الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشربُ الخمرَ حينَ يشربُ وهو مؤمنٌ، ولا يَسْرِقُ السَّارِقُ حينَ يَسْرِقُ وهو مؤمنٌ، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يرفع الناس إليه فيها أبصارَهُم، وهو مؤمنٌ».


رواه البخاري برقم: (6772) واللفظ له، ومسلم برقم: (57)، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
وفي رواية للبخاري برقم: (6809) «ولا يَقتُلُ وهو مؤمنٌ» عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وزاد: «قال عكرمةُ: قلتُ لابن عباسٍ: كيف يُنزَعُ الإيمانُ منه؟ قال: هكذا، وشبَّكَ بين أصابِعِهِ، ثم أخرجها فإنْ تابَ عادَ إليه هكذا، وشبَّكَ بين أصابِعِهِ».
وزاد البزار في مسنده: «يُنزَعُ ‌الإيمانُ ‌من ‌قلبِهِ، ‌فإنْ ‌تابَ ‌تابَ ‌اللهُ ‌عليه» مسند البزار (9027).  


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«ينتهب نُهْبَةً»:
النُّهْبَى و(النُّهبة): اسم ما نُهب؛ مأخوذة من النَّهْب كالعُمْرَى من العُمر، والمنتهِب: هو الذي يأخذ الشيء عيانًا بغلبة سابقة ومبادرة لغيره. التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (16/ 23).
وقال الفيومي-رحمه الله-:
النَّهْبِ أي: الِانْتِهَابِ، وهو الغَلبَة على المال، والقهرُ. المصباح المنير(2/ 627).


شرح الحديث


قوله: «‌لا ‌يزني ‌الزاني ‌حين ‌يزني وهو مؤمن»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لا ‌يزني ‌الزَّاني حين يزني» بنصب «حين» على الظَّرفية، «وهو مؤمن» حال. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 254).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لَا يَزْنِي» بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ خَطًّا، «الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الْوَاوُ لِلْحَالِ. مرقاة المفاتيح (1/ 124).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«حين يزني» احترازًا من أنه قبل الزنا وبعده تختلف حاله؛ لأن الإنسان ما دام لم يفعل الفاحشة -ولو هَمَّ بها- فهو على أمل ألا يُقدِمَ عليها. شرح العقيدة الواسطية (2/ 243).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وهو مؤمن» الواو للحال، أي: حال كونه كاملًا في إيمانه، أو ذو أمْنٍ من عذاب الله تعالى، أو المراد: مؤمن لله؛ أي: مطيع له، يقال: أمِنَ له: إذا انقاد وأطاع.
وقيل: المراد به: خروجه عن الإيمان، بدليل ما روى أبو هريرة عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا زنى أحدكم خرج منه الإيمان، وكان فوق رأسه كالظّلةِ، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان». شرح المصابيح (1/ 73).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لم يذكر الفاعل هنا كما ذكر في الزنا والسرقة، قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: ولا يشرب الشارب الخمر... إلخ، ولا يرجع الضمير إلى الزاني؛ لئلا يختص به، بل هو عام في حق كل من شرب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 213).

قوله: «ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن»:
قال ابن رشد الحفيد -رحمه الله-:
ينطلق اسم ‌الخمر ‌لغة على كُلِّ ما خامر العقل. بداية المجتهد (3/ 24).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فهذا (أي: هذا الحديث) من أشد ما جاء في شارب الخمر. شرح صحيح البخاري (6/ 37).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«يشرب» ضمير مستتر راجع إلى الشَّارب الدَّال عليه «يشرب» مع موافقته لما قبل، لا إلى الزّاني؛ لفساد المعنى. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 254).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وهو مؤمن» أي: كامل الإيمان. شرح العقيدة الواسطية (2/ 243).

قوله: «ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أي: كامل الإيمان؛ لأن الإيمان يردعه عن سرقته. شرح العقيدة الواسطية (2/ 243).

قوله: «ولا ينتهب نهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
(والنُّهبة) بضم النون مالًا منهوبًا جهرًا قهرًا ظلمًا لغيره.إرشاد الساري(9/٤٤٨)
وقال السندي -رحمه الله-:
النَّهب الأخذ على وَجه العَلَانِيَة والقَهر.حاشية السندي على سنن النسائي(8/٦٤)
وقال الملا علي القاري-رحمه الله-:
(نُهبة) بالضم: المال الذي يُنتهب، فهو مفعول به، وبالفتح المصدر.مرقاة المفاتيح(1/١٢٥).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
(والنَّهبة) بفتح النُّون مصدر، وبالضم: المنهوب، والمراد: المنهوب بغير إذن صاحبه، بقرينة قوله: «يرفع النَّاس إليه فيها أبصارهم». منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 254).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: أخذُ الرجل مالَ قومٍ قهرًا وظلمًا وهم ينظرون إليه، ويتضرعون ويبكون، ولا يقدرون على دفعه، فهذا ظلمٌ عظيمٌ لا يليق بحال المؤمن. وتأويل قوله: «وهو مؤمن» أي: وهو مؤمنٌ كاملٌ، وقد ذكرناه. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 141).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الانتهاب الذي قام الإجماع على تحريمه هو: ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدي على أموال المسلمين بالباطل، فهذه النُّهبة لا ينتهبها مؤمن، كما لا يسرق ولا يزني مؤمن، يعني: مستكملَ الإيمان؛ وعلى هذا وقعت البيعة من حديث عبادة في قوله: «بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ألا ننتهب» يعني: ألا نغير على المسلمين في أموالهم.
قال ابن المنذر: وفسَّر الحسن والنخعي هذا الحديث فقالا: النهبة المحرمة: أن يُنتهب مال الرجل بغير إذنه، وهو له كاره؛ وهو قول قتادة.
قال أبو عبيد: وهذا وجه الحديث على ما فسَّراه، وأما النهبة المكروهة: فهو ما أذن فيه صاحبُه للجماعة وأباحه لهم، وغرضه تساويهم فيه أو مقاربة التساوي، فإذا كان القوي منهم يغلب الضعيف ويَحرِمه فلَمْ تَطِبْ نفس صاحبه بذلك الفعل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (16/ 21).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أي: ذات قيمة عند الناس؛ ولهذا يرفعون إليه أبصارهم؛ فلا ينتهبها حين ينتهبها وهو مؤمن، أي: كامل الإيمان. شرح العقيدة الواسطية (2/ 243).
وقال أبو عبيد ابن سلام -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث (أي: قوله في الهدي: «مَن شاء فليقتطع») من الفقه: أنه رخص في النهبة إذا كانت بإذن صاحبها، وطيب نفسه، ألا تسمع إلى قوله: «مَن شاء فليقتطع». وفي هذا الحديث ما يبين لك أنه لا بأس بنهبة السُّكر في الأعراس، وقد كرهه عدة من الفقهاء، وفي هذا الحديث رخصة بينة. غريب الحديث (2/ 54).

قوله: «يرفع الناس إليه فيها أبصارهم»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
وفي الرواية الأخرى «ذات شرف» احتراز عن المُحقرات، قال ابن الأثير: ذات شرف أي: شيئًا قيمته عالية.الكوثر الجاري(10/٣٣٣)
قال ابن حجر -رحمه الله-:
أشار برفع البصر إلى حالة المنهوبين؛ فإنهم ينظرون إلى من ينهبهم، ولا يقدرون على دفعه ولو تضرعوا إليه. ويحتمل أنْ يكون كناية عن عدم التستر بذلك فيكون صفة لازمة للنَّهب بخلاف السَّرقة والاختلاس؛ فإنه يكون في خُفية.
والانتهاب أَشدُّ لما فيه من مِزيد الجُراءة، وعدم المبالاة. وزاد في رواية يونس بن يزيد عن بن شهاب «ذات شرف» أي: ذات قدرٍ حيث يُشْرِفُ الناس لها ناظرين إليها؛ ولهذا وصفها بقوله: ‌«يرفع ‌الناس ‌إليه ‌فيها أبصارهم».فتح الباري(12/٥٩)

قوله: «ولا يقتل وهو مؤمن»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: ولا يقتل أحدٌ أحدًا ظلمًا حين يقتل وهو مؤمن. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 142).
وقال أبو بكر الخلال -رحمه الله-:
... عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألتُ أحمد عن المُصِرِّ على الكبائر بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجمعة، هل يكون مُصِرًا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مُصِّرٌّ في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «‌لا ‌يزني ‌الزاني حين يزني وهو مؤمن» من يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام. أحكام النساء عن الإمام أحمد (ص: 57).
وقال المروزي -رحمه الله-:
فقلتُ للزهري: ما هذا؟ (أي: ما معنى نفي الإيمان في هذا الحديث؟) فقال: على رسول الله ‌البلاغ، ‌وعلينا ‌التسليم. تعظيم قدر الصلاة (1/ 487).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
... قال (الأوزاعي): فقلتُ للزهري: ‌فإن ‌لم ‌يكن ‌مؤمنًا ‌فمَهْ؟ قال: فنفَّر عن ذلك. وقال: أمِرُّوا الأحاديثَ كما أمرَّها مَن قبلكم، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم أمَرُّوها.
قول الزهري: (أمِرُّوا الأحاديث كما أمرها مَن قبلكم) تسليمٌ لأمر الله تعالى، وانقيادٌ لرسول الله، وتصديقٌ له، وإيمانٌ به فيما عُلِم وجُهِل، وتَركُ الاعتراض على الله ورسوله والحكمِ عليهما بالعقول الضعيفة، والأفهام السخيفة؛ إيمانًا بالله ورسوله، وتصديقًا لهما، وتوكيلًا لعِلْم تأويل ما جهلناه إلى الله ورسوله، والقدوةُ فيه أبو بكر وعمر، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسلمان -رضي الله عنهم-، وكثيرٌ مِن العلماء كالزهري، والأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري –رحمهم الله-، وكذلك قولهم في الأخبار المتشابهة، لا يَرُدُّونها ردَّ منكِرٍ جاحد، ولا يتأولونها تأويلَ مُتَحكِّم متكلِّف، بل يؤمنون بها إيمانَ مُصدِّق مُسلِّم، ويروونها روايةَ فقيهٍ مُسلِم. وقد تأوَّلها قومٌ مِن فقهاء الصحابة والتابعين وسائرِ فقهاء المسلمين وعلماء الدِّين على ما يليق بالله ورسوله، مِن غير تشبيه ولا تعطيل، ولا تكذيبٍ بتحريفِ تأويلٍ؛ طلبًا للحكمة فيها على قدْر أفهامهم، ومبلَغِ عقولهم، ونورِ أسرارهم، وشرحِ صدورهم، بانتزاع التأويل من الكتاب والسنة، وأقاويل فقهاء الأمة، وعلى قدر الحكمة التي يَهب اللهُ منها مَن يشاء، ويؤتيَها مَن يريد، ومَن أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فيجوز أن يكون تأويلُ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» أي: لا يزني وهو في حين ما يزني مكاشِفٌ في إيمانه، مشاهِدٌ لما آمَن به بإيقانه، بل هو في وقتِ فِعله ذلك عن تحقيق إيمانِه محجوبٌ، وبغلبة شهوته عن شهودِ إيقانه مسلوبٌ، فإيمانه في قلبِه مِن جهة العَقد ثابتٌ، ونورُ إيمانه مِن جهة اليقين مطموسٌ؛ لأن الموصوفين بالإيمان على ثلاثِ طبقاتٍ، فمنهم: ناطقٌ بكلمة الإخلاص، محجوبُ القلبِ فيه عن صدق الإخلاص، فهو مؤمنُ العلانية، كافرُ السريرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} النساء: 136، وناطق بكلمةِ التقوى منطوٍ في سِرِّهِ على صدق الدعوى، أقرَّ بلسانه وأخلص بجنانه، مضطربُ الحال فيما يوجبه إيمانُه، فمرَّة بالحجبة موصوف، وأخرى بالكشوف معروف، لم يَلبِس إيمانَه بظلم، ولم يُجرده بيقينِ شهود وحقيقة علمٍ، فهو مؤمنُ العلانية، مؤمنُ السريرة، مُخلِّط الفعل، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} التوبة: 102، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف: 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة: 1 طولب هؤلاء بوفاء ما صحت به عقيدتهم، وصدَّقت قولَهم سريرتُهم، فدل أنهم في حُجْبَة عما نطقوا به واعتقدوه، ومُقِرٍّ بلا إله إلا الله، قد أسقط عن سِرِّهِ ما دون الله، وأقبل بكُلِّيته على الله، وأسرع بسيره إلى الله بكشوفِ إيمانه، وصدقِ إيقانه، حَجبَه إيمانُه عن كثيرٍ مِن لذَّاته، وصرَفَه إيقانُه عن شهواته، فهو يشاهد ما آمن به كأنه رأى عيانًا، فيرى ما غاب عن بصره بعين، كما قال حارثة: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون، وإلى أهل النار يُعذبون، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «عبدٌ نوَّر الله قلبَه»، وفي رواية أخرى: «عبدٌ نوَّر الله الإيمانَ في قلبه». فهذا المكاشَف بالإيمان شهودًا لما آمن به، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الأنفال: 2، فمن كان بهذه الصفة فهو محجوبٌ بإيمانه عن الزنا والسرقة، وشرب الخمر، وانتهاب نهبة ذات شرف، ومَن حُجِب عن إيمانه بظلمةِ غفلته، ودخانِ شهوته؛ ربما واقع هذه الأعمالَ، ووُصِف بهذه الخصال ما بلغ مِن حق إيمانه أن أسقط إباحتها مِن سرِّه، لم يبلغ حقيقةُ حقِّه أن يجانبها بعقله، فهو في وقتِ مواقعتها والإتيان بها غيرُ موصوف بحقيقةِ حقِّ الإيمان، وإن كان موصوفًا بصدق الإيمان، فهو مؤمن إيمان عقود، وليس بمؤمن إيمان شهود،.
ففي قوله –صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» معنيان:
أحدهما: كالعذر له، كأنه يقول: لم يزنِ الزاني حين يزني جحودًا واستكبارًا، ولكنه فعل ذلك حجبةً واستتارًا، والمعنى الآخر: كالتحذير عن مبالغة الهوى، والانهماك في الشهوات والمُنَى، كأنه يقول: غفلةُ ساعةٍ واتباعُ شهوة حجبتْه عن حقيقةِ إيقانه، فغيرُ مأمونٍ إن دامت غفلتُه، واستحكمت فيه شهوتُه أن يزيله شؤمُ فعلِه عن حقيقة إيمانه! فالزنا عبارةٌ عن جميع شهوات النفس المحظورة المحرمة، والشرفُ عبارة عن الرغبة في الدنيا مما حرم الله تعالى، وشربُ الخمر عبارة عن الغفلة عن الله تعالى، والانتهاب عبارة عن الحرص فيما حرم الله تعالى، ففيه تحذير عن متابعة الشهوات، والرغبة في اللذات، والغفلة عن الله، والحرصُ فيما حرم الله تعالى، والاستخفافُ بأولياء الله تعالى؛ لأن المنتهب نهبَتَه رَفَعَ المؤمنين أبصارَهم، مستخفٌ بهم، غيرُ مُقرٍ لهم، ولا معظِّم حقَّهم. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار (ص: 218).
