال لما طُعن: "انظروا ما عليَّ من الدَّين"، فحسبوه فوجدوه ثمانين ألفًا.
ومات الزبير وعليه دين كبير، وغيرهم من الصحابة، وكذلك السلف؛ كطاوس وابن سيرين والشافعي وغيرهم.
وقد روى عبد الله بن جعفر مرفوعًا: «إنَّ الله تعالى مع الْمَدِين حتى يقضي دَيْنَه، ما لم يكن فيما يكره الله تعالى».
وكان عبد الله بن جعفر يقول لحارثة: "اذهب فخذ لي بدَيْن؛ فإني أكره أن أبيتَ ليلةً إلا والله معي، بعد ما سمعتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقد أخرج البيهقي في شُعَبِ الإيمان عن القاسم مولى معاوية أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن تَدَايَن بِدَين وهو يريد أن يقضيه، وحريص على أن يُؤَدِّيه، فمات ولم يقضِ دَيْنَه، فإن الله تعالى قادر على أن يُرضي غريمه بما شاء من عنده، ويغفر للمتوفَّى، ومن تَدايَن وهو لا يريد أن يقضيه، فمات على ذلك ولم يقضِ دَيْنَه، يقال له: أظننتَ أنّا لا نُوفي فلانًا حقَّه منك؟ فيُؤخذ من حسناته فيُجعل زيادة في حسنات رب الدَّين، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات ربِّ الدَّين فتُجعل في سيئات الظالم».
فتكون الاستعاذة من الدَّين الذي لا يَقدر المدين على قضائه، وإذا عَلِمَ مَن يريد الاستدانة من حاله أنه لا يتمكَّن من قضاء الدَّين حرُم الاستدانة عليه، وهو الذي ورد عنه -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أَخَذَ أموال الناس يريد أدَاءَها أدَّى الله عنه، ومَن أخَذَها يريد إتلافها أتْلَفَه الله» أخرجه البخاري...
فمَن عَلم مِن حاله أنه لا يتمكَّن من القضاء فقد أراد إتلافها، وقد قالت عائشة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم والمأثم! -والمغرم هو الدَّين، والمأثم الإثم- قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الرَّجُل إذا غَرِمَ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف».
فالْمُستدين مُتعرِّض لهذا الأمر العظيم؛ فإنه قد يسأله صاحبُ الدَّين وهو لا يتمكَّن من القضاء في الحال، فيكون منه الوعد الذي لا يفي فيه بما وعد، فالاستعاذة من الدَّين سَدٌّ للذريعة من الوقوع في هذا المحذور، وقد عوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، وأعاذه الله تعالى منه، وهذا تعليم لأمته، وتحذير من الدخول فيما يُؤدِّي إلى الإثم، ويقال: "ما دخل هَمُّ الدَّين قلب أحد إلا ذهب من عقله ما لا يعود إليه أبدًا".
أو أنه استعاذ بربه من وقوع ذلك بأُمَّتِه، ويُؤَيِّده أنه قد جاء في الرواية لفظ: «تعوَّذُوا» في غير هذا الحديث، ولا يُعارض الاستعاذة أن المقضي واقع؛ لاحتمال أن يكون ما يُقضى قد يُقضى مشروطًا بألا يدعو، فإذا دعا كُشِف عنه، وفي ذلك إظهار العبد فَاقَتَه لربه وتضرعه. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 459-461).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«غَلَبَةِ الدَّيْنِ» بفتح الدال المهملة، ثِقَلُهُ وَشِدَّتُهُ، وحيث لا قدرة له على وفائه. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 168).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«غَلَبَةِ الدَّين» ما يَغْلِبُ المدين قضاؤه، ولا ينافي الاستعاذة كونه -صلى الله عليه وسلم- استدان، ومات ودرعه مرهونة في شيء من شعير؛ فإن الاستعاذة من الغلبة بحيث لا يقدر على قضائه، ولا ينافيه: «أن الله مع المدين حتى يقضي دَينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى» ورُوي هذا عن عبد الله بن جعفر مرفوعًا؛ لأنه يُحمَل على ما لا غلبة فيه، فمن استدان دَينًا يعلم أنه لا يقدر على قضائه فقد فعل محرمًا، وفيه ورد حديث: «مَن أخذ أموال الناس يريد أدَاءها أدَّاها الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» أخرجه البخاري ...؛ ولذا استعاذ -صلى الله عليه وسلم- من المغرم وهو الدَّين، ولما سألته عائشة -رضي الله عنها- عن وجه إكثاره من الاستعاذة منه قال: «إنَّ الرجل إذا غَرِمَ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف»، فالمستدين يتعرَّض لهذا الأمر العظيم. سبل السلام شرح بلوغ المرام (8/ 316).