«إنَّ المسلمَ إذا أنفقَ على أهلهِ نفقةً، وهو يحتسبُها، كانت له صدقةً».
رواه البخاري برقم: (5351)، ومسلم برقم: (1002)، من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يحتسبها»:
أي: ينوي الله ويرجو ثوابها منه. تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم (ص:119).
وقال الفتني -رحمه الله-:
بأن ينوي أداء واجب أو مندوب لوجه الله. مجمع بحار الأنوار(1/ 508).
شرح الحديث
قوله: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة» وعند البخاري: «إذا أنفق الرجل على أهله»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أنفق نفقة على أهله» أي: على زوجته وولده. المفهم (3/ 43).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
تقدم الكلام على المراد بالأهل، واختلاف العلماء في ذلك، فقيل: الزوجة، وقيل: المراد من تلزمه نفقته. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (8/ 703).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«إذا أنفق» فإن قلتَ: لِمَ حذف معموله؟ قلتُ: ليفيد التعميم، يعني: إذا أنفق أي نفقة صغيرة أو كبيرة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 214).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أنفق» حُذِفَ مفعولُه؛ ليعمَّ القليل والكثير.
«على أهله» أي: زوجته وولده، أي: ونفقتهما واجبة، فهي هنا صدقة من باب أولى. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/ 313).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إذا أنفق الرجل» نفقة من دراهم أو غيرها «على أهله» زوجة وولد. إرشاد الساري (1/ 149).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
وقوله: «على أهله» يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص بالزوجة، ويلحق بها من عداها بطريق الأولى؛ لأن الصواب إذا ثبت فيما هو واجب لثبوته فما ليس بواجب أولى. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 100).
وقال الأسطواني -رحمه الله-:
«إذا أنفق الرجل» ومثله المرأة نفقة من دراهم أو غيرها «على أهله» زوجته، وولده، ومَن تجب نفقته عليه. أصل الزراري شرح صحيح البخاري (ص:19).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «إذا أنفق الرجل» أي: نفقة من دراهم وغيرها، صغيرة كانت أو كبيرة؛ لِمَا أفاده حذف المفعول من العموم. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (2/ 425).
وقال المطرزي -رحمه الله-:
أهل الرجل امرأته وولده، والذين في عياله ونفقته، وكذا كل أخ وأخت أو عم أو ابن عم، أو صبي أجنبي يقوته في منزله. المغرب في ترتيب المعرب (ص: 31).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
وأهلُ الرجل: أخصُّ النَّاس بِهِ. تهذيب اللغة (6/ 220).
قوله: «وهو يحتسبها، كانت له صدقة»، وعند البخاري: «يحتسبها فهو له صدقة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«وهو يحتسبها» وهذا مقيد لمطلق ما جاء في أنَّ الإنفاق على الأهل صدقة. فتح الباري (9/ 498).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ألا ترى أنه جعل الأجر... للمنفق على أهله بشرط احتساب النفقة عليهن، وإرادة وجه الله بذلك، وبهذا المعنى نطق التنزيل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} البينة: 5 الآية. شرح صحيح البخاري (1/ 120).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
معنى «يحتسبها»: ينوي بها طاعة الله، ويرجو ثوابها منه، فبذلك تجري نفقته مجرى الصدقة. كشف المشكل (2/ 197).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومعنى «يحتسبها» أي: يقصد بها ثواب الله. المفهم (3/ 43).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه: أراد بها وجه الله تعالى، فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلًا، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم، وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الإنفاق عليهم، فينفق بنية أداء ما أمر به، وقد أمر بالإحسان إليهم، والله أعلم. شرح مسلم (7/ 88- 89).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«يحتسبها» حال من الفاعل، ويحتمل أن يكون من المفعول المحذوف.
