«سيِّدُ الاستغفارِ أنْ تقولَ: اللَّهم أنتَ ربِّي لا إلهَ إلَّا أنتَ، خلقتني وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بك مِن شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِكَ عليَّ، وأبوءُ لك بذنبي فاغفرْ لي، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ»، قال: «ومَنْ قالها مِن النَّهارِ مُوقِنًا بها، فماتَ مِن يومِهِ قبلَ أنْ يُمسيَ، فهو مِن أهلِ الجنَّةِ، ومَن قالها مِن الليلِ وهو مُوقِنٌ بها، فماتَ قبلَ أنْ يُصبحَ، فهو مِن أهلِ الجنَّةِ».
رواه البخاري برقم: (6306) ورقم: (6323)، من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أبوء»:
أي: أعترف وألتزم. فيض القدير، للمناوي (4/ 119).
وقال المظهري -رحمه الله-:
والبَوء: الإقرار؛ أي: أنا مُقِرٌّ ومعترف. المفاتيح في شرح المصابيح(3/ 183).
«مُوقِنًا»:
أي: مُخلصًا من قلبه، مُصدقًا بثوابها. فيض القدير، للمناوي (4/ 120).
شرح الحديث
قوله: «سيد الاستغفار أن تقول»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
سيد الاسْتِغْفَار أَي: أفضله، وَالسَّيِّد هُوَ الْمُقدَّم. كشف المشكل (2/ 209).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«سيد الاستغفار» السيد هنا مستعار من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجع إليه في الأمور بهذا الدعاء، الذي هو جامع لمعاني التوبة كلها. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1844).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«سيد الاستغفار» أي: أفضله وأعظمه نفعًا؛ لأن فيه الإقرار بالإلهية والعبودية، وأن الله خالق، وأن العبد مخلوق. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 186).
وقال العيني -رحمه الله-:
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: «سيد الاستغفار» لأن السيد في الأصل: الرئيس الذي يُقصد في الحوائج، ويُرجع إليه في الأمور، ولما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها؛ استعير له هذا الاسم، ولا شك أن سيدَ القوم أفضلُهم، وهذا الدعاء أيضًا سيد الأدعية، وهو الاستغفار... «أن تقول» بصيغة المخاطَب، وقال بعضهم: «أن يقول» أي: العبد، واعتمد لما قاله على ما رواه أحمد والنسائي: «أن سيد الاستغفار أن يقول العبد...»، وذكر أيضًا ما رواه الترمذي عن شداد: «ألا أدلك على سيد الاستغفار؟...» قلتُ: رواية أحمد لا تستلزم أن يقدّر هنا أي: العبد، على أن التقدير خلاف الأصل، ورواية الترمذي تؤيد ما ذكرنا، وتدفع ما قاله على ما لا يخفى. عمدة القاري (22/ 278).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«سيد الاستغفار»:... يفيد أن المراد بالاستغفار إنما هو التوبة، والظاهر من الحديث الإطلاق، مع أن جامعيته لمعاني التوبة ممنوعة كما لا يخفى؛ إذ ليس فيه إلا الاعتراف بالذنب الناشئ عن الندامة، وأما العزم على ألا يعود، وأداء الحقوق لله والعباد، فلا يفهم منه أصلًا. «أن تقول» أي: أيها الراوي، أي: أيها المخاطَب خطابًا عامًّا. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«سيد الاسْتِغْفَار» أي: أفضل أنواع صيَغه «أَن يَقُول» أَي: العَبْد. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 63).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قال ابن أبي جمرة: جمع في الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى «سيد الاستغفار» ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شرِّ ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو، وكل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ لأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من الله، قال: ويظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع صحة النية والتوجه والأدب. فيض القدير (4/ 158).
