الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«قال اللَّهُ -تبارك وتعالى-: يا ابنَ آدمَ إنَّك ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لك على ما كان فيك ولا أُبَالِي، يا ابنَ آدمَ لو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السماءِ، ثم اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لك، ولا أُبَالِي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مغفرةً».


رواه الترمذي برقم: (3540) واللفظ له، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
وأحمد برقم: (21472)، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4338)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1616).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عَنَان»:
العَنَان بالفتح: السحاب، والواحدة عَنَانَة، وقيل: ما عَنَّ لك منها، أي: اعترض وبدا لك إذا رفعت رأسك، ويروى «أَعْنَان السَّمَاءِ»: أي: نواحيها، واحدها: عَنَنٌ، وعَنٌّ. النهاية، لابن الأثير (3/ 313).

«بِقُرَاب»:
أي: بما يقارب مِلْأَها. غريب الحديث، لابن الجوزي (2/ 227).
قال النووي -رحمه الله-:
بِقُرَاب: بضم القاف على المشهور، وهو ما يقارب ملأها، وحُكي كسر القاف، نقله القاضي وغيره. شرح صحيح مسلم (17/ 12).


شرح الحديث


قوله: «يا ابن آدم»:
قال الطوفي -رحمه الله-:
آدم قيل: هو أعجمي لا اشتقاق له، وقيل: هو عربي مشتق من أديم الأرض (أي: وجهها)؛ لأنه خلق منه، وهو لا ينصرف؛ للعلمية ووزن الفعل؛ إذ وزنه أَفْعَل مثل أحمد. التعيين في شرح الأربعين (1/ 334).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«يا ابن آدم» هو أبو البشر -صلى الله عليه وسلم-، وهو غير منصرف؛ للعلمية ووزن الفعل؛ إذ وزن أأدم: أفعل، أُبْدِلت فاؤه ألفًا، مشتق من أديم الأرض (أي: وجهها) أو من الأدمة: حُمْرة تميل إلى السواد. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 625).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«يا ابن آدم» نداء لم يُرَد به واحد معين، عُدِلَ إليه ليعلم من يتأتى نداؤه، وآدم عربي مشتق من أديم الأرض أي: وجهها، وأصله أأدم بهمزتين وزن أفعل، فأُبْدِلت الثانية ألفًا، ومنع الصرف للعلمية والوزن، وقيل: أعجمي؛ وعليه فمنع صرفه للعلمية والعُجمة، وأضيف إليه المنادى للعموم؛ لأن إضافته للمفرد تقيده، فالنداء هنا لا يختص به منادى دون آخر. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال الشيخ عطية محمد سالم -رحمه الله-:
«يا ابن آدم» وأول ما يلفت الانتباه هنا تعميم هذا النداء، فلم يقل: أيها المسلمون، ولا أيها المؤمنون، إنما نص على بني آدم، فقال: «يا ابن آدم» من أبينا الأكبر آدم -عليه السلام- إلى نهاية ذريته، وفيهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، والعاصي والتقي، كل بني آدم داخل في هذا النداء الذي يدعوهم به المولى سبحانه. شرح الأربعين النووية (85/ 2).

قوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني»:
قال الطوفي -رحمه الله-:
قوله: «‌إنك ‌ما ‌دعوتني» أي: مدة دعائك، فهي زمانية نحو: {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} فاطر: 37... فالدعاء سؤال النفع والصلاح، والرجاء: تأميل الخير، وهو اعتقاد قُرب وقوعه. التعيين في شرح الأربعين (1/ 334).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ما دعوتني ورجوتني» «ما» للدوام، يعني: ما دمت تدعوني وترجو مغفرتي ورحمتي ولا تقنط من رحمتي. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 183).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«ما دعوتني» أي: مدة دوام دعائك؛ فهي (أي: ما) مصدرية ظرفية. المعين على تفهم الأربعين (ص: 440).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
الرجاء ضد اليأس: وهو تأميل الخير واعتقاد قرب وقوعه. المعين على تفهم الأربعين (ص: 441).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«إنك ما دعوتني» بمغفرة ذنوبك، كما يدل عليه السياق الآتي، أي: مدة دوام دعائك، فهي مصدرية ظرفية، وغلط من جعلها شرطية.
«و» الحال أنك قد «رجوتني» بأن ظننتَ تفضُّلي عليك بإجابة دعائك وقبوله؛ إذ الرجاء: تأميل الخير وقرب وقوعه. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 626).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: ما دمتَ تدعوني وترجوني يعني في مدة دعائك ورجائك. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌ما ‌دعوتني» أي: مدة دوام دعائك، فهي زمانية، «ورجوتني» أي: أمَّلتَ مني الخير. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: مدة دعائك إياي نفعًا وصلاحًا وتأميلك خير ما عندي. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ما دعوتني» الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فدعاء المسألة أن تقول: يا رب اغفر لي، ودعاء العبادة أن تصلي لله. شرح الأربعين النووية (ص: 397).

