عن سعد بن عُبيدة قال سمع ابن عمر رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَن حَلَفَ بغير اللهِ فقد كَفَرَ أو أَشْرَكَ».
رواه أحمد برقم: (6072)، والترمذي برقم: (3253) واللفظ له، وأبو داود برقم: (3251)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (6204)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2042).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«حَلَفَ»:
الحلف: هو اليمين، حلف يحلف حلفًا، وأصلها العقد بالعزم والنية. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/ 425).
«كَفَرَ»:
أصل الكفر: تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 187).
«أشرك»:
أشرك بالله فهو مشرك؛ إذا جعل له شريكًا، والشرك: الكفر. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 466).
شرح الحديث
قوله: «من حلف بغير الله»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«مَنْ حلف بغير الله» يعني: مَن حلف بغير الله وصفاته معتقدًا له التعظيم. المفاتيح (4/ 171).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«مَنْ حلف بغير الله» معناه: معتقدًا تعظيم ذلك الغير. شرح المصابيح (4/ 101).
قوله: «فقد كفر أو أشرك»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فقد كفر أو أشرك» أي: فَعَلَ فِعْلَ أهل الشرك، أو تشبَّه بهم إذ كانت أيمانهم بآبائهم وما يعبدونه من دون الله، أو فقد أشرك غير الله في تعظيمه. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 414).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فقد كفر أو أشرك»؛ لأنه أشرك المحلوف به مع الله في التعظيم المختص به، وإذا لم يحلف به إلا من حيث العادة كما يقول: لا وأبي، فلا بأس، هذا هو الظاهر... «فقد أشرك» شرك دون شرك، يريد به: الشرك الخفي. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 171).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فقد كفر أو أشرك»؛ لأنه عظَّم غيره تعالى كتعظيمه...، فكل مَنْ حلف بأي شيء من أَبٍ أو أُمٍّ أو نبي أو كتاب فيدخل به الوعيد، وأَنه آتٍ بخصلة من خصال الكفار. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 207).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
والتعبير بقوله: «كفر أو أشرك» للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك. نيل الأوطار (8/ 262).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -رحمه الله-:
«مَنْ حلف بغير الله فقد أشرك» أي: أن الحلف بغير الله شرك، ولكنه -كما هو معلوم- شرك أصغر، ولكن إذا أُريدَ به أن الحلف بغير الله أعظم من الحلف بالله؛ فإنه يكون شركًا أكبر، فإذا أُريدَ بالحلف تعظيم غير الله وأنه أعظم من الله، وأنه يهاب الحلف بغير الله، ولا يهاب الحلف بالله، فهذا -والعياذ بالله- شرك أكبر، وأما إذا كان غير ذلك فإنه من الشرك الأصغر، ولكن كما ذكرنا أن الأمر الذي يوصف بأنه شرك أخطر من جميع المعاصي والذنوب الأخرى. شرح سنن أبي داود (374/ 9).
وسئل ابن قتيبة -رحمه الله-:
عن حديث قيل فيه: «من حلف بغير الله أشرك»، وقلتَ (أي: السائل): فسَّره بعض الناس، فقال: هو أن يحلف برب سوى الله، فيكون حينئذٍ مشركًا، وهل يلحق هذا مَنْ قال: وحقك لا فعلت، وحقك لأفعلن؟
(فأجاب): والذي عندي أنه لم يَرِدْ بقوله: «فقد أشرك» أي: كفر، وخرج عن الإسلام، وإنما أراد أنه قد أشرك بينه وبين الله في القَسَمِ إذا حلف به كما حلف بالله... فأما من قال: وحقك، وعيشك، وحياتك، وجدك، فليس من هذا في شيء؛ لأنه من اللغو الذي يستعمله الناس في ألفاظهم، ولا يتعمدونه ولا ينوون البِرَّ فيه، وإنما الشرك في اليمين أن تقصد الشيء بعينه، فتحلف به متعمدًا له، وتنوي البِرَّ في ذلك والوفاء كما يفعل الحالفون بالله، وإذا كان اللغو في الحلف بالله غير مؤاخذ به كان في الحلف بغيره أحرى ألا يؤاخذه به.