وقال المغربي -رحمه الله- معلقًا:
فلو أن أحدًا حصَّل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد، أو استغفر أحدٌ بهذا اللفظ الوارد، لكن أخلَّ بالشروط؛ هل يتساويان؟ فالظاهر ألا يكون سيد الاستغفار إلا إذا جمع الشروط المذكورة، وإن كان فضل الله أوسع، فعلى العبد التوجه بقدر استطاعته. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 450).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«سيد الاستغفار» أي: أفضل أنواع الأذكار التي يطلب بها المغفرة هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلها ... «أن تقول» أي: المستغفر الدال عليه المصدر. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 430).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
واعلم أنه قد نبَّه الشيخ شمس الدين الجزري على الفرق بين التوبة والاستغفار، بأن التوبة لا تكون إلا لنفسه، بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره، وبأن التوبة: هي الندم على ما فرط منه في الماضي، والعزم على الامتناع عنه في المستقبل، والاستغفار: طلب الغفران لما صدر منه، ولا يجب فيه العزم في المستقبل. فيض الباري على صحيح البخاري (6/ 218).
قوله: «اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اللهم أنت ربي» أي: ورب كل شيء بالإيجاد والإمداد «لا إله إلا أنت» أي: للعباد. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«اللهم أنت ربي» سيدي ومالكي. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 57).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«اللهم أنت ربي...» فتُقر لله -عز وجل- بلسانك وبقلبك أن الله هو ربك المالك لك، المدبر لأمرك المعتني بحالك. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
«اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت» هذا فيه إثبات الربوبية، وإثبات الألوهية. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 487).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«لا إله إلا أنت» أي: لا معبود لي سواك، ولا ملجأ لي إلا إليك. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/269.
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«اللهم أنت ربي» أي: خالقي ومالكي «لا إله» أي: لا معبود بحق في الوجود «إلا أنت» يا إلهي. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (23/ 102).
قوله: «خلقتني وأنا عبدك»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لا إله إلا أنت، أنت خلقتني» كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة: «مَن قال حين يصبح: اللهم لك الحمد، لا إله إلا أنت...»، والباقي نحو حديث شداد، وزاد فيه: «آمنتُ لك مخلصًا لك ديني». فتح الباري (11/ 99).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«خلقتني» استئناف بيان للتربية «وأنا عبدك» أي: مخلوقك ومملوكك، وهو حال. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«خلقتني...» تُقِرُّ بأن الله خلقك، هو الذي أوجدك من العدم. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«خلقتني» قَيَّدَ الربوبية، فإنما قد تكون بدون الخلق كسائر الموالي مع العبيد «وأنا عبدك» إقرار بما خلق له. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري. (10/ 57).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«وأنا عبدك» يجوز أن يكون مؤكِّدة، وأن يكون مُقدَّرة، أي: أنا عابد لك، كقوله تعالى: {وبَشَّرْنَاه بإسْحَاقَ نَبيًا...} الصافات: 112، وينصره عطف قوله: «وأنا على عهدك ووعدك». الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1844).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأنا عبدك» فتُقِرُّ لله -عز وجل- بلسانك وبقلبك (بأنك) عبده كونًا وشرعًا؛ عبده كونًا يفعل بك ما يشاء؛ إن شاء أمرضك، وإن شاء أَصَحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّك، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته -عز وجل-. وكذلك أنت عبده شرعًا؛ تتعبد له بما أمر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
قوله: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» يعني: العهد الذي أخذه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم مِن أصلاب آبائهم أمثال الذرِّ، وأَشهدهم على أنفسهم. شرح صحيح البخاري (10/ 75).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنه مَن مات لا يشرك منهم بالله شيئًا، وأدّى ما افترض الله عليه؛ أن يدخل الجنة، فينبغي لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى مَن وفّى بذلك؛ اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه بذلك. ومثل ذلك سأل الأنبياءُ -عليهم السلام- اللهَ تعالى في دعائهم، فقال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} إبراهيم: 35، وقال يوسف –عليه السلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يوسف: 101، وقال نبينا: «وإذا أردت بقومٍ فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». وأعلم أُمَّتَه بقوله: «أنا على عهدك ووعدك ما استطعت» إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات، والشكر على النعم؛ إذ نِعمه تعالى كثيرة، ولا يحاط بها، ألا ترى قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} لقمان: 20، فمن يَقْدِرُ مع هذا أن يؤدي شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكن قد رفق اللهُ بعباده فلم يُكلِّفْهُم من ذلك إلا وسعهم، وتجاوز عما فوق ذلك، وكان -صلى الله عليه وسلم- يمتثل هذا المعنى في مبايعته للمؤمنين، فيقول: «أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم». شرح صحيح البخاري (10/ 75).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك» فيه وجهان:
أحدهما: أن المعنى: أنا على ما عاهدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك ما استطعت.
