الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

عن أبي الزُّبيرِ قال: سألتُ جابرًا عن ثمنِ الكلبِ والسِّنَّوْرِ؟ قال: «زَجَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك»


رواه مسلم برقم: (1569)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
ورواه الترمذي برقم: (1281)، والنسائي برقم: (4668)، وزادا: «إلا كلب صيد».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«السِّنَّوْر»:
بتشديد السين المكسورة، والنون المفتوحة، وهو الهِر.مرقاة المفاتيح، للقاري(5/ 1897).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
السِّنَّوْر: الهِر، والأنثى سِنَّوْرَةٌ، قال ابن الأنباري: ‌وهما ‌قليل ‌في ‌كلام ‌العرب، والأكثر أن يقال: هِرٌّ وَضَيْوَنٌ، والجمع سَنَانِيرُ. المصباح المنير (1/ 291).


شرح الحديث


قوله: ‌«زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمن ‌الكلب»:
قال ابن حزم -رحمه الله-:
لا يحل بيع كلب أصلًا، لا كلب صيد، ولا كلب ماشية، ولا غيرهما، فإن اضطر إليه، ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه، وهو حلال للمشتري، حرام على البائع، يُنتزع منه الثمن متى قُدر عليه، كالرشوة في دفع الظلم، وفداء الأسير، ومصانعة الظالم، ولا فرق. المحلى بالآثار (7/ 492).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
نهيه عن ثمن الكلب يدل على فساد بيعه؛ لأن العقد إذا صح كان دفع الثمن واجبًا مأمورًا به، لا منهيًّا عنه، فدل نهيه عنه على سقوط وجوبه، وإذا بطل الثمن بطل البيع؛ لأن البيع إنما هو عقد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمَّن؛ وهذا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «‌لعن الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشحوم فجَمَلُوها وباعوها، وأكلوا أثمانها»، فجعل حكم الثمن والمثمن في التحريم سواء. معالم السنن (3/ 131).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ووجه النهي عن ثمن الضاري وغير الضاري من الكلاب: عموم ورود النهي عن ثمنها، وأن ما أُمِرَ بقتله معدوم وجوده منها، ولا خلاف عن مالك أن مَن قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة، وأن من قتل كلبًا ليس بكلب صيد، ولا زرع، ولا ماشية، فلا شيء عليه. التمهيد (6/ 75).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
وهذا لا يباح شيء منه على أنه الكلب الذي لا يجوز اتخاذه، والله أعلم؛ لأن من الكلاب ما أبيح اتخاذه والانتفاع به فذلك جائز بيعه، ولا خلاف عنه (مالك) مَن قَتَل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة، ومَن قَتل كلب الدار فلا شيء عليه، إلا أن يكون يسرح مع الماشية، وقد ذكرنا اختلاف أصحاب مالك في هذا الباب في كتاب اختلافهم واختلاف قول مالك.
وأما الشافعي فلا يجوز عنده بيع الكلب الضاري ولا غير الضاري، ولا يحل عنده ثمن كلب الصيد ولا كلب الماشية ولا كلب الزرع؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ‌ثمن ‌الكلب، وليس على مَن قتل كلب الصيد أو لغير صيد قيمة عندهم بحال من الأحوال. الاستذكار (6/ 430).