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «مِن غلبة الدَّين» ولم يقل: من الدَّين، «غَلَبة» يعني: تراكُمه وكثرته؛ ولهذا يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَدينًا أحيانًا، وأحيانًا لا يوفي، فكان مدينًا لجابر بن عبد الله بثمن جَمَلِهِ؛ لأنه اشترى منه الجَمَل ولم ينقده الثمن، وقصة الجمل مشهورة، فكان ثمن الجمل دَينًا على رسول الله، لكنه دَيْن ليس غالبًا، والحمد لله أوفاه، وقد لا يوفي الدَّين؛ كذلك الطعام الذي اشتراه لأهله من اليهودي؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشترى طعامًا لأهله من يهودي وأرْهَنَه دِرْعَه، ومات -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهون عند هذا اليهودي بهذا الطعام، إذنْ مات مَدينًا، ولكن هذا الدَّين لم يَغْلبه؛ لأن الدَّين مُوثَّق بالدرع، والذي يبدو أنَّ هذا الدرع يكفي دَينه؛ لأن اليهود لا يمكن أن يتهاونوا في أمر المال، فهذا الدرع يوفي، فصار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يُغْلب في دَينه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 497)
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
وقوله: «اللَّهمَّ إني أعوذ بك من غلبة الدَّين»، الدَّيْنُ الغالب الظاهر هو الدَّين الذي ليس عند المدين ما يقضيه به، أما إذا كان عند المدين ما يفي به الدَّين فهذا دَيْن ليس بغالب.
الدَّيْنُ إذا غلب يسبِّب الهم والغم، ويكون صاحبُه في قلق وتعب بدني وقلبي وفكري، وهذا هو ما استعاذ منه؛ لأنَّ حقوق الآدميين مَبنية على الشُّح؛ ولذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من المَغْرَم وهو الدَّين، وقال -صلى الله عليه وسلم- مُبَيِّنًا آثار الدَّين السيئة، وعواقبه الوخيمة: «إنَّ الرجل إذا غَرِمَ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف» رواه البخاري (832)، ومسلم (2589). توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 570).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ» أي: لأن الدَّين همٌّ بالليل، وذلٌّ بالنهار، فإذا كَانَ غالبًا كَانَ أدهى وأمرّ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (40/ 27).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
«من غلبة الدَّيْنِ» بفتح الغين المعجمة واللام، والدَّيْن: بفتح الدال هو القَرْض وكلُّ ما لزمك لغيرك من المال كثمن مبيع ونحوه.
وغَلَبةُ الدَّين: ثِقله وشدته بحيث يعجز الإنسان عن قضائه. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (10/ 451).
قوله: «وغلبةِ العدو»:
قال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «وغَلبة العدو» المراد به الغَلَبة بالباطل؛ لأن العدو في الحقيقة إنما هو المعادي لأمرٍ باطل، إما لأمر ديني، وإما لأمر دنيوي؛ كغَصْبِ الظالم لحق غيره مع عدم القدرة على الانتصاف منه، أو غير ذلك. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 461).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وغلبة العدو» مَن يفرح بمصيبته ويحزن بِمَسَرَّته، وقد يكون من الجانيين، أو من أحدهما. فيض القدير (2/ 147).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
عدو المرء هو الذي يفرح بمصيبته، ويحزن بِمَسَرَّته، ويتمنى زوال نعمته. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 313).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وغلبة العدو» فإنه قهر الرجال الذي استعاذ منه -صلى الله عليه وسلم-. التنوير شرح الجامع الصغير(3/ 168).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وغلبة العدو» أن يغلبني العدو، استعاذ أن يغلبه العدو، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت العاقبة له، حتى وإن كان في بعض المواطن يحصل ما يحصل من الهزيمة، إلا أن العاقبة للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك قضى -والحمد لله- على العرب، ومنهم من أسلم، ومنهم من أُذِل، فصارت العاقبة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أعجب من قضية حُنين؛ فإن هوزان غَلَبوا الصحابة -رضي الله عنهم-، حتى فرَّ الصحابة وهم اثنا عشر ألفًا، ولم يبقَ مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا نحو مائة رَجُل من اثني عشر ألفًا، ثم كانت العاقبة -والحمد لله- للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى غلبهم وغنم منهم مغانم كثيرة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 497).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
أما غلبة العدو: فهي تُسبِّب لصاحبها الذلَّة، والمهانة، والحقارة؛ فإنَّ العدو لا يرحم، ولا يُشْفق، وإنما يقسو ويعثو، والقسوة قد تُسبِّب جلاءً عن الديار، أو هلاكًا في الأعمار، أو استيلاءً على الأموال، أو غير ذلك من أنواع المضار التي يتعسفها العدو الغالب.