والثاني: أنا على ما عهدتَ إليّ مِن أمرك، أنتجز وعدك في الثواب عليه.
وقوله: «ما استطعتُ» فيه اعتراف بالعجز عن كُنْه (حقيقة) الواجب من حق الحق -عز وجل-. كشف المشكل (2/ 209).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ» أي: أنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك، لا أزول عنه، واستثنى بقوله: «ما استطعتُ» موضع القَدَّر السابق في أمره، أي: إن كان قد جرى القضاء أنْ أَنْقُضَ العهد يومًا ما، فإني أُخْلِدُ عند ذلك إلى التنصل والاعتذار؛ لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيتَه عليَّ.
وقيل: معناه: إني متمسك بما عهدته إليَّ من أمرك ونهيك، ومُبْلي العذر في الوفاء به قَدْرَ الوُسْع والطاقة، وإن كنتُ لا أقدر أن أبلغ كُنْه (حقيقة) الواجب فيه. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 324).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك» أي: أنا مقيم على الوفاء بما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيتك، وما عاهدتني، أي: أمرتني في كتابك وبلسان نبيك، وأنا موقن بما وعدتني من البعث والنشور وأحوال القيامة، والثواب والعقاب.
«ما استطعتُ» أي: بقدر طاقتي، أي: لا أَقْدِرُ أن أعبدك كما تحب وترضى، ولكن أجتهد بقدر طاقتي. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 183).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «وأنا على عهدك ووعدك» يريد: أنا على ما عاهدتُك عليه وواعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، وقد يكون معناه: إني مقيم على ما عهِدتَ إليَّ من أمرك ومتمسكٌ به، ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر عليه، واشتراط الاستطاعة في ذلك لي. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1844).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«على عهدك» أي: على ما عاهدتُك عليه ووعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، ويحتمل أن يكون معناه: إني مقيم على ما عهِدتَ إليّ من أمرك، وأنك منجز وعدك في المثوبة والأجر عليه «ما استطعتُ» فيه: الاعتراف بالعجز والقصور عن القيام بكمال حقه تعالى. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 344).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك» الذي عاهدتك حين قلتَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...} الأعراف: 172، أو عاهدتني عليه، وكذلك «ووعدك» أي: ما وعدتنا على لسان رسولك، أو وعدناك من القيام بعبادتك «ما استطعتُ» هذا يؤيد المعنى الثاني.
وفيه إشارة إلى أن القيام بحق العبادة ليس في الوسع. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 57).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك» أي: أنا مقيم على الوفاء بعهد الميثاق، وأنا موقن بوعدك يوم الحشر والتلاق «ما استطعتُ» أي: بقدر طاقتي...، أي: لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك، لكن أشهد بقدر طاقتي. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك» أي: على ما عاهدتُك ووعدتك من الإقرار بالعبودية والثبات عليها، وإن لم أفِ بذلك، أو: أنا مقيم على عهدك ووعدك الذي عهدتَ ووعدت بفضلك وكرمك لأهل طاعتك، وإن لم يأتِ مني طاعة كما ينبغي. لمعات التنقيح (5/ 155).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ» تُقِرُّ (بـ)أنك على عهده ووعده ما استطعت على عهده؛ لأن كل إنسان قد عاهد الله أن يعمل بما علم، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} آل عمران: 187، فمتى أعطاك الله علمًا فإنه قد عهد إليك أن تعمل به، وعلى وعدك أي: تطبيق وعدك ما وعدتَ أهل الخير من الخير، وما وعدت أهل الشرِّ من الشرِّ، ولكن أنا على وعدك أي: في الخير؛ لأنك في هذه الكلمات تتوسل إلى الله -عز وجل-. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
قوله: «أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أعوذ بك من شرِّ ما صنعت» أي: من أجل شرِّ صنعي بأن لا تعاملني بعملي. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أعوذ بك من شرِّ ما صنعت» أي: صنعًا أو ما صنعته، أي: من الإِثم والعذاب والبلاء المرتب على ذلك. دليل الفالحين (8/ 719).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أعوذ بك من شر ما صنعت» يعني: أنت تعوذ بالله من شرِّ ما صنعتَ؛ لأن الإنسان يصنع خيرًا فيثاب، ويصنع شرًّا فيعاقب، ويصنع الشرَّ فيكون سببًا لضلاله، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ...} المائدة: 49، فأنت تتعوذ بالله من شرِّ ما صنعتَ. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
قوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«أَبُوء» أي: أعترف بالنعمة والاستغفار من الذنوب، يقال: باء فلان بذنبه: إذا احتمله كرهًا، لا يستطيع دفعه عن نفسه. كشف المشكل (2/ 209).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «أبوء بنعمتك» معناه: الاعتراف بالنعمة والإقرار بها. معالم السنن (4/ 145).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أبوء لك بنعمتك علي» (البَوْء): الإقرار؛ أي: أنا مُقِرٌّ ومعترف بأنك المنعم عليَّ، وأبوء بأني مذنب. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 183).
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
معنى «أبوء» أُقِرُّ بنعمتك، وألزمها نفسي، وأصل البواء: اللزوم، يقال: أباء الإمام فلانًا بفلان إذا ألزمَه دمه وقتله به، وفلان بَوَاءٌ لفلان إذا قُتل به، وهو كقوله: بَوَّأَهُ الله منزلًا، أي: ألزمه الله إياه، وأسكنه إياه. وعبارة صاحب الأفعال (ابن القطاع): باء بالذنب: أقر، أي: أقر بالنعمة والاستغفار والذنب. وقيل: «أبوء بذنبي» أي: أحمله كرهًا، لا أستطيع صرفه عن نفسي، ومنه {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} البقرة: 90. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 186).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ففي قوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ» اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها، وقوله: «وأبوء بذنبي» اعتراف منه بأنه مذنب ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه، مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير وغفران الشر من الشكور الغفور؛ الذي يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل. مجموع الفتاوى (18/ 203).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ» سقط لفظ: «لك» من رواية النسائي، و«أبوء» بالموحدة والهمز ممدود معناه: أعترف، ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد: «وأعترف بذنوبي». وأصله البَوَاء، ومعناه: اللزوم، ومنه: بَوَّأَهُ الله منزلًا إذا أسكنه، فكأنه ألزمه به. قوله: «وأبوء لك بذنبي» أي: أعترف أيضًا، وقيل: معناه: أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني...، قلتُ: ويحتمل أن يكون قوله: «أبوء لك بذنبي» أعترف بوقوع الذنب مطلقًا؛ ليصح الاستغفار منه، لا أنه عدَّ ما قصَّر فيه من أداء شكر النعم ذنبًا. فتح الباري (11/ 99).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أبوء» بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودًا: أعترف «لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي» أعترف به، أو أحمله برغمي، فلا أستطيع صرفه عني، ولأبي ذر عن الكشميهني: «وأبوء لك بذنبي». إرشاد الساري (9/ 175).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أبوء لك» أي: ألتزم وأرجع وأَقِرُّ «بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي». مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«بنعمتك عليَّ» المفرد المضاف من صيغ العموم، أي: بنعمتك التي لا تحصر ولا تحصى «وأبوء بذنبي» حذف «لك» في نسخ الرياض (رياض الصالحين)، وكذا هو في البخاري في الدعوات، ولعل حكمة تركها: التأدب، وترك ِالخطاب في جانب الاعتراف بالذنب. دليل الفالحين (8/ 719).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «وأبوء لك بذنبي»... بالذنب هو وقوع الذنب مطلقًا، لا أنه الذنب الذي وقع بسبب التقصير في الشكر. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 450).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أبوء لك» بفتح الهمزة وضم الباء فواو مهموز، أي: أعترف وألتزم، وأصل البَوْءِ اللزوم، ومنه: «فقد باء بها أحدهما» أي: التزمها ورجع بها «بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي» أي: أعترف، وقيل: معناه: أحمله برَغْمِي، لا أستطيع صرفه عني. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 430).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أبوء لك بنعمتك علي» يعني: أعترف بنعمتك العظيمة الكبيرة التي لا أحصيها، «وأبوء بذنبي» أعترف به. شرح رياض الصالحين (6/ 717).
قوله: «فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«اغفر لي» ولأبي ذر: «فاغفر لي» بزيادة فاء «فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». إرشاد الساري (9/ 175).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فإن قلتَ: أين لفظ الاستغفار في هذا الدعاء؟ وقد سمَّاه الشارع سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب: هو طلب المغفرة من الله، وسؤاله غفران الذنوب السالفة، والاعتراف بها، وكل دعاء كان فيه هذا المعنى فهو استغفار، مع أن في الحديث لفظ الاستغفار، وهو قوله: «فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 186).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» يؤخذ منه: أن مَنِ اعترف بذنبه غُفِر له، وقد وقع صريحًا في حديث الإفك الطويل، وفيه: «العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه». فتح الباري (11/ 99).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» هو اعتراف بالذنب، وإقرار بأنه لا غافر له سواه تعالى، وفائدة الاعتراف: محو الاقتراف، كما قيل:
وإن اعتراف المرء يمحق ذنوبه *** كما أنَّ إنكار الذنوب ذنوبُ. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 430).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
اعترفَ أولًا بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعترفَ بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، وعدَّه ذنبًا مبالغة في التقصير، وهضمِ النفس. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1845).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وهذا المعنى دائم، أعني: توالي النعم من جانب الحق ووجود الذنب والتقصير من العبد، وفيما ذكر العجز والاعتذار والذلة والافتقار؛ ولذلك سُمِيَّ سيد الاستغفار. لمعات التنقيح (5/ 155).
قوله: «قال: ومَن قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومَن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ومَن قالها من النهار...» في رواية النسائي: «فإن قالها حين يصبح»، وفي رواية عثمان بن ربيعة: «لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدَر قبل أن يصبح، أو حين يصبح فيأتي عليه قدَر قبل أن يمسي». فتح الباري (11/ 99).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«من قَالَهَا موقنًا» اليَقِين أبلغ علم مكتسب يرْتَفع مَعَها الشَّك؛ لظُهُور برهانه، والكلام يحْتَمل معنيين:
أَحدهمَا: الْيَقِين بِمن يُقِرُّ له.
