«مَن قال: إِني بريءٌ من الإسلامِ، فإنْ كان كاذبًا فهو كما قال، وإنْ كان صادقًا لم يَعُدْ إلى الإسلامِ سالمًا».
رواه النسائي برقم (3772)، وابن ماجه برقم (2100)، والحاكم برقم (7818) واللفظ لهم، وأحمد برقم: (23006)، وأبو داود برقم: (3258)؛ وزادا فيه: «من حلف أنه بريء من الإسلام»، من حديث بُرَيْدَة بن الْحُصَيب -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6421)، وإرواء الغليل برقم: (2575).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بريءٌ»:
برئ بكسر الراء، بمعنى: بنتُ عنه، وتخلَّصتُ منه. مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض (1/ 82).
وقال ابن درستويه -رحمه الله-:
التبرؤ من الشيء: هو الانتفاء منه. تصحيح الفصيح وشرحه (ص: 66).
شرح الحديث
قوله: «من قال: إِني بريء من الإسلام» وفي رواية: «من حلف أنه بريء من الإسلام»:
قال العراقي -رحمه الله-:
أي: علَّق براءته من الإسلام على أمر، كأن قال: إن فعل، يعني: نفسه كذا؛ فهو بريء من الإسلام، أو يهودي أو نصراني أو كافر. وقوله في رواية أصحاب السنن: «من قال: إني بريء من الإسلام» أي: علَّق على أمر، كما دلت عليه رواية المصنف، وقد دل على هذا تقسيم حاله إلى كاذب وصادق، ولا يتأتى ذلك إلا مع التعليق، والعجب أن أبا داود رواه عن أحمد بغير اللفظ الذي حكيناه من المسند. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 166).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
أي: قال: إنْ فعلتُ كذا فإني بريء من الإسلام، يعني: حلف ببراءته من الإسلام. لمعات التنقيح (6/ 251).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من حلف فقال» في حلفه: «إني بريء من الإِسلام» أو من الله أو من رسوله أو من الكعبة إن فعلت كذا. شرح سنن أبي داود (13/ 599).
قوله: «فإن كان كاذبًا فهو كما قال»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«فهو كما قال» ظاهره: أنه يختل بهذا الحلف إسلامُه، ويصير كما قال، ويحتمل أن يعلق ذلك بالحنث... ولعل المراد به التهديد والمبالغة في الوعيد، لا الحكم بأنه صار يهوديًا، أو بريئًا عن الإسلام، فكأنه قال: فهو مستحق لمثل عذاب ما قال.
ونظيره قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من ترك صلاة فقد كفر» أي: استوجب عقوبة من كفر. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 438).
وقال العراقي -رحمه الله-:
«فإن كان كاذبًا فهو كما قال» أي: أخبر بأمر ماضٍ، وعلَّق براءته من الإسلام على كذبه في ذلك الإخبار، و«كان كاذبًا فهو كما قال» أي: من البراءة من الإسلام، وهو صريح في أن هذا الكلام كفر، وهو ظاهر المعنى، كما لو علق طلاق زوجته أو عتق عبده على دخول الدار في الماضي وكان قد دخل، نعم لو بنى إخباره بذلك على ظنه أنه كذلك فينبغي أن لا يكفر؛ لأنه ربط الكفر بأمر يظن أنه غير حاصل، فلا خلل في اعتقاده، ولا في لفظه باعتبار ظنه، ولم يتناول الحديث هذه الصورة عند من يشترط التعمد في حقيقة الكذب.