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما الكلب فعندنا (الحنابلة) لا يجوز بيعه، وإن كان معلَّمًا.
وقال أبو حنيفة: يجوز، وعن المالكية كالمذهبين، والحديث دليلنا، وقد روى النهي عن ثمن الكلب أبو جحيفة، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، وكل أحاديثهم في الصحيح.
وقد ثبت أن ظاهر النهي التحريم إلا أن تظهر قرينة أنه نهي تنزيه كأجرة الحجَّام، فإنه لما أعطى الحجَّام أجرة علمنا أنه نهي كراهة. كشف المشكل (1/ 437-438).
وقال الجويني -رحمه الله-:
فمذهبنا (الشافعية) أنَّ الكلب ليسَ بمالٍ، ولا يجوز بيعه، وليس على مُتْلفه قيمة لصاحبه، ولا يُنكر اختصاص صاحبه به...، الأعيان النجسة يمتنع بيعها، وإن كانت منتفعًا بها كالسِّرقين (الزَّبْل وما يخلط بالأرض من رجيع الدواب للخصوبة) والأخثاء (جمع الخِثْيِ، وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه). وأجاز أبو حنيفة بيعها، ومنع بيع العَذِرَة، وطرد الشافعي إفساد البيع في كل عين نجسة... ولا يمتنع على بعدٍ أنْ يطرد الخلاف في الاستصباح (بالدهن النجس) وإن بَعُد السراج، فإنَّ هذا ممارسةُ نجاسة مع الاستغناء عنها، وليس كذلك التزبيل؛ فإنه لا يسدُّ مسدَّه شيء، فكان ذلك في حكم الضرورة. ويقرب من هذا جواز اقتناء الكلب الضّاري؛ فإن الحاجة ماسّة، ولا يسدُّ مسدَّ الكلب في ظهور منفعته، وخفة مؤنته شيء. نهاية المطلب (5/ 491-498).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما النهي عن ثمن الكلب، وكونه من شرّ الكسب، وكونه خبيثًا، فيدلّ على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه، ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على مُتْلِفه، سواءٌ كان مُعَلَّمًا أم لا، وسواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا، وبهذا قال جماهير العلماء، منهم: أبو هريرة والحسن البصري وربيعة والأوزاعيّ والْحَكَم وحماد والشافعيّ وأحمد وداود وابن المنذر، وغيرهم.
وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على مُتلِفِها، وحَكَى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعيّ جواز بيع كلب الصيد دون غيره، وعن مالك روايات: إحداها: لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة على مُتلفه، والثانية: يصح بيعه، وتجب القيمة، والثالثة: لا يصحّ، ولا تجب القيمة على مُتْلِفه.
ودليل الجمهور هذه الأحاديث، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن «‌ثمن الكلب إلا كلب صيد» وفي رواية: «‌إلا كلبًا ضاريًا» وأن عثمان غَرَّم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا، وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه، فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث، وقد أوضحتها في شرح المهذب في باب ما يجوز بيعه. شرح صحيح مسلم (10/ 232-233).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
واختلف أصحابنا (المالكية) في بيعه (الكلب) هل هو محرم أو مكروه؟ وصرَّح بالمنع مالك في مواضع، والصحيح في الدليل جواز البيع، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز بيعه، وظن بعضهم أنَّ النهي عن بيع الكلب إنما هو في المأذون في اتخاذه؛ لأن المأمور بقتله لا يُنهى عن بيعه، قلنا: هذه غفلة، كان أَمَرَ بقتلها ثم نَسَخَ الأمر بالقتل، وأَذِنَ في الاتخاذ، وكان بعد ذلك جواز البيع، والنهي عنه. وقال بعضهم: إنه قرنه بحُلْوَانِ الكاهن، فدل على أنه حرام، ودليل القرائن (أي: الاقتران) أضعف دليل، لا يشتغل به المحققون. عارضة الأحوذي (5/223).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلفت الرواية عن مالك في بيع الكلب، فقال في الموطأ: أَكره بيع الكلب الضاري وغيره؛ لنهي رسول الله ‌عن ‌ثمن ‌الكلب، وروى ابن نافع عن مالك: أنه كان يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدَّين والمغانم، وكان يَكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع: وإنما نهى رسول الله ‌عن ‌ثمن ‌الكلب العَقُور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبني بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون: ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: إنْ قَتَل كلب الدار فلا شيء عليه، إلا أن يسرح مع الماشية. وروي عن أبي حنيفة أنه مَن قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها. وقال الأوزاعي: الكلب لا يباع في مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه. وقال الشافعي: لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها. وهو قول أحمد بن حنبل؛ احتجّا بعموم نهيه -عليه السلام- ‌عن ