أَتَى رجلٌ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، حَدِّثْنِي بحديثٍ واجْعَلْهُ مُوجَزًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صَلِّ صلاةَ مُوَدِّعٍ، فإنَّكَ إنْ كُنتَ لا ترَاهُ فإنَّه يراكَ، وأْيَسْ مما في أَيدي الناس تَكُنْ غنيًّا، وإيَّاكَ وما يُعْتَذَرُ منه».
رواه أحمد برقم: (23498)، وابن ماجه برقم: (4171)، من حديث أبي أيوب -رضي الله عنه-.
والطبراني في الأوسط برقم: (4427)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- واللفظ له.
صحيح الجامع برقم: (3776)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1914).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مودِّع»:
اسم فاعل من التوديع، أي: كُن كأنك تصلي آخر صلاتك. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه، للسندي (2/ 543).
«أيس»:
أيِسَ منه، كسَمعَ إياسًا: قَنِطَ. القاموس المحيط، للفيروز آبادي (ص:531).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
اليَأْس: القُنوط، وَقِيلَ: اليَأْس نَقِيضُ الرَّجَاءِ. لسان العرب (6/ 259).
شرح الحديث
قوله: «صلِّ صلاة مودع، فإنك إن كنتَ لا تراه فإنه يراك»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
أي: إذا شرعت في الصلاة فأقبِل إلى الله تعالى بشَراشِرك (أي: بكليتك)، وودِّع غيرك لمناجاة ربك. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3307).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مودِّع» بكسر الدال المشددة، أي: مودِّع لِمَا سوى الله بالاستغراق في مناجاة مولاك، أو المعنى: صل صلاةَ مَن يودِّع الصلاة، ومنه (حَجة الوداع) أي: اجعل صلاتك آخر الصلاة فرضًا، فحسِّن خاتمة عملك، وأقصِر طولَ أملك؛ لاحتمال قرب أجلك. مرقاة المفاتيح (8/ 3270).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: مودِّع لدنياه، مودِّع لنفسه، مودِّع لهواه، مودِّع لعمره، سائر إلى مولاه، كما قال: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الانشقاق: 6، فينبغي أن يكون قلبه في صلاته. شرح سنن أبي داود (8/ 525).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: صلاةَ مَن لا يرجع إليها أبدًا، وذلك أن المصلي سائرٌ إلى الله بقلبه، فيودِّع هواه ودنياه وكل ما سواه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 122).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«صل صلاة مودِّع» لهواه، مودِّع لعُمره وسائرٍ إلى مولاه «كأنك تراه» تعالى في صلاتك عيانًا، ومحالٌ أن تراه ويخطر ببالك سواه «فإن كنت لا تراه فإنه يراك» لا يخفاه شيء من أمرك {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الملك: 14. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 90).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فإنَّ المودِّع يستقصي ما لم يستقصِ غيره في القول والفعل؛ ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي صلاة مودِّع؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته، أتقنها على أكمل وجوهها. جامع العلوم والحكم (2/ 764).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
وقال بكرٌ المزنيُّ: إذا أردتَ أنْ تنفعَك صلاتُك فقل: لعلِّي لا أُصلِّي غيرها، وهذا مأخوذٌ مما رُوي عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «صلِّ صلاة مودِّع». جامع العلوم والحكم (3/ 1135).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«صل صلاة مودِّع» أي: تارك نفسه وجميع ما سوى الله تعالى، وأَقْبِلْ بِكُلِّكَ إلى جناب الحق بتوجه تام وإخلاص كلي. ويحتمل أن يكون معناه -والله أعلم-: مودِّع حياته، أي: ظُنَّ كانت هذه آخر صلاتك، وهذا الوقت آخر عمرك، كما جاء في وصية المشايخ: ينبغي أن يكون المصلي في صلاته كأنه في آخر صلاة في عمره، فإذا كان كذلك فلا بُدَّ يحسِّنها، ويصلي كما ينبغي. لمعات التنقيح (8/ 450).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«صل صلاة مودع» أي: كصلاتِه بالخشوع وتدبر القراءة والذكر «كأنك تراه» أي: الله -سبحانه وتعالى- «فإن كنتَ لا تراه فإنه يراك» لا يخفى عليه شيء من أمرك. السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/ 259).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صلاة مودع» صلاةَ مَن يرى أنها آخر صلاةٍ يأتي بها، فيُقبل كل الإقبال بقلبه وجوارحه وخشوعه، وتدبُّر معاني قراءته، وأنه إذا صلى متخيلًا أنها آخر صلاة يصليها أقبل عليها، والإنسانُ لا يدري متى تنزل به منيَّته، وربما كانت آخر صلاته حقيقة، فإنه ما من ساعة إلا وهو يجوز فيها نزول منيَّتِه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 100).
وقال السعدي -رحمه الله-:
فالوصية الأولى: تتضمن تكميل الصلاة، والاجتهاد في إيقاعها على أحسن الأحوال؛ وذلك بأن يحاسب نفسه على كل صلاة يصليها، وأنه سيتم جميع ما فيها: من واجب، وفروض، وسنة، وأن يتحقق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات؛ وذلك بأن يقوم إليها مستحضرًا وقوفه بين يدي ربه، وأنه يناجيه بما يقوله، من قراءة وذكر ودعاء، ويخضع له في قيامه وركوعه، وسجوده وخفضه ورفعه.