وتأمل -أيها القارئ الكريم- ما تفعله دولة إسرائيل العدو في المسلمين؛ من استيلاء على بلدانهم، وتشريدٍ لزُعَمائهم، وقتلٍ لأبريائهم، وتعذيبٍ لما تحت أيديهم منهم، وانظر إلى الأقليات الإِسلامية كيف هم مضطهدون تحت سيطرة أعدائهم؛ نسأل الله أن يعز الإِسلام والمسلمين. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 570-571).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ» أي: لأن العدوّ إذا غَلَبَ يُذيق أليم العذاب، وكآبة الذلّ والمهانة، ولا سيّما إذا كَانَ كافرًا، أو منافقًا، وربما يُفْتِن عن الدِّين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (40/ 27).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
«وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ» أي: انتصاره عليَّ، وقهْره إياي، وتحكُّمه فيَّ، والعدو: ضد الولي، وهو يقال للواحد والاثنين والجمع، ويقال للأنثى: عدوة، وقد يُجمع على عِدًى وأعداء. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (10/ 451).
قوله: «وَشَمَاتَةِ الأعداء»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وَشَمَاتَةِ الأعداء» فَرَحِهم ببَلِيَّة تنزل بعدوِّهم، كما قال تعالى حكاية عن هارون: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} الأعراف: 150، وختم بهذه الكلمة البديعة؛ لكونها جامعة متضمنة لسؤال الحفظ عن جميع المعاصي.
قال بعضهم: العداوة مأخوذة من عَدَا فلان عن طريق فلان، أي: جاوَزَه ولم يُوافقه فيما يُحب.
قالوا: وأصل ذلك أن الخَلْق يوم أَخْذِ الميثاق كانوا على صفات، فمن كان وجهًا لوجه فمحال أن تقع بينهما عداوة، ومن كان ظهرًا لظهر فمحال أن تقع بينهما صداقة، ومن كان وجهًا لظهر فصاحب الوجه مُحِب، وصاحب الظهر مُبغِض، ومن كان جنبًا لجنب أو بِازْوِرَار فبحَسَب ذلك، ومَن شَهِد ذلك أقام للناس المعاذير، وإنْ كانوا مذمومين بعداوتهم شرعًا.
قال البرهان: لكن من شأن الكُمَّل إثبات الخلق مع الحق.
قال بعض الكاملين: إنما حسُن الدعاء بدفع شماتة الأعداء؛ لأن من له صِيتٌ عند الناس وتأمُّلٌ، وجَد نفسه بينهم كبَهلوانٍ (مَنْ يُحاول إدهاش النَّاس بوسائل غريبة مُدهشة) يمشي على حبلٍ عالٍ بقَبْقاب (حِذاء من خشب له سير من جلدٍ ونحوه)، وجميع الأقران والحُسَّادِ واقفون ينتظرون متى يَزلَقُ فيَشْمَتُون به، ومِن أشَقّ ما على الزَّالِقِ أنْ يُغلب عليه رعاية مقامه عند الخَلْق؛ فإنه يذوب قهرًا، بخلاف مَن يراعي الحق، فإنَّ الأذى يخِفُّ عليه ولو أظهروا كلهم الشماتة؛ فلذلك خفَّ على العارف أثر شماتة عدوه، وثقل على المحجوب.