قوله: «غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أبالي»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
فإني أغفر لك، ولا يعظم عليَّ مغفرتك وإن كانت ذنوبك كثيرة. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1845).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها. جامع العلوم والحكم (2/ 407).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«غفرت لك» أي: سترتُ. المعين على تفهم الأربعين (ص: 441).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«غفرت لك» ذنوبك، أي: سترتها عليك بعدم العقاب عليها في الآخرة. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 626).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: محوت. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المغفرة: هي ستر الذّنب والتجاوز عنه. شرح الأربعين النووية (ص: 398).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «على ما كان فيك» أي: أغفر لك على ما كان فيك من الذنوب. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 184).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«على ما كان منك» من المعاصي وإن تكررت. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 627).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: حال كونك مستمرًّا على ما وجدته فيك من الذنب، ويُستثنى منه الشرك؛ لخبره تعالى. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«على ما كان منك» من الجرائم؛ لأن الدعاء مخ العبادة، والرجاء يتضمن حسن الظن بالله. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
ما كان من الذنوب منك كذنب الكفر بالإيمان، وغيره بالاستغفار. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«على ما كان منك» من الذنوب غير الشرك كما عُرف من الآية والأحاديث. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 30).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أي: على ما كان منك من الذنوب والتقصير. شرح الأربعين النووية (ص: 398).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «ولا أُبَالي» أي: بذنوبك، وكأنه من البال؛ لأنه تعالى لا حُجْرَ عليه فيما يَتَفَضَّلُ به، ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ، ولا مانع لعَطَائهِ، وهو أَهلُ التَّقْوى وأهلُ المَغفِرة. المعين على تفهم الأربعين (ص: 441).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«ولا أُبَالي» يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «إذا دعا أحدكم فليُعْظِم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء»، فذنوب العبد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته. جامع العلوم والحكم (2/ 406).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: ولا أتعظم على مغفرتك وإن كانت ذنوبك كثيرة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 183).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ومعنى قولك: لا أبالي بكذا، ‌أي: لا يشتغل بالي به. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 627).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: والحال أني لا أتعظم مغفرتك عليَّ، وإن كان ذنبًا كبيرًا أو كثيرًا، فإن رحمتي سبقت أو غلبت غضبي. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا أُبَالي» بكثرة ذنوبك؛ إذ لا معقِّب لحكمي، ولا مانع لعطائي. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
يعني: لا أهتم بذلك؛ لأن هذا لا يثقله -جل وعلا-، ولا يكرثه، ولو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد واستغفروا غفر لهم، لو طلبوا أعطاهم، ولا ينقص ذلك من ملكه شيئًا. شرح الأربعين النووية (14/ 43).

قوله: «يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عَنان السماء»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
العنان: السحاب، الواحدة: عنانة، مِن عَنّ: إذا اعترض، وأضافه إلى السماء؛ لأنه معترض دونها، وقد يقال: «عنان السماء» بمعنى: أعنان السماء، وهي صفائحها وما اعترض من أقطارها، ولعله المراد من الحديث؛ إذ روي: «أعنان السماء». تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 74).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
و«عنان السماء» بفتح العين قيل: هو السحاب، وقيل: ما عَنَّ لك منها، أي: ظهر إذا رفعت رأسك. التعيين في شرح الأربعين (1/ 334).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والمعنى: أنه لو كثرت ذنوبك كثرةً تملأ ما بين السماء والأرض بحيث تبلغ أقطارها وتعم نواحيها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 74).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك» أي: عند فرضها أجرامًا «عنان السماء» بأن ملأتْ ما بينها وبين الأرض كما في الرواية الأخرى. دليل الفالحين (8/ 722، 723).