قوله: «فهو» أي: فالإنفاق له صدقة، أي: تصدق. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 214).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يحتسبها» قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، وسواء أكانت واجبة أم مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة؛ لأنها معقولة المعنى. وأطلق الصدقة على النفقة مجازًا، والمراد بها الأجر، والقرينة الصارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت عليها الصدقة. النكت على صحيح البخاري (2/ 52).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«يحتسبها» حال من الفاعل، أو من المفعول المحذوف «فهو» أي: الإنفاق «صدقة» أي: كالصدقة في الثواب لا حقيقة، وإلا لحرمت على هاشمي ومطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع، ولا يضر المشابهة كون هذا واجبًا، والصدقة غالبًا تطوع، وبه يجاب عن كون المشبه به دون المشبه، فكيف شبه الواجب بالتطوع؟ فيقال: الشبه في أصل الثواب لا من كل وجه على أن كل شبه لا يشترط فيه كون المشبه دون المشبه به كما قُرِّرَ في محله من علم البيان. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/ 313).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
أي: امتثالًا لأمر الله، وقصدًا إلى القيام بما أوجب الله أو ندب إليه «فهو له صدقة» أي: يثاب به كما يثاب بالصدقة؛ لأنه ليس صدقة في العرف. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/ 135).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
حال كون الرجل «يحتسبها» أي: يريد بها وجه الله «فهو» أي: الإنفاق، ولغير الأربعة «فهي» أي: النفقة «له صدقة» أي: كالصدقة في الثواب لا حقيقة، وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع. وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز أو المراد بها الثواب كما تقدم، فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية. إرشاد الساري (1/ 149).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
أي: يثاب عليها كما يثاب على الصدقة.
قال العلقمي: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، والمراد بالصدقة الثواب، وأطلقها عليه مجازًا، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونًا بالنية، فالغافل عن نية التقرب لا ثواب له. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 100).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وهو يحتسبها» أي: يعتد بها عند الله تعالى، فهو قيد لكل نفقة.
قوله: «كانت له صدقة» أي: أفضل الصدقات كما سلف. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 404).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وقوله: «يحتسبها» جملة حالية، أي: يريد بها وجه الله تعالى، فالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، وهذا اللفظ مقيد لمطلق ما جاء أن الإنفاق على الأهل صدقة، كما في بعض روايات حديث سعد (ابن أبي وقاص) الآتي في النفقات بلفظ: «ومهما أنفقت فهو لك صدقة»، وقوله: «فهو» أي: الإِنفاق المفهوم من قوله: «أنفق» على حد قوله تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } المائدة: 8 أي: العدل، ولغير الأربعة: «فهي» أي: النفقة، وقوله: «له صدقة» أي: كالصدقة في الثواب. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (2/ 425).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يفهم من قوله: «وهو يحتسبها» أنَّ من غفل عن نية القربة لا تكون نفقته صدقة، قيل: كسب الحلال، والنفقة على العيال من أعمال الأبدال. مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار (1/268).
وقال ابن الملك -رحمه الله- أيضًا:
«وهو يحتسبها» أي: يعتدُّها مما يُدَّخرُ عند الله، والاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى. شرح المصابيح (2/ 485).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وهو يحتسبها» أي: يريد أجرها من الله تعالى بحسن نيته، وهو أن ينوي أداء ما أوجب الله تعالى عليه من الإنفاق عليهم، والجملة في محل نصب على الحال من الفاعل... وقوله: «كانت له صدقة» جواب «إذا»، ثم إن «كان» هنا يحتمل أن تكون ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى «نفقة»، و«صدقة» خبرها، أي: كانت النفقة صدقة له، ويحتمل أن تكون تامة، و«صدقة» بالرفع فاعلها؛ أي: حصلت له صدقة. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (19/ 297).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
قوله: «يحتسبها» الاحتساب معناه: أن يحتسب الأجر عند الله، ويتذكر أن الله أوجب عليه النفقة عليهم، وأنه ينفق عليهم قيامًا بالواجب، وابتغاء لمرضاة الله، وهو ليس قيدًا في الأجر، فالمعنى: أنه إذا احتسب فله أجر زائد على أجر النفقة.