وأما عند من لا يشترطه فهو عام مخصوص، ويدل لذلك قوله في حديث ثابت بن الضحاك: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال»، وهو في (الصحيحين) بهذا اللفظ، والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 167).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فإن كان» يشبه أن يكون المراد: فإن كان الحالف قصده أن يكون «كاذبًا» في يمينه، وأن عزمه أن يفعل المحلوف عليه، ويحنث في يمينه التي هي براءته من الإِسلام «فهو» بريء من الإِسلام «كما قال» إذا فعل ما حلف عليه، بل قالوا: إنه يصير كافرًا في الحال وإن لم يفعل؛ لأن من عزم على أن يكفر في آخر الشهر فهو كافر في الحال. شرح سنن أبي داود (13/ 600).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وهذا يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما جعل عقوبته في دينه دون ماله. شرح المصابيح (4/ 102).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن كان كاذبًا» أي: في حلفه على زعمه «فهو كما قال» فيه مبالغة تهديد، وزجر مع التشديد عن ذلك القول، فإنه يمين غموس. مرقاة المفاتيح (6/ 2243).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فهو كما قال» أي: بريء من الإِسلام؛ لأنه رضي ببراءته من الإِسلام. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (10/ 553).
وقال الشيخ محمد بن آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإن كان كاذبًا» أي: في حلفه على زعمه «فهو كما قال» ... وقال ابن المنذر: قوله: «فهو كما قال» ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. انتهى.
قال الجامع -عفا الله تعالى عنه-: الذي يظهر لي أن يقال بالتفصيل السابق؛ لأن الحديث بمعنى الحديث الماضي، وهو أنه على ظاهره، يَكْفُرُ به صاحبه إن قاله متعمدًا معتقدًا البراءة والخروج من الإسلام -عياذًا بالله تعالى من ذلك-، وإلا فهو منكر من القول وزور محرم عليه، وهو عاصٍ بذلك، تجب التوبة عليه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (30/ 302).
قوله: «وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا»:
قال العراقي -رحمه الله-:
معناه: أنه نقص كمال إسلامه بما صدر منه من هذا اللفظ، وقد تقدم أن لفظ ابن ماجه: «لم يعد إليه الإسلام سالمًا»، واللفظان صحيحان، فنقص هو يتعاطى هذا اللفظ، ونقص إسلامه بذلك، وهذا يدل على تحريم هذا اللفظ، ولو كان صادقًا في كلامه. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 167).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وإن كان» قصده باليمين أن يكون «صادقًا» فيها غير فاعل المحلوف عليه، بل قصد بيمينه التباعد من المحلوف، وشدَّد على نفسه في ترك فعل المحلوف عليه بما لا يتصور وقوعه منه، وهو كالمستحيل في حقه «فلن يرجع إلى الإِسلام» الكامل «سالمًا» من نقص فيه، ويحتمل أن يكون التقدير: فإن كان الحالف مكذِّبًا لدين الإسلام غير مصدق له، فهو كما قال بلسانه بريء منه، وتجري عليه أحكام المرتدين.
وإن كان صادقًا في إيمانه مصدقًا لشريعة الإسلام ولم يقصد بيمينه إلا التباعد عما حلف عنه، فإنه لم يصر بعد حلفه سالمًا دينه من نقص، ولم أر من تكلم على معناه، بل قال الخطابي: إن فيه دليلًا على أن من حلف بالبراءة عن الإِسلام فإنه يأثم، ولا يلزمه كفارة؛ لأنه -عليه السلام- إنما جعل عقوبته في دينه، ولم يجعل في ماله شيئًا. ولم يجزم فيه بكراهة ولا تحريم. وقد جزم النووي في (الأذكار) بالتحريم؛ فقال في آخره: يحرم أن يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإِسلام أو نحو ذلك. فإن قاله وأراد حقيقة فعله وخروجه عن الإسلام بذلك صار كافرًا في الحال، وجرت عليه أحكام المرتدين، وإن لم يرد ذلك لم يكفر، ولكنه ارتكب محرمًا فيجب عليه التوبة.
قال أصحابنا: وإذا لم يكن كافرًا فيأتي بالشهادتين، ويتوب إلى الله تعالى ويستغفر من ذلك.
قال الإسنوي: وسكتوا عن حالة الإطلاق، يعني: إذا مات عقب ذلك ولم يتبين كونه صادقًا أو كاذبًا، أو غاب وتعذرت مراجعته فهل يحكم بالكفر أم لا؟ والقياس يقتضي التكفير إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره؛ لأن اللفظ بوصفه يقتضيه.