قوله: «ثم استغفرتني غفرتُ لك، ولا أبالي»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«ثم استغفرتني غفرت لك» جميعها غير مبالٍ بكثرتها، فإن استدعاء الاستغفار للمغفرة يستوي فيه القليل والكثير، والجليل والحقير. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 74).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ثم استغفرتني»: وتبتَ إليَّ منها. شرح المصابيح (3/ 143).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ثم استغفرتني» أي: سألتني غفران ذلك «غفرتُ لك» إياها؛ وذلك لأنه تعالى كريم، يقيل العثرات ويغفر الزلات، وهذا مثال بالغ في الكثرة جيء به تنبيهًا على أن كرمه وفضله ورحمته لا تتناهى، وأنها أكثر وأوسع مما ذكر. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
«ثم استغفرتني» أي: تبتَ توبة صحيحة «غفرتُ لك ولا أبالي» وإن تكرر الذنب والتوبة في اليوم الواحد، والذنوب وإن تكاثرت وبلغت ما عسى تبلغ، فتلاشت عند حلمه وعفوه، فإذا استقال منها العبد بالاستغفار غُفرت؛ لأنه طلب الإِقالة من كريم، والكريم محل إقالة العثرات وغفر الزلات. دليل الفالحين (8/ 723).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ثم استغفرتني» أي: تبتَ توبة صحيحة «غفرتُ لك ولا أبالي»؛ فضلًا منه تعالى لا حتمًا عليه كما يقوله من أوجب قبول التوبة. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 30).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ثم استغفرتني» أي: طلبتَ مني المغفرة، سواء قلتَ: أستغفر الله، أو قلتَ: اللهم اغفر لي، لكن لا بد من حضور القلب واستحضار الفقر إلى الله -عزّ وجل-. شرح الأربعين النووية (ص: 399).

قوله: «يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُرَابِ الأرض خطايا»:
قال الطوفي -رحمه الله-:
و«قُراب الأرض» بضم القاف وكسرها لغتان، والضم أشهر، ومعناه: ما يقارب ملأها، وقيل: ملؤها، وهو أشبه؛ لأن الكلام في سياق المبالغة. التعيين في شرح الأربعين (1/ 334).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«قُراب الأرض» أي: ملء الأرض. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 184).
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«بقراب الأرض» بضم القاف وكسرها والضم أشهر، أي: بملئها «خطايا»، في تقدير النصب على التمييز من قراب الأرض. شرح المصابيح (3/ 143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: بقريب ملئها، أو ملئها وهو أشبه؛ إذا الكلام سيق للمبالغة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«بقراب الأرض» أي: ما يقارب ملأها، «خطايا» جمع خطيئة. دليل الفالحين (4/ 355).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لو أتيتني» أي: جئتني بعد الموت «بقراب الأرض» أي: ما يقاربها، إما ملئًا، أو ثقلًا، أو حجمًا، «خطايا» جمع خطيئة، وهي الذنوب. شرح الأربعين النووية (ص: 399).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وإنما لم يقل: ملأها ولا وزنها ولا سعتها ولا عرضها، وإنما ذكر قرابها ليتناول هذه الأشياء كلها -إن كانت الخطيئة بوزنها أو في سعتها-، وإنما قابل قراب الأرض بقراب الأرض؛ لأن الغفر: ستر ومحو، والمحو لا يحتاج زيادة تفضل بل يكفي فيه تقدير المحو. بالإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 179).