وخالف النووي -رحمه الله-، واختار أنه قيد؛ لأنه يرى أن المحتسب هو الذي يؤجر، وأنه إذا أنفق مع الغفلة فلا يؤجر، وهذا مرجوح. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (3/ 135).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
(هذا الحديث) حجة أن الأعمال إنما الأجر فيها بالنيات والاحتساب. إكمال المعلم (3/ 523).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا يفيد بمنطوقه: أن الأجر في النفقات لا يحصل إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل، وإن كانت واجبة، وبمفهومه: أن من لم يقصد القربة لم يؤجر على شيء منها. المفهم (4/ 545).
وقال ابن المنير -رحمه الله-:
(وعن) سعد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك».
المرجئة تزعم أن المعتبر الإيمان باللسان، ولا حظ للقلب فيه، فرد عليهم باعتبار نية القلب في الأعمال مطلقًا، فدخل الإيمان وغيره من العبادات. المتواري على أبواب البخاري (ص:56).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فهل هو صدقة حقيقة حتى يترتب عليها أحكام الصدقة مثل أن يحرم على الرجال الإنفاق على الزوجات الهاشميات أم لا؟ قلتُ: مجاز.
فإن قلتَ: ما القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة؟ قلتُ: الإجماع على عدم حرمة الإنفاق على الزوجات هاشمية وغيرها.
فإن قلتَ: ما العلاقة بين المعنى الموضوع له وبين المعنى المجازي؟ قلتُ: ترتب الثواب عليهما وتشابههما فيه.
فإن قلتَ: كيف يتشابهان وهذا الإنفاق واجب والصدقة في العرف لا تطلق إلا على غير الواجب، اللهم إلا أن يقيد بالفرض ونحوه؟ قلتُ: التشبيه في أصل الثواب لا في كميته وكيفيته.
فإن قلتَ: قال أهل البيان: شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى، وهنا بالعكس؛ لأن الواجب أقوى في تحصيل الثواب من النفل.
قلتُ: هذا هو التشابه لا التشبيه، ثم التشبيه لا يشترط فيه ذلك كما قد بُيِّن في موضعه.
فإن قلتَ: الأهل خاص بالولد والزوجة أو هو أعم من ذلك؟ قلتُ: الظاهر أنه خاص سيما في هذا المقام؛ لأنه إذا كان الإنفاق في الأمر الواجب كالصدقة فلا شك أن يكون آكد، ويلزم منه كونه صدقة في غير الواجب بالطريق الأولى ...
وفي قوله: «يحتسبها» دليل على أن النفقة على العيال، وإن كانت من أفضل الطاعات فإنها تكون طاعة إذا نوى بها وجه الله تعالى، وكذلك نفقته على نفسه وضيفه ودابته وغير ذلك، وكلها إذا نوى بها الطاعة كانت طاعة وإلا فلا. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 214).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فدل على أنه إنما يؤجر فيها إذا احتسبها عند الله، كما في حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك» خرجاه.
وفي صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله». قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث: بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به، ويغنيهم الله به.
وفيه أيضًا عن سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة». وهذا قد ورد مقيدًا في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك». وخرَّج الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تصدقوا، فقال رجل: عندي دينار، فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر». وخرَّج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أطعمت نفسك، فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك، فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك، فهو لك صدقة». وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها... وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيت لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية، فإن المباضع لأهله كالزارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب والجماع، واستدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه»، وهذا اللفظ الذي استدل به غير معروف، إنما المعروف قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك»، وهو مقيد بإخلاص النية لله، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه؛ والله أعلم. ويدل عليه أيضًا قول الله -عز وجل-: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 114، فجعل ذلك خيرًا، ولم يرتب عليه الأجر إلا مع نية الإخلاص، وأما إذا فعله رياء، فإنه يعاقب عليه، وإنما محل التردد إذا فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة، وقد قال أبو سليمان الداراني: مَنْ عَمِلَ عَملَ خيرٍ من غيرِ نيَّةٍ كفاهُ نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان، وظاهر هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية؛ لأنه بدخوله في الإسلام مختار لأعمال الخير في الجملة، فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية، والله أعلم. جامع العلوم والحكم (2/ 63).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فإن قيل: كيف يكون إطعام الرجل زوجته الطعام صدقة وذلك فرض عليه؟ فالجواب: أن اللّه تعالى جعل من الصدقة فرضًا وتطوعًا، ولا شك أن الفرض أفضل من التطوع. واللّه أعلم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (8/ 703).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وقال المهلّب: النفقة على الأهل واجبة، وإنما سماها الشارع صدقة؛ خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرَّفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع.
وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نِحْلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد، كان الأصل أن لا يجب لها شيء عليه، إلا أن الله خصَّ الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثمَّ جاز إطلاق النِّحلة على الصداق، والصدقة على النفقة. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (2/ 425).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب النفقة على الأهل، كلها تدل على فضيلة الإنفاق على الأهل، وأنه أفضل من الإنفاق في سبيل الله، وأفضل من الإنفاق في الرقاب، وأفضل من الإنفاق على المساكين؛ وذلك لأن الأهل ممن ألزمك الله بهم، وأوجب عليك نفقتهم، فالإنفاق عليهم فرض عين، والإنفاق على من سواهم فرض كفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وقد يكون الإنفاق على مَنْ سواهم على وجه التطوع، والفرض أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه»، لكن الشيطان يرغب الإنسان في التطوع، ويقلل رغبته في الواجب، فتجده مثلًا يحرص على الصدقة ويدع الواجب، يتصدق على مسكين أو ما أشبه ذلك، ويدع الواجب لأهله، يتصدق على مسكين أو نحوه، ويدع الواجب لنفسه؛ كقضاء الدين مثلًا، تجده مدينًا يطالبه صاحب الدين بدينه وهو لا يوفي، ويذهب يتصدق على المساكين، وربما يذهب للعمرة أو لحج التطوع وما أشبه ذلك ويدع الواجب، وهذا خلاف الشرع، وخلاف الحكمة، فهو سفه في العقل وضلال في الشرع.
والواجب على المسلم أن يبدأ بالواجب الذي هو محتم عليه، ثم بعد ذلك ما أراد من التطوع بشرط ألا تكون مسرفًا ولا مقترًا، فتخرج عن سبيل الاعتدال؛ لقول الله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} الفرقان: 67 يعني: لا إقتار ولا إسراف، بل قوامًا، ولم يقل: بين ذلك فقط، بل بين ذلك قوامًا، قد يكون الأفضل أن تزيد أو أن تنقص، أو بين ذلك بالوسط.
على كل حال هذه الأحاديث كلها تدل على أنه يجب على الإنسان أن ينفق على مَنْ عليه نفقته، وأن إنفاقه على مَنْ عليه نفقته أفضل من الإنفاق على الغير.
وفي هذه الأحاديث أيضًا التهديد والوعيد على مَنْ ضيع عمن يملك قوته، وهو شامل للإنسان وغير الإنسان، فالإنسان يملك الأرقة مثلًا، ويملك المواشي من إبل وبقر وغنم فهو آثم إذا ضيع مَنْ يلزمه قوته من آدميين أو غير آدميين، «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوتهم»، واللفظ الثاني في غير مسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»، وفي هذا دليل على وجوب رعاية مَنْ ألزمك الله بالإنفاق عليه. شرح رياض الصالحين (3/ 158).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1-منها: بيان فضل النفقة على الأهل محتسبًا.
2-ومنها: أن النفقة على الأهل، وإن كانت واجبة تسمى صدقة، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح، عن سلمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: «إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة».
3-ومنها: أن الأعمال لا يوجد ثوابها إلا بإخلاص النية لله تعالى.
4-ومنها: أن ثواب الصدقة يحصل بالنفقة الواجبة، فمَنْ أنفق على أهله من غير احتساب لم يحصل له ثواب الصدقة، وإن سقط عنه الوجوب. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (19/ 297).