قال: وكلام النووي السابق عن (الأذكار) يقتضي أنه لا يكفر بذلك، والقياس خلافه، ورواية ابن ماجه أبلغ في التحريم، ولفظه: «فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إليه الإِسلام سالمًا»، وظاهر هذا أنه يفارقه الإِسلام، وبالشهادتين لم يرجع إليه بلا نقص. شرح سنن أبي داود (13/ 600).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قيل: هذا قريب من اليمين بالأمانة، وقيل: يجوز أنه زعم أنه صادق، وليس بصادق في الحقيقة. شرح المصابيح (4/ 102).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإن كان صادقًا» أي: في حلفه على زعمه أعم من أن يكون مطابقًا في الواقع أم لا «فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» أي: يكون بنفس هذا الحلف آثمًا... قال ابن الهمام: قوله: وهو بريء من الإسلام إن فعل كذا يمين عندنا، وكذا إذا قال: هو بريء من الصلاة والصوم. مرقاة المفاتيح (6/ 2243).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
يعني: لم يفعل، وبَرَّ في يمينه، فحينئذٍ لا يكفر، ولكن لن يرجع إلى الإسلام سالمًا؛ فإن الحلف بشيء يحتمل الكفر على تقدير الحنث لا يليق بحال المسلم، ولا ينبغي أن يتجاسر عليه، وحاصله: أنه يأثم بهذا الحلف، فافهم. لمعات التنقيح (6/ 251).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
لأن فيه نوع استخفاف بالإِسلام، وميل إلى الكفر. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (10/ 553).
وقال العظيم آبادي -رحمه الله-:
«وإن كان صادقًا» أي: في حلفه، يعني: مثلًا حلف: إن فعلت كذا فأنا بريء من الإسلام، فلم يفعل فبَرَّ في يمينه «سالمًا»؛ لأن فيه نوع استخفاف بالإسلام، فيكون بنفس هذا الحلف آثمًا. عون المعبود (9/ 62).
قال الخطابي -رحمه الله-:
فيه دليل على أن من حلف بالبراءة من الإسلام فإنه يأثم، ولا يلزمه الكفارة؛ وذلك لأنه إنما جعل عقوبتها في دينه، ولم يجعل في ماله شيئًا. معالم السنن (4/ 46).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه بيان لغلظ تحريم هذا الحلف. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كاذبًا» ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقًا؛ لأنه لا ينفك الحالف بها عن كونه كاذبًا، وذلك لأنه لا بد أن يكون معظِّمًا لِمَا حلف به، فإن كان معتقدًا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة؛ لكونه عظَّمه بالحلف به، وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبًا حمل التقييد بـ«كاذبًا» على أنه بيان لصورة الحالف، ويكون التقييد خرج على سبب، فلا يكون له مفهوم، ويكون من باب قول الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} آل عمران:112، وقوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الأنعام: 151... ونظائره كثيرة، ثم إن كان الحالف به معظِّمًا لِمَا حلف به مُجِلًّا له كان كافرًا، وإن لم يكن معظِّمًا بل كان قلبه مطمئنًا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به، ولا يكون كافرًا خارجًا عن ملة الإسلام، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر، ويراد به كفر الإحسان وكفر نعمة الله تعالى؛ فإنها تقتضي أن لا يحلف هذا الحلف القبيح، وقد قال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- فيما ورد من مثل هذا مما ظاهره تكفير أصحاب المعاصي: إن ذلك على جهة التغليظ والزجر عنه، وهذا معنى مليح، ولكن ينبغي أن يُضمَّ إليه ما ذكرناه من كونه كافر النعم. شرح صحيح مسلم (2/ 126).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وهذا النوع من الكلام هل يُسمَّى في عرف الشرع يمينًا؟ وهل تتعلق الكفارة بالحنث فيه؟
فذهب النخعي والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق إلى أنه يمين، تجب الكفارة بالحنث فيها.
وقال مالك والشافعي وأبو عبيد: أنه ليس بيمين، ولا كفارة فيه، لكن القائل به آثم، صدق فيه أو كذب، وهو قول أهل المدينة، ويدل عليه أنه -عليه الصلاة والسلام- رتَّب عليه الإثم مطلقًا، ولم يتعرض للكفارة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 438).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وصرح أيضًا بتحريم ذلك ووجوب التوبة منه الماوردي في (الحاوي) والنووي في (الأذكار)...