وقد روي في بعض الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للهَجَنَّع: «وأبيك إن هذا هو الجوع»؛ على ما يستعمل الناس بغير قصد إلى القَسَم كما كان يقال له: بأبي أنت وأمي، يراد: أفديك بأبي وأمي، والقائل يعلم أن هذا لا يكون، وكذلك السامع. المسائل والأجوبة (ص:322 -323).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الشعبي: الخالق يُقسِم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يُقسمَ إلا بالخالق، والذي نفسي بيده لأن أُقسِمَ بالله فأحنث أحب إلى من أنْ أُقسِمَ بغيره فأبرَّ. وذكر ابن القصار مثله عن ابن عمر، وقال ابن المنذر: مَنْ حلف بغير الله وهو عالم بالنهي فهو عاصٍ، قال: واختلف أهل العلم في معنى نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحلف بغير الله، أهو عام في الأيمان كلها أو هو خاص في بعضها؟ فقالت طائفة: الأيمان المنهي عنها هي الأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا منهم لغير الله، كاليمين باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح وبملل الشرك، فهذه المنهي عنها، ولا كفارة فيها، وأما ما كان من الأيمان مما يؤول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهي غير تلك، وذلك كقول الرجل: وحقِّ النبي، وحقِّ الإسلام، وكاليمين بالحج والعمرة والصدقة والعتق وشبهه، فكل هذا من حقوق الله ومن تعظيمه. وقال أبو عبيد: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله والقربة إليه، ومن القربة إليه اليمين بالعتق والمشي والهدى والصدقة، قال ابن المنذر: وقد مال إلى هذا القول غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بما روي عن أصحاب النبي -عليه السلام- من إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة المال والهدى ما أوجبوه مع روايتهم هذه الأخبار التي فيها التغليظ في اليمين بغير الله، أن معنى النهي في ذلك غير عام؛ إذ لو كان عامًا ما أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا، ولنهوا عن ذلك. شرح صحيح البخاري (6/97- 98 -99).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
والحلف بالمخلوقات كلها في حكم الحلف بالآباء، لا يجوز شيء من ذلك، فإن احتج محتج بحديث يروى عن... طلحة بن عبيد الله، في قصة الأعرابي النجدي، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفلح وأبيه إن صدق»، قيل له: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث مَنْ يُحتجُّ به، وقد روى هذا الحديث مالك وغيره عن أبي سهيل لم يقولوا ذلك فيه، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث وفيه: «أفلح والله إن صدق»، و: «دخل الجنة والله إن صدق»، وهذا أولى من رواية من روى: «وأبيه»؛ لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح وبالله التوفيق. قال أبو عمر: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد، واختلفوا في الكفارة، هل تجب على مَنْ حلف بغير الله فحنث؟ فأوجبها بعضهم في أشياء يطول ذكرها، وأبى بعضهم من إيجاب الكفارة على مَنْ حنث في يمينه بغير الله، وهو الصواب عندنا والحمد لله...
فالذي أجمع عليه العلماء في هذا الباب، هو أنه مَنْ حلف بالله أو باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته أو بالقرآن، أو بشيء منه فحنث فعليه كفارة يمين، على ما وصف الله في كتابه من حكم الكفارة، وهذا ما لا خلاف فيه إلا عند أهل البدع، وليسوا في هذا الباب بخلاف.
وأجمع العلماء على أن صريح اليمين بالله هو قول الحالف: بالله، أو: والله، أو: تالله. التمهيد (9/ 255- 257).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقد كثر القَسَمُ في الأحاديث عنه -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا القَسَمُ من الله تعالى في الكتاب العزيز، لكن حكمنا في المُقسَمِ به مخالف له سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى له أن يحلف بعظيم مخلوقاته تنبيهًا على عظمها عنده وتشريفها؛ كقوله -سبحانه وتعالى-: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}، {وَالطُّورِ}، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالضُّحَى} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}، {وَالْعَصْرِ}، ونظائرها؛ فكل هذا لما ذكرناه ولتفخيم المُقسَمِ عليه وتوكيده.