قوله: «ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ثم لقيتني» أي: مِتَّ حال كونك «لا تشرك بي شيئًا»؛ لاعتقادك توحيدي وتصديق رسلي. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا» الجملة حال من الفاعل أو المفعول، على حكاية الحال الماضية؛ لعدم الشرك وقت اللُّقِي. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ثم...» للتراخي في الإخبار، وأنَّ عدم الشرك مطلوب أوَّلي. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1846).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أقولُ: فائدة التقيد (باللُّقِي) أنْ يكون موته على التوحيد. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«شيئًا» أي: من الشرك أو من المعبودات. دليل الفالحين (4/ 356).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «شيئًا» نكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا شركًا أصغر ولا أكبر. شرح الأربعين النووية (ص: 399).

قوله: «لأتيتك بقرابها مغفرة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لأتيتك بقرابها مغفرة» ما دمتَ تائبًا عنها ومستقيلًا منها، وعبر به للمشاكلة، وإلا فمغفرته أبلغ وأوسع، ولا يجوز الاغترار به وإكثار المعاصي؛ لأن الله شديد العقاب. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 190).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لأتيتك» وفي رواية: «لآتيك» بصيغة المضارع المتكلم «بقرابها مغفرة» تمييز أيضًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1620).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: لغفرتها لك؛ وذلك لأن الإيمان به تعالى شرط في العفو عن الذنب غير الشرك؛ لأنه أصل يُبنى عليه قبول الطاعة والعفو عن المعصية، بخلاف الشرك؛ إذ لا أصل معه يُبنى عليه العفو عنه، ولا بد أن يضم إلى الإيمان بالله تعالى الإيمان بنبيه محمد، وبما جاء به هذا. دليل الفالحين (4/ 356).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهذا لا شكّ من نعمة الله وفضله، بأن يأتي الإنسان ربه بملء الأرض خطايا، ثم يأتيه -عزّ وجل- بقرابها مغفرة، وإلا فمقتضى العدل أن يعاقبه على الخطايا، لكنه -جل وعلا- يقوم بالعدل ويعطي الفضل. شرح الأربعين النووية (ص: 399).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فأخبر أن في سعة عفوه تعالى لمن أراد العفو عنه ما يسع ملء الأرض خطيئة، أو ما يقرب من ملئها. إكمال المعلم (8/ 185).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فقد تضمَّن حديث أنس المبدوء بذكره أنَّ هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإنَّ الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} غافر: 60، وفي السنن الأربعة عن النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ الدعاء هو العبادة» ثم تلا هذه الآية، وفي حديث آخر خرجه الطبراني مرفوعًا: «من أعطي الدعاء، أعطي الإجابة؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} غافر: 60» وفي حديث آخر: «ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء، ويغلق عنه باب الإجابة»، لكن الدعاء سبب مقتضٍ للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلف إجابته لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه.
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرواية الأخرى: «لو أخطأتُم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم»، والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها، وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار...
السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض -وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها- خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله -عز وجل-، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلَّد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة، قال بعضهم: الموحد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار، ولا يَلْقى فيها ما يَلْقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار، فإنْ كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. جامع العلوم والحكم (2/ 407-417).
قال ابن القيم -رحمه الله-:
ويُعفَى لأهل التوحيد المحض الذي لم يَشُوبوه بالشرك ما لا يُعفَى لمن ليس كذلك. فلو لقي ‌الموحِّدُ ــ ‌الذي ‌لم ‌يُشرك ‌بالله شيئًا البتّة ــ ربَّه بقُراب الأرض خطايا أَتاه بقُرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابَهُ بالشرك؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يَشُوبه شركٌ لا يبقى معه ذَنبٌ، فإنه يتضمن مِن محبّة الله وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحدَهُ، ما يوجب غَسْلَ الذُّنوب، ولو كانت قُراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قويّ.إغاثة اللهفان(ص: ٥٤)
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان - حفظه الله-:
في هذا الحديث كثرة ثواب التوحيد، وسَعة كرمِ الله وجوده ورحمته، والردّ على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين وهي الفسوق، ويقولون: ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب قول أَهل السنة والجماعة: إنه لا يُسلب عنه اسم الإيمان ولا يُعطاه على الإطلاق، بل يُقال: هو مؤمن عاصٍ، أو مؤمن بإيمانه فاسقٌّ بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأُمة.شرح فتح المجيد(ص: 14).


ابلاغ عن خطا