وقال الدارقطني -رحمه الله-:
قال (الأوزاعي): فقلتُ للزهري: فإن لم يكن مؤمنًا فمه؟ قال: فنَفَّر عن ذلك، وقال: أمِروا الأحاديث كما أمَرَّها من كان قبلكم، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمروها. علل الدارقطني (9/ 348).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وجه ذلك أنه إنما نفى عنه حقيقة الإيمان وكماله؛ وذلك أنه ارتكب هذه الخصال مع علمه بتحريم الله إياها عليه، وتغليظه العقوبة فيها، فإنه غير مؤمن بها في الحقيقة، ولا مصدق بالوعيد فيها، ولو كان مخلصًا في إيمانه لم يقدم عليها، ولكان الإيمان يمنعه من ذلك، والدِّين يعصمه من مواقعته، فإنما سلبه في هذا اسم الثناء عليه بالإيمان، دون نفس الإيمان الذي يقع به الخروج من الملة، وكان بعضهم يرويه: «لا يشرب الخمر حين يشرب» بكسر الباء على معنى النهي، يقول: إذا كان مؤمنًا فلا يستبيح شرب الخمر، وكذلك الزنا والسرقة والنهبة، إذ كان من صفات المؤمن أن يتوقاها، ولا يستبيحها.
وقد يكون معناه: الإنذار بزوال الإيمان، والتحذير لسوء العاقبة، وأنه ستؤديه هذه الأمور إذا استمر عليها إلى الخروج من الإيمان، والوقوع في ضده، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه». أعلام الحديث(2/ 1236).
وقال ابن بطال -رحمه الله- :
وقد تعلق بظاهر هذا الحديث الخوارج؛ فكفَّروا المؤمنين بالذنوب، والذي عليه أهل السنة وعلماء الأمة: أن قوله: «مؤمن» يعني: مستكمل الإيمان؛ لأن شارب الخمر والزاني أنقص حالًا ممن لم يأت شيئًا من ذلك لا محالة، لا أنه كافر بذلك. شرح صحيح البخاري (6/ 37).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
مثل هذه (الأحاديث والآثار التي فيها نفي الإيمان بسبب الذنوب) لا يُخرِج بها العلماءُ المؤمنَ من الإسلام، وإن كان بفعل ذلك فاسقًا عندهم. التمهيد (3/ 331).
وقال المازري -رحمه الله-:
قيل: معنى «مؤمن» أي: آمِنٌ مِن عذاب الله، ويحتمل أن يحمل على أن معناه: أن يكون مستحلاً لذلك، وقد قيل: معناه: أي كامل الإِيمان، وهذا على قول من يرى أن الطاعات تسمى إيمانًا، وهذه التأويلات تدفع قول الخوارج: إنه كافر بزناه، وقول المعتزلة: إن الفاسق المِلّيّ لا يسمى مؤمنًا؛ تعلُّقًا من الطائفتين بهذا الحديث! وإذا احتمل ما قلناه لم تكن لهم فيه حجة. المعلم بفوائد مسلم (1/ 294).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«وهو مؤمنٌ» أراد مستكمل الإيمان، وليس إيمانُه كإيمان من لم يفعل فعله، ولا يجوز أن يخرج الإيمان منه كلّه؛ إذ لو خرج الإيمان منه كلُّه لكان إنْ مات في نفس فعل الزِّنا أو نفس السَّرقة كافرًا، ولكن تأويله على ما ذكرنا، والله أعلم. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 167).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومقصودُ هذا الحديثِ: التنبيهُ على جميع أنواعِ المعاصي، والتحذيرُ منها: ‌فنبَّه بالزنا على جميع الشهواتِ المحرَّمة؛ كشهوةِ النَّظَرِ، والكلامِ والسمعِ، ولمسِ اليد، ونَقلِ الخُطَا إلى مثلِ تلك الشهوة؛ كما قال –عليه الصلاة والسلام-: «زِنَا العَينين النظرُ، وزِنَا اللسانِ الكلامُ، وزِنَا اليدِ البَطشُ، وزِنَا الرِّجلِ الخُطَا، والفَرجُ يصدِّقُ ذلك أو يكذِّبه». ونَبَّه بالسَّرِقَةِ على اكتسابِ المال بالحِيَلِ الخفيَّة، وبالنَّهبِ على اكتسابه على جهةِ الهَجمِ والمغالبة، وبالغلول: على أَخذِهِ على جهة الخيانة؛ هذا ما أشار إليه بعضُ علمائنا.
وهذا تنبيهٌ لا يتمشَّى إلا بالمسامحة، وأولَى منه أن يقال: إن الحديثَ يتَضَمَّنَ التحذيرَ عن ثلاثةِ أمور، وهي مِن أعظمِ أصول المفاسد، وأضدادُهَا مِن أُصولِ المصالح، وهي: استباحةُ الفروجِ المحرَّمةِ، والأموالِ المحرَّمة، وما يُؤَدِّي إلى الإخلال بالعقول. وخَصَّ بالذِّكر أغلبَ الأوجه حرمة، التي يؤخذ بها مالُ الغير بغير الحق، وظاهرُ هذا الحديث: حُجَّةٌ للخوارجِ والمعتزلةِ وغيرهم ممَّن يُخرِجُ عن الإيمانِ بارتكابِ الكبائر، غيرَ أنَّ أهلَ السنة يعارضونهم بظواهرَ أُخَرَى أولى منها، كقولِهِ -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه-: «مَن مات لا يُشرِكُ بالله شيئًا، دَخَلَ الجنةَ، وإن زنَى وإِن سرَقَ»، وكقوله في حديثِ عُبَادَةَ بنِ الصامت -رضي الله عنه-: «ومَن أصاب شيئًا مِن ذلك -يعني: مِنَ القتلِ والسَّرقة والزنا- فعُوقِبَ به، فهو كَفَّارةٌ له، ومَن لم يُعَاقَب، فأمرُهُ إلى الله؛ إن شَاءَ عفا، وإن شَاءَ عَذَّبَهُ»، ويعضُدُ هذا قولُهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} النساء: 48 و116. ونحو هذا في الأحاديث كثير.
ولمَّا صحَّت هذه المعارضةُ؛ تعيَّن تأويلُ تلك الأحاديثِ الأُوَلِ وما في معناها، وقد اختلَفَ العلماءُ في ذلك؛ فقال حَبرُ القرآنِ عبد الله بنُ عبَّاس: إنَّ ذلك محمولٌ على المستحِلِّ لتلك الكبائر، وقيل: معنى ذلك: أنَّ مرتكبَ تلك الكبائرِ يُسلَبُ عنه اسمُ الإيمانِ الكاملِ أو النافعِ، الذي يفيدُ صاحبَهُ الانزِجَارَ عن هذه الكبائر.
وقال الحسن: يُسلَبُ عنه اسمُ المدح الذي سمِّي به أولياءُ اللهِ المؤمنون، ويَستَحِقُّ اسمَ الذمِّ الذي سمّي به المنافقون والفاسقون.
وفي البخاري: عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: «يُنزعُ منه نورُ الإيمان». ورَوَى في ذلك حديثًا مرفوعًا، فقال: «مَن زَنَى نزَعَ اللهُ نُورَ الإيمانِ مِن قلبه، فإن شاء أن يَرُدَّهُ إليه رَدَّهُ»، وكُلُّ هذه التأويلاتِ حسنةٌ، والحديثُ قابلٌ لها، وتأويلُ ابن عبَّاس هذا أحسنُهَا. المفهم (1/ 246).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وقد دل الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وخروجه من العبد وعَوْدِهِ إليه. الإفصاح عن معاني الصحاح (3/ 209).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: لا يزن المؤمن، ولا يسرق ولا يشرب، فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين، وقيل: هو وعيد يقصد به الردع، كقوله –صلى الله عليه وسلم-: «لا إيمان لمن لا أمانة له»، «والمسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده». وقيل: معناه: لا يزني وهو كامل الإيمان، وقيل: معناه: ‌إن ‌الهوى ‌يغطي ‌الإيمان، ‌فصاحب ‌الهوى ‌لا ‌يرى ‌إلا ‌هواه، ‌ولا ‌ينظر ‌إلى ‌إيمانه الناهي له عن ارتكاب الفاحشة، فكأن الإيمان في تلك الحالة قد انعدم، وقال ابن عباس –رضي الله عنهما-: «الإيمان نَزِه، فإذا أذنب العبدُ فارقه». النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 69).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والإيمان المنفيُّ هنا هو الإيمان الكامل أو النافع. اختصار صحيح البخاري وبيان غريبه (2/ 324).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