وأما حكمنا: فلا يجوز لنا أن نحلف إلا بالله تعالى أو باسم من أسمائه -تبارك وتعالى-، لا يشاركه فيه غيره أو بصفة من صفاته، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله»، وفي رواية: «فليحلف بالله أو ليسكت»، وورد في حديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك». العدة في شرح العمدة (1/ 338 -339).
وقال ابن العطار -رحمه الله- أيضًا:
فإن قيل: هذا الحديث مخالف لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح وأبيه» فقد أقسم بأبيه.
والجواب: أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يقصد بها اليمين.
وأما معنى قول عمر -رضي الله عنه-: فوالله ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا، أي: قائلًا لها من قبل نفسي، ولا آثرًا -بمد الهمزة-، أي: أروي عن غيري أنه فعله.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فمَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»؛ معناه: أن الحلف لا يكون إلا بالله، فمَن أقسم فليقسم به -سبحانه وتعالى- وإلا فليصمت.
وظاهر الأمر بالصمات: الوجوب، ومخالفته التحريم، ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، لكن قال أصحاب الشافعي وغيره: هو مكروه ليس بحرام، وقال غيرهم: هو حرام، والخلاف في ذلك موجود عند المالكية، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (3/ 1508).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقد اختلف العلماء في أن الحلف بمخلوق حرام أو مكروه، والخلاف عند المالكية والحنابلة، لكن المشهور عند المالكية الكراهة، وعند الحنابلة التحريم، وبه قال أهل الظاهر، ويوافقه ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه-: «لأنْ أحلفَ بالله تعالى مائة مرة فآثم خير من أنْ أحلِفَ بغيره فأبَرَّ» ...
وقال الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله تعالى معصية، قال أصحابه: أي: حرامًا وإثمًا، قالوا: فأشار إلى تردد فيه، وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بأنه ليس بحرام بل مكروه، ولذا قال النووي في (شرح مسلم): هو عند أصحابنا مكروه وليس بحرام، ويوافقه تبويب الترمذي عليه (كراهية الحلف بغير الله)، وقيد ذلك والدي -رحمه الله- في (شرح الترمذي) بالحلف بغير اللات والعزى وملة غير ملة الإسلام، فأما الحلف بنحو هذا فهو حرام، وكأن ذلك لأنها قد عظمت بالعبادة، وقد قال أصحابنا: إنه لو اعتقد الحالف بالمخلوق في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كَفَر، وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن حلف بغير الله فقد كفر». انتهى. فمُعَظِّم اللات والعزى كافر؛ لأن تعظيمها لا يكون إلا للعبادة، بخلاف معظم الأنبياء والملائكة والكعبة والآباء والعلماء والصالحين لمعنى غير العبادة لا تحريم فيه، لكن الحلف به مكروه، أو محرم على الخلاف في ذلك؛ لورود النهي عنه، وحكمته أن حقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، كما قال تعالى: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري»، فلا ينبغي مضاهاة غيره به في الألفاظ، وإن لم ترد تلك العظمة المخصوصة بالإله المعبود ...
إن قلتَ: كيف الجمع بين هذا النهي وبين قوله -عليه الصلاة والسلام- في قصة الأعرابي: «أفلح وأبيه إن صدق»؟
قلتُ: أجيب عن ذلك الحديث بأجوبة:
أحدها: تضعيف ذلك الحديث، وإن كان في الصحيح، قال ابن عبد البر: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث مَنْ يحتجُّ به، وقد روى هذا الحديث مالك، وغيره لم يقولوا ذلك، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث وفيه: «أفلح والله إن صدق، ودخل الجنة والله إن صدق»، وهذا أولى من رواية من روى «وأبيه»؛ لأنها لفظة منكرة تردُّها الآثار الصحاح. انتهى. ولهذا قال بعضهم: أن قوله: «وأبيه» تصحيف من بعض الرواة، وإنما هو «والله».
ثانيها: قال النووي في (شرح مسلم): جوابه أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يُقصد بها اليمين.
ثالثها: أنه منسوخ، قال القاضي أبو بكر بن العربي: روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك ... وقال الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري: وهو ضعيف؛ لعدم تحقق التاريخ ولإمكان الجمع، قلتُ: لو صح ما ذكره ابن العربي؛ لكان دليلًا على النسخ.