والثاني: اليقين بما تحويه الكَلِمَات؛ وذلك يكون بحضور الْقلب، وصدق الاعتراف، لا بلقلقة اللسَان فقط. كشف المشكل (2/ 209).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«موقنًا بها» موقنًا: منصوب على الحال؛ يعني: مَن قرأ هذا الدعاء عن اليقين والاعتقاد ومات؛ فقد مات مؤمنًا، ومَن مات مؤمنًا يدخل الجنة لا محالة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 183).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«مَن قالها موقنًا بها» أي: مخلصًا من قلبه مصدقًا بثوابها، وقال الداودي: يحتمل أن يكون هذا من قوله: {إِنَّ الحسَنَاتِ يُذهِبن السَّيئاتِ} هود: 114، ومثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء وغيره؛ لأنه بشَّر بالثواب، ثم بشَّر بأفضل منه، فثبت الأول وما زيد عليه، وليس يبشِّر بالشيء ثم يبشِّر بأقل منه مع ارتفاع الأول، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخًا، وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما، والله -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء، كذا حكاه ابن التين عنه، وبعضه يحتاج إلى تأمل. فتح الباري (11/ 99).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«من أهل الجنة» فإن قلتَ: المؤمن وإن لم يقلها مِن أهلها أيضًا! قلتُ: المراد أنه يدخلها ابتداءً من غير دخول النار؛ لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها المؤمن بمضمونها لا يعصي الله، أو لأن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار. فإن قلتَ: ما الحكمة في كونه أفضل الاستغفارات؟ قلتُ: أمثاله من التعبديات الله أعلم بها، لكن لا شك أن فيه ذكر الله بأكمل الأوصاف، وذكر نفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غاية التضرع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (22/ 124).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ومَنْ قالها بالنهار موقنًا بها قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة» فإن قلتَ: المؤمن من أهل الجنة على كل حال سواء قالها أو لم يقل.
قلتُ: أجاب بعضهم بأنه يدخل الجنة من غير دخول النار؛ لأن الموقن بها لا يعصي الله، أو يعفو الله عنه ببركة هذا الاستغفار، قلتُ: هذا شيء لا يدل عليه الحديث، بل المراد: أن القائل بها موقن بجزم بدخول الجنة، بخلاف سائر المؤمنين فإنه لا جزم لأحد، وكفى بهذا فضيلة؛ ولذلك كان سيد الاستغفار، وكذا باعتبار معناه، فإنك إذا تأملت وجدته مشتملًا على الإقرار بالألوهية والعبودية، وأن الله هو الخالق، وأن النعم كلها منه، وأن الذنب وإن كان بخلق الله إلا أنه مضاف إلى العبد، ثم بعد هذه الوسائل سأل المغفرة وحصرها فيه تعالى. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 57).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومَن قالها من النهار موقنًا بها» نصب على الحال؛ أي: اعتقادًا بها، «فمات من يومه...» يعني: يموت مؤمنًا يدخل الجنة لا محالة. شرح المصابيح (3/ 142).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومَن قالها» أي: هذه الكلمات «من النهار» أي: في بعض أجزائه «موقنًا بها» نصب على الحال، أي: حال كونه معتقدًا لجميع مدلولها إجمالًا أو تفصيلًا «فمات من يومه» احتيج إليه مع كون الفاء للتعقيب؛ لأن تعقيب كل شيء بحسبه، كتزوج فولد له، وهذا لا يوجب قولها في ذلك اليوم «قبل أن يمسي» أي: تغرب شمسه، فهو زيادة إيضاح وتأكيد «فهو من أهل الجنة» أي: يموت مؤمنًا فيدخل الجنة لا محالة، أو مع السابقين. مرقاة المفاتيح (4/ 1619).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ومَن قالها من الليل وهو موقن بها» خالف بين الحال، فجاء بها مفردة أولًا وجملة ثانيًا؛ تفنّنًا في التعبير «فمات قبل أن يصبح» أي: يدخل في الصباح «فهو من أهل الجنة». دليل الفالحين (8/ 719).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ومَن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» فينبغي أن يقولها نهارًا وليلًا كُلُّ ذاكر. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 430).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فاحرص على حفظ هذا الدعاء، وحافظ عليه صباحًا ومساءً، إن متَّ من يومك فأنت من أهل الجنة، وإن متَّ من ليلتك فأنت من أهل الجنة. شرح رياض الصالحين (6/ 717).