ظاهرُه دليلٌ على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وأصحابنا أوّلوه بأن المراد بالمؤمن الكامل في إيمانه، أو ذو أَمْنٍ من عذاب الله، وبأن صيغ الأفعال –وإن كانت واردة على طريقة الإخبار- فالمراد منها النهي، ويشهد له أنه روي: «لا يزنون» بحذف الياء، «ولا يشرب» بكسر الباء؛ توفيقًا بينه وبين ما سبق من الدلائل على أن الإيمان هو التصديق، والأعمال خارجة عنه، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الحجرات: 9، ونظائره. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 74).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا وأشباهه لنفي الكمال؛ أي: لا يكون كاملًا في الإيمان حالةَ كونه زانيًا، والواو في «وهو مؤمن» للحال، ويحتمل أن يكون اللفظ لفظَ الخبر، ومعناه النهي، وقد اختار هذا التأويلَ -أعني التأويل الذي يكون بمعنى النهي- بعضُ العلماء، والتأويل الأول أولى. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 141).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ليس المراد به ما يقوله المرجئة: إنه ليس من خيارنا؛ فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج: إنه صار كافرًا، ولا ما يقوله المعتزلة: من أنه لم يبقَ معه من الإيمان شيء، بل هو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها! فهذه كلها أقوال باطلة قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع.
ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد، وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض المجتنب المحارم، وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق، فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين؛ إذْ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة، وهذا معنى قول من قال: أراد به نفي حقيقة الإيمان أو نفي كمال الإيمان، فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب؛ فإنَّ ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد. مجموع الفتاوى (11/ 652).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضاً:
ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم. العقيدة الواسطية (ص114).
وقال صدر الدين المناوي -رحمه الله-:
والحديث مُؤوَّل على: أن المراد نفي كمال الإيمان لا حقيقته. وقيل: هذا مما نؤمن به، ونَكِلُ معناه إلى الله وإلى رسوله. كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح (1/ 86).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وقوله فيما ذكر: «وهو مؤمن» أي: كامل، أو المراد: مَنْ فعل ذلك مستحلًّا له، أو هو من باب الإنذار بزوال إيمان مَنِ استمرَّ على هذه المعاصي. وقيَّد الجميع بالظرف بحمل الفعل بعده على إرادته، كما هو كثير في كلامهم، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} النحل: 98، أي: ‌لا ‌يزني ‌الزَّاني كمَنْ إرادته الزِّنا وهو مؤمن؛ لتحقق مراده بزناه، وانتفاء وقوعه منه سهوًا أو جهلًا، وكذا البقيَّة، فذكر القيد لإفادة كونه متعمدًا عالمًا. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 254).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
الحقيقة أن الحديث وإن كان مؤولاً، فهو حجة على الحنفية الذين لا يزالون مُصِّرين على مخالفة السلف في قولهم: بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم مرتبة واحدة، فهم لا يتصورون إيمانًا ناقصًا؛ ولذلك يحاول الكوثري رد هذا الحديث؛ لأنه بعد تأويله على الوجه الصحيح يصير حجة عليهم، فإن معناه: «وهو مؤمن إيماناً كاملاً».سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/1276).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذه أربعة أشياء: الزنى، وهو الجماع في فرَج حرام، والسَّرقة وهي أَخذ المال المحترم على وجه الخُفية من حِرز مثله، وشرب الخمر، والمراد تناوله بأكل أو شرب، والخمر كُل ما أَسكر على وجه اللذة والطرب، والنُّهبة التي لها شرف وقيمة عند الناس...؛ لا يفعل هذه الأشياء الأربعة أَحدٌ وهو مؤمن بالله حين فعله لها.
فالمراد بنفي الإيمان هنا: نفي تمام الإيمان. شرح العقيدة الواسطية(2/٢٤٤)


ابلاغ عن خطا