رابعها: أنه -عليه الصلاة والسلام- أضمر فيه اسم الله، كأنه قال: لا، ورب أبيه، والنهي إنما ورد فيمن لم يضمر ذلك بل قصد تعظيم أبيه على عادة العرب.
خامسها: أن هذه كلمة لها استعمالان في كلام العرب، تارة يقصد بها التعظيم، وتارة يريدون بها تأكيد الكلام وتقويته دون القسم، ومنه قول الشاعر:
أطيب سفاهًا من سفاهة رأيها *** لأهجوها لَمَّا هجتني محارب
فلا وأبيها إنني بعشيرتي *** ونفسي عن ذاك المقام لراغب
ومحال أن يقسم بأبي مَن يهجوه على سبيل الإعظام؛ لحقه في أمثلة عديدة. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 142- 145).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فمن حلف بغير الله فهو آثم، ولا يمين هكذا في الأصل، ولعلها: كفارة عليه؛ لأنها يمين غير منعقدة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» ولا ينبغي للإنسان أن يكثر من اليمين، فإن هذا هو معنى قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة:89 علي رأي بعض المفسرين، قالوا: {واحفظوا إيمانكم} أي: لا تكثروا الحلف بالله، وإذا حلفتَ ينبغي أن تقيد اليمين بالمشيئة، فتقول: والله إن شاء الله، لتستفيد بذلك فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: أن يتيسَّر لك ما حلفتَ عليه.
والفائدة الثانية: أنك لو حنثتَ فلا كفارة عليك، فمَن حلف على يمين وقال: إن شاء الله لم يحنث، ولو خالف ما حلف عليه، ولكن اليمين التي توجب الكفارة هي اليمين على شيء مستقبل، أما اليمين على شيء ماضٍ فلا كفارة فيها، ولكن إن كان الحالف كاذبًا فهو آثم، وإن كان صادقًا فلا شيء عليه، ومثال هذا لو قال قائل: والله ما فعلت كذا! فهنا ليس عليه كفارة صدق أو كذب، لكن إن كان صادقًا أنه لم يفعله فهو سالم من الإثم، وإن كان كاذبًا بأن كان قد فعله فهو آثم، وأما اليمين التي فيها الكفارة فهي اليمين على شيء مستقبل، فإذا حلفتَ على شيء مستقبل فقلتَ: والله لا أفعل كذا، فهذه يمين منعقدة، فإن فعلتَه وجبت عليك الكفارة، وإن لم تفعله فلا كفارة عليك، ولكن: هل الأفضل أن أفعل ما حلفتُ على تركه، أو الأفضل أن لا أفعل؟ في هذا الحديث بيّن النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنك إذا حلفتَ على يمين، ورأيت غيرها أتقى لله منها فكفِّر عن يمينك، وائتِ الذي هو أتقى، فإذا قال قائل: والله لا أكلم فلانًا وهو مسلم، فإن الأتقى لله أن تكلمه؛ لأن هجر المسلم حرام، فكَلِّمه وكَفِّر عن يمينك؛ لأن هذا أتقى لله، ولو قلتَ: والله لا أزور قريبي، فهنا نقول: زيارة القريب صلة رحم، وصلة الرحم واجبة فصِلْ قريبك وكفِّر عن يمينك؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه، فليأتِ الذي هو خير». وعلى هذا فقِسْ. والخلاصة أن نقول: اليمين على شيء ماضٍ لا يبحث فيها عن الكفارة؛ لأنه ليس فيها الكفارة، لكن إما أن يكون الحالف سالمًا أو يكون آثمًا، فإن كان كاذبًا فهو آثم، وإن كان صادقًا فهو سالم، واليمين على المستقبل هي التي فيها الكفارة، فإذا حلف الإنسان على شيء مستقبل وخالف ما حلف عليه، وجبت عليه الكفارة إلا أن يقرن يمينه بمشيئة الله، فيقول: إن شاء الله، فهذا لا كفارة عليه ولو خالف، والله الموفق. شرح رياض الصالحين (1/ 531 -533).