وإنما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ذلك خوفًا على أتْبَاعه من التفرقة وقلّة انتفاع المؤلفة إذا قلّ تعظيمه، لا لكونه يتأثر مراعاة لحظِّ نفسه؛ لعصمته من ذلك. فيض القدير (2/ 147).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وشماتة الأعداء: هي ظَفَرُهم به، أو فرَحُهم بما يلحقه من الضرر والمصائب. المفهم (7/ 35).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وشماتة الأعداء» الشماتة: الفرح، أي: مِن فَرَحِ العدو، وهو لا يفرح إلا لمصيبة تنزل لمن يكره، والتعوُّذ من السبب وهي المصائب التي يفرح بها العدو، إلا أنه أُقيم الْمُسَبِّب مقام السبب، ونُكْتَةُ ذلك: إبانة أنَّ شماتة العدو أهم في الاستعاذة من المصيبة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 69).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وشماتة الأعداء» وهي فَرَح العدو بِبَليَّةٍ تنزل بمن يُعاديه، أي: قولوا: نعوذ بك من أن تصيبنا مصيبة في ديننا أو دنيانا حيث يفرح أعداؤنا. مرقاة المفاتيح (4/ 1704).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «وَشَمَاتَةِ الأعداء» هي فَرَح العدو بِضرٍّ ينزل بِعَدُوِّه، يُقال: شَمِتَ به بكسر الميم، يَشْمَتُ بفتحها، فهو شامِتٌ، وأَشْمَتَه غيره، والتعوُّذ في الحقيقة إنما هو من وقوع سبب الشماتة، وهو نزول المضار وتغيُّر الأحوال.
وقال ابن بطال: شماتة الأعداء ما ينْكَأُ القلب، ويبلغ من النفس أشد مبلغ، نعوذ بالله من كل بلاء، ونسأله العافية من كل نازلة وطارقة. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 461).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وَشَمَاتَةِ الأعداء» فرحهم بما ينزل بعدوهم من البلايا، وهو استعاذة من حلول البلاء. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 168).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأما شماتة الأعداء: فإنَّ أعدى الأعداء إبليس، ولا شماتة له أعظم من دخول الإنسان النار، وأن ينصرف من بين يدي ربه وقد يئس من رحمته، فهذا هو أفظع الشماتة، وما دون هذا من شماتة الأعداء أهل الدنيا فإنه صعبٌ مؤلمٌ، كنِكَاءِ القَرْح بالقَرْح، والله يعيذنا من ذلك في الدنيا والآخرة بكرمه وجوده. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 409).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وذُكِر عن أيوب -عليه السلام- أنه سُئل عن أي حالِ بلائه كان أَشدّ عليه؟ قال: «شماتة الأعداء»، أعاذنا الله من جميع ذلك بمنِّه وكرمه، آمين. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 278).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
«وشماتة الأعداء» فرحهم بما يُدْرِكُ عدوَّهم من مكروه، قيل: وهي من أصعب البلاء، أَلا ترى قول هارون لأخيه -عليهما السلام-: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} الأعراف: 150. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 173).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وَشَمَاتَةِ الأعداء» يعني: فرح الأعداء، ومنه قول هارون لأخيه موسى: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} الأعراف: 150، أي: لا تُفْرِحهم عليَّ، ولا شك أن شماتة العدو إنما يكون بما يسوء الإنسان؛ لأن عدوك يفرح بما يسوؤك، ويحزن بما يَسُرُّك؛ ولهذا لما تكلَّم الفقهاء على أن العدو لا تُقبل شهادته على عدوه، قالوا: من سرَّهُ مُساءة شخص، وغمَّه فرحه فهو عدو.
هذه كلها أدعية، منها ما يكون في المال، ومنها ما يكون في الحياة والشرف والسيادة، ومنها ما يكون في أمر خارج.