والتقسيم الذي في حديث بريدة يردُّ عليه، والظاهر أن كلامه هذا إنما هو مثل قوله: واللات والعزى، وإن كان ذكر في صدر كلامه أيضًا قوله: هو يهودي إن كان كذا. فائدة: تقسيمه إلى صادق وكاذب يدل على أن في ذلك الإخبار عن ماضٍ كما تقدم، فإن الخبر هو المحتمل للصدق والكذب، أما إذا وقع منه مثل هذا التعليق على وقوع أمر في المستقبل فقد يقال: يلحق بالماضي، ويقال: إن فعل ذلك المحلوف عليه كفر، وإلا فلا، وقد يقال: إن لفظ الحديث أولًا متناول له إلا أنه لَمَّا فصل اقتصر على أحد القسمين، ويعرف منه حكم القسم الآخر، وقد يقال: إذا كان عن ماضٍ فقد حقق الكفر على نفسه، وأما إذا كان على مستقبل فقد يقع ذلك الأمر، وقد لا يقع، والغالب من حال الآتي بهذا اللفظ أنه إنما يقصد به إبعاد نفسه عن ذلك الأمر بربطه بأمر لا يقع منه، وهذا أقرب، ويوافقه كلام الرافعي حيث قال: إن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن التهود، ثم قال: هذا إذا قصد القائل تبعيد النفس عن ذلك، فأما مَنْ قال ذلك على قصد الرضا بالتهود، وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل فهو كافر في الحال، وسكت الرافعي عن حالة الإطلاق، وهو أن لا يقصد تبعيد النفس عن التهود ولا الرضا به، أو لم يعلم قصده بموته سريعًا أو تعذر مراجعته، وقال في ذلك شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي: إن القياس التكفير إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره؛ لأن اللفظ بوضعه يقتضيه. قال: وكلام النووي في (الأذكار) يقتضي أنه لا يكفر بذلك، والقياس خلافه. انتهى.
وما ذكره الرافعي من أن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن التهود يقتضي أنه لا يحرم الإتيان به، لكن تقدم عن الخطابي إطلاق الإثم، ولم يفصل بين الحلف على الماضي والمستقبل، وصرَّح بذلك النووي في (الأذكار) فقال: يحرم أن يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو نحو ذلك، فإن قاله وأراد حقيقة فعله وخروجه عن الإسلام بذلك صار كافرًا في الحال، وجرت عليه أحكام المرتدين، وإن لم يُرِدْ ذلك لم يكفر، لكنه ارتكب محرمًا فيجب عليه التوبة، قال ابن الرفعة في المطلب: إنه معصية. فائدة: استدل به الخطابي على أنه لا كفارة على قائل هذا اللفظ مطلقًا. قال: لأنه جعل عقوبته في دينه، ولم يجعل في ماله شيئًا، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو عبيد، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن ذلك يمين تجب فيه الكفارة إذا حنث فيه، وحكاه الخطابي عن إبراهيم النخعي، وأصحاب الرأي والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه، وحكى الشيخ تقي الدِّين عن الحنفية أن إيجابهم الكفارة إنما هو إذا تعلق بمستقبل، فإن تعلق بماضٍ فاختلفوا فيه. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 167- 169).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
ولو قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينًا، فإذا فعله لزمه كفارة يمين؛ قياسًا على تحريم المباح فإنه يمين بالنص، وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- حرَّم مارية على نفسه، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} التحريم: 1، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} التحريم: 2، ووجه الإلحاق أنه لَمَّا جعل الشرط وهو فعل كذا عَلَمًا على كفره، ومعتقده حرمة كفره فقد اعتقده، أي: الشرط واجب الامتناع فكأنه قال: حرَّمت على نفسي فعل كذا كدخول الدار، ولو قال: دخول الدار مثلًا عليّ حرام كان يمينًا، فكان تعليق الكفر ونحوه على فعل مباح يمينًا إذا عرف هذا، فلو قال ذلك لشيء قد فعله كأن قال: إن كنت فعلت كذا فهو كافر وهو عالم أنه قد فعله، فهي يمين الغموس، لا كفارة فيها إلا التوبة. وهل يَكْفُرُ حتى تكون التوبة اللازمة عليه التوبة من الكفر وتجديد الإسلام؟ قيل: لا، وقيل: نعم؛ لأنه تنجيزٌ معنى؛ لأنه لَمَّا علَّقه بأمر كائن فكأنه قال ابتداء: هو كافر، والصحيح أنه إن كان يعلم أنه يمين فيه الكفارة إذا لم يكن غموسًا لا يَكْفُر، وإن كان في اعتقاده أنه يَكْفُرُ به يكْفُرُ فيهما؛ لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل الذي علَّق عليه كُفْرَهُ، وهو يعتقد أنه يكْفُرُ إذا فعله.