ويعينه على هذا المقصد الجليل: توطين نفسه على ذلك من غير تردد، ولا كسل قلبي، ويستحضر في كل صلاة أنها صلاة مودِّع، كأنه لا يصلي غيرها.
ومعلوم أن المودِّع يجتهد اجتهادًا يبذل فيه كل وسعه، ولا يزال مستصحبًا لهذه المعاني النافعة، والأسباب القوية، حتى يسهل عليه الأمر، ويتعود ذلك.
والصلاة على هذا الوجه: تنهى صاحبها عن كل خلق رذيل، وتحثه على كل خلق جميل؛ لِمَا تؤثره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغبته التامة في الخير. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 168).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«صل صلاة مودِّع» أي: كن في صلاتك كأنك تصلي آخر صلاتك في الدنيا، في الخشوع والتذلل لله، والإقبال عليه قلبًا وقالبًا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 290).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
والمودِّع يُقبل على صلاته لا شك أنه إذا عرف أن هذه الصلاة هي آخر ما يمثُل بين يدي ربه -جل وعلا- لا شك أنه سوف يُتقنها ويحسِّنها؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فإذا صلى صلاة مودِّع واستحضر أنه لن يعود إلى الصلاة مرةً أخرى، لا شك أن ذلك يبعثه على إحسانها وإتقانها. شرح جوامع الأخبار (8/33).
قوله: «وأيس مما في أيدي الناس تكن غنيًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأيس مما في أيدي الناس» أي: قناعة بالكفاية المقدَّرة بالقسمة المحررة المقررة في قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزخرف: 32، إلى أن قال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} الزخرف: 35. وفي الحديث إشارة إلى أن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، وأن الغنى القلبي هو الإياس مما في أيدي الناس. مرقاة المفاتيح (8/ 3270).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأيس مما في أيدي الناس» أي: اعزم وصمِّم على قطع الأمل عما في يد غيرك من الخلق من متاع الدنيا؛ فإنك إن فعلت ذلك استراح قلبُك وصفا لُبُّك، والزهد في الدنيا يريح القلبَ والبدن. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 122).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأيس مما في أيدي الناس» عما في يد غيرك من العباد من متاع الدنيا، فإنك إن فعلتَ ذلك استراح قلبُك، ولا يتم إلا بتقصير الأمل، وتقدير أنه لا زمان تعيش فيه وتؤمِّله من الأوقات المستقبلة. واليأس ضد الطمع. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 174).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فإن الطمع فيما في أيديهم هو الفقر الحاضر. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 588).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأيس مما في أيدي الناس» أي: عن سؤال ما في أيدي الناس من المال، ولو كانت بك خصاصة وجوع يُلجئك إلى السؤال، أي: اعتقد واعزم بقلبك على ترك سؤال ما في أيدي الناس. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 290).
قوله: «وإياك وما يُعتذر منه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وإياك وما يُعتذر منه» أي: احذر فعل ما يحوج إلى الاعتذار. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 90).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«وإياك وما يُعتذر منه» كناية عن حفظ اللسان، وألا يتكلم بما يَحتاجُ أن يَعتذر له. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3307).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«وإياك وما يُعتذر منه» أي: تحتاج إلى الاعتذار. الظاهر أن المراد الاعتذار في الآخرة عند الرب تعالى، ويجوز أن يكون مطلقًا شاملًا التكلم بالنسبة إلى الأصحاب والخلق جميعًا، أي: لا تكلَّم بما فيه إثم أو إيذاء لأحد، والله أعلم. لمعات التنقيح (8/ 450).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإياك وما يُعتذر منه» أي: لقبحه وعدم مطابقته، أو لِمَا فيه من الإثم والعقاب، فالاعتذار إما إلى الله بالتوبة؛ لأن ترك الذنب خيرٌ من طلب المغفرة، أو من الناس، فالمراد: لا يأتي بما يُعتذر منه، بل لا يتكلم إلا بكلام لا يَعتذر منه. وعطفه على قوله: «صل صلاة مودع» يعني: أنه لا ينبغي له أن يقدِّر وقتًا يبقى فيه بعد صلاته، بل كأنه آخر زمانه، وكذلك لا يأتي بما يعتذر منه حتى يقدِّر وقتًا يعتذر فيه من قبيحِ ما أتاه، بل يفعل ويقول وهو مقدِّر أنه لا وقت بعد ذلك يتقيه، فلا يأتي بما يعتذر منه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 174).
وقال الصنعاني -رحمه الله-أيضًا:
«وإياك وما يعتذر منه» عن فعل ما لا يسكت الناس السؤال عنه، ويَطلب المعاذير لفعله. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 588).
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-:
وأما الوصية الثانية: فهي حفظ اللسان ومراقبته؛ فإن حفظ اللسان عليه المدار، وهو مِلاك أمر العبد، فمتى ملك العبدُ لسانَه ملك جميع أعضائه، ومتى ملكه لسانُه فلم يصنه عن الكلام الضار؛ فإن أمره يختل في دينه ودنياه، فلا يتكلم بكلام، إلا قد عرف نفعه في دينه أو دنياه، وكل كلام يحتمل أن يكون فيه انتقاد أو اعتذار فليدعه، فإنه إذا تكلم به ملَكه الكلامُ، وصار أسيرًا له، وربما أحدث عليه ضررًا؛ لا يتمكن من تلافيه. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 168).