«غلبة الدَّين» تتعلَّق بالمال، «غلبة العدو» تتعلَّق بالشرف والسيادة والعزة، «شماتة الأعداء» بأمر خارج يشمل المال ويشمل البدن؛ لأن المقصود بشماتة الأعداء: فرحهم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 497).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
«شَمَاتَةِ الأعداء» هو فرحهم بما يصيب الإنسان من نَكْبَةٍ في بدنه، أو أهله، أو ماله، أو سُمعته، أو غير ذلك من نكبات الحياة ومصائبها؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله تعالى، ويرشد أُمّته إلى الاستعاذة من هذه الشرور التي تُسبِّب وينتج عنها هذه الأمور السيئة. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 571).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» أي: فرحهم بالمصائب التي تنزل عَلَى الشخص. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (40/ 27).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
«وشماتة الأعداء» الشماتة: بالفتح الفرح على ما ينزل بالمعادي ويصيبه من المصائب، والمعنى: أعوذ بك أن يفرحَ عليَّ عدوي، ويُسَرَّ بسبب نَكْبَة في بدني أو أهلي أو مالي. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (10/ 451).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فيستفاد من الحديث:
أولًا: افتقار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه في كل حال، وهذا الافتقار ينفي أن يكون له حظ من الربوبية، وبه يبطل تعلُّق هؤلاء المساكين الذين يتعلَّقون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كشف الشدائد وجلب المنافع، وهو نفسه محتاج إلى الله.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو به؛ تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابتغاء فيما يحصل فيه من صرف المساوئ التي تسوء العبد في ماله أو جاهه، أو ما هو أعم.
ومن فوائد الحديث: أن مُطْلَق الدَّين لا حرج فيه، لكن هل الأفضل أن يُعرِّض نفسه للدَّين أو لا؟ نقول: في ذلك تفصيل؛ إذا كان الوفاء قريبًا والدَّين قليلًا فلا بأس، وأما إذا كان الوفاء غير مرجو أو كان دينًا كثيرًا قد يثقل كاهل الإنسان فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرَّض له؛ ولهذا نحن على خطر بالنسبة لشبابنا الذين انحرفوا فيما يسمونه بالتقسيط؛ يشتري الشاب سيارة فخمة لا يركبها إلا الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، وهو ليس عنده شيء، ولكن تغلبه الشركات، وتقول: خذ هذه السيارة بمائة ألف ريال، وأعطنا كل شهر من معاشك كذا وكذا، المسكين يأخذها، فكون هذا الجزء الذي أُخذ من معاشه يسير، لكنه سوف يندم فيما بعد إذا طالبت هذه الشركات بحقوقها، وسوف يعلم أن هذا أسوأ تصرُّف، وأخطر تصرف، ولا ينبغي للإنسان أن يتهاون بالدَّين.
على كل حال: مِن الدَّين الذي قلنا: يكون قليلًا ووفاؤه قريبًا: أن يكون على الإنسان عقيقة ولد؛ له ولدان يحتاج إلى أربع عقائق، لكنه موظف وليس له إلا معاشه، وسوف يوفي آخر الشهر فهل يقترض، أو نقول: انتظر حتى تحصل الراتب ثم عُقَّ؟ الأول؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: يَعُقّ -يعني: المدين-، أرجو أن يُخلف الله عليه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 498).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على استحباب الاستعاذة من الأمور المذكورة؛ لشدة وقْعِهَا على الإنسان، وعظيم أثَرِها؛ لأن الدَّين إذا كَثُر وعَجَز المدين عن القضاء وقع في الهم والغم والتعب والقلق في بدنه وقلبه وفكره، وقد يقع في الكذب وإخلاف الوعد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أعوذ بك من المَأْثَمِ والمَغْرَمِ»، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: «إنَّ الرجل إذا غَرِمَ حدَّث فكذب، ووعَد فأخلف».
وغلبة العدو سبب في الذلة والمهانة والاحتقار؛ لأن العدو إذا غلب لا يرحم ولا يشفق، بل يقسو ويُعذِّب، مما يؤدي إلى التشرد والجلاء عن الديار، أو الهلاك في الإعمار، والاستيلاء على الممتلكات والأموال والحرمات وغير ذلك مما ينتجه العدوان، نسأل الله السلامة.
وشماتة الأعداء وقعها على النفس عظيم، فهي من أشد ما ينكَأُ القلب، ويبلغ في النفس أشد مبلغ؛ ولهذا قال هارون لأخيه موسى -عليه السلام-: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} الأعراف: 150، أي: لا تُفْرحهم بما تصيبني به من ضربٍ وإهانة. والله تعالى أعلم. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (10/451-452).