واعلم أنه ثبت في الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال»، فهذا يُتراءى أعم مَنْ أن يعتقده يمينًا أو كفرًا، والظاهر أنه أُخرِجَ مخرج الغالب، فإن الغالب ممن يحلف بمثل هذه الأيمان أن يكون من أهل الجهل لا من أهل العلم والخير، وهؤلاء لا يعرفون إلا لزوم الكفر على تقدير الحنث، فإن تم هذا، وإلا فالحديث شاهد لمن أطلق القول بكفره. فتح القدير (5/ 77- 78).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
المراد به التهديد والتشديد، وهذا يمين عند بعض الأئمة، فيه الكفارة، وعند الشافعي ومالك ليس بيمين، فلا تجب به كفارة، لكن قائله آثم، قال أصحابنا الشافعية: إن قصد العزم على الكفر فهو كافر في الحال، وإن قصد الامتناع من ذلك المحلوف عليه أبدًا ولم يقصد شيئًا فلا كفر، لكنه لفظ شنيع قبيح؛ يستغفر الله تعالى من إثمه، ويأتي بالشهادتين ندبًا. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 530).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام أو من الدين أو بأنه يهودي أو نحو ذلك... والأظهر عدم وجوب الكفارة في الحلف بهذه المحرمات؛ إذ الكفارة مشروعة فيما أذن الله تعالى أن يحلف به، لا فيما نهى عنه؛ ولأنه لم يذكر الشارع كفارة، بل ذكر أنه يقول كلمة التوحيد لا غير. سبل السلام (2/ 546).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
واعلم أن من قال: هو يهودي، أو كافر، أو مجوسي، أو يعبد الصليب، أو يعبد غير الله، أو بريء من الله سبحانه، أو من الإسلام، أو من القرآن، أو النبي -صلى الله عليه وسلم-، إن فعل ذلك، فقد فعل محرمًا بلا نزاع، وعليه كفارة يمين إن فعل -على معتمد المذهب-، ولا يكفر، ويحمل ما ورد على الزجر والردع والترهيب.
واختار الإمام الموفق أنه لا كفارة على الحالف بذلك؛ لأنه لم يحلف باسم الله -عز وجل-، ولا صفته، ولا أتى بصيغة اليمين، وإنما علَّق الكفر على الفعل، فلم تجب الكفارة بذلك، كما لو علَّق عليه الطلاق، لكن معتمد المذهب: الأول.
قال في (الإنصاف): هو المذهب، سواء كان منجَّزًا، أو معلَّقًا.
قال الزركشي: وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، واختيار جمهور الأصحاب: القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن عقيل، وغيرهم، وجزم به في (الوجيز)، و(المنور)، و(منتخب الأدمي)، و(تذكرة ابن عبدوس) وغيرهم؛ لأن قوله هذه الأشياء توجب هتك الحرمة، فكان يمينًا؛ كالحلف بالله -سبحانه وتعالى-، والله أعلم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (6/ 365).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحوه إن فعلت ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه، ولا يكون كافرًا إلا إن أضمر ذلك بقلبه.
وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفارة.
قال ابن المنذر: والأول أصح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله»، ولم يذكر كفارة، زاد غيره: وكذا قال: «من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال»، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه.
ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل، وتضمن كلامه بما ذكر تعظيمًا للإسلام.
وتُعقِّب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال: وحق الإسلام، إذا حنث لا يجب عليه كفارة، فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام، وأثبتوها إذا لم يصرح... قال في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم، كأن قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره: «من ترك الصلاة فقد كفر» أي: استوجب عقوبة من كفر.
وقال ابن المنذر: ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب كذب المعظِّم لتلك الجهة. نيل الأوطار (8/ 268).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ثم ذكر المؤلف الحديث: «أن من قال: هو بريء من دين الإسلام إن كان كذا» وأن الإنسان لا يَحِلُّ له أن يقول هذا، وأنه إن قال هذا، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، يعني: أنه بريء من الإسلام والعياذ بالله، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا، يعني: لا بد أن يأثم أو يكفر، ومثله قول القائل: هو يهودي إن حصل كذا وكذا، هو نصراني إن حصل كذا وكذا، هذا يقال له: إن ذلك محرم عليك؛ لأنك إن كنت كاذبًا فأنت كما قلتَ: يهودي أو نصراني، وإن كنتَ صادقًا فلن ترجع إلى الإسلام سالمًا، مثال ذلك: قال رجل: إن فلانًا قَدِمَ اليوم .. وصل اليوم، وكان مسافرًا، فقال له صاحبه: لا ما وصل، قال الأول: هو يهودي إن كان لم يقدم، فإن كان كاذبًا وأنه لم يقدم، يعني: كاذبًا، فإنه يكن يهوديًا؛ لأنه قال: هو يهودي إن كان لم يقدم، وهو كاذب، فيكون بذلك يهوديًا، وإن كان صادقًا أنه قدم، فإنه لن يرجع إلى الإسلام سالمًا كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-. شرح رياض الصالحين (6/452).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا يدل على خطورة مثل هذا الكلام؛ سواء كان صادقًا أو كاذبًا، وأنه سواء إن كذب أو صدق، ولكنه إن كذب ينضاف إلى إثم القول الشنيع والقول السيئ إثم الكذب، وإذا كان صادقًا فإتيانه بهذا اللفظ السيئ مضرة عليه؛ لأن اللفظ نفسه شنيع وقبيح، ولا يجوز للإنسان أن يأتي به، فمن حلف بذلك فهو آثم على كل حال؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «فإن كان كاذبًا فهو كما قال»، وذلك مثل أن يقول: هو يهودي أو نصراني، «وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» أي: لن يبقى على ما كان عليه قبل أن يقول هذه المقالة؛ لأن هذه الكلمة خبيثة يعاقب على قولها ولو كان صادقاً...
السؤال: ألا يكون قوله: «فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» أمارة على خروجه من الإسلام وكفره بحلفه بملة غير ملة الإسلام، وأن حلفه بالبراءة من الإسلام يقضي بكفره الأكبر، وإن لَمْ يُرِدْ حقيقة البراءة؟
الجواب: الذي يبدو أن هذا إنما هو زجر، وهو مثل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من قال لأخيه: يا كافر فإن كان كذلك وإلا حار عليه»، فالذي قالها لا يكون كافرًا بمجرد أنه قالها لإنسان غير كافر، وإنما المعنى: أنه يعود عليه مغبة ذلك وإثمه.
وإذا حلف بذلك كاذبًا فإنه يكون أشد مما لو كان صادقًا، ومعلوم أن كونه يقول هذا الكلام ويكذب أسوأ وأعظم من كونه يقول ذلك ويصدق؛ لأنه جمع بين خصلتين ذميمتين:
الأولى: أنه تكلم بكلام قبيح.
والثانية: أنه كذب، وأما هذا فتكلم بكلام صحيح وصدق.
والذي يصرف الحديث عن ظاهره يقول: إن هذا من جنس أحاديث الوعيد التي فيها التهديد والتخويف، مثل الحديث الذي ذكرنا: «من قال لأخيه: يا كافر فإن كان كذلك وإلا حار عليه». شرح سنن أبي داود (375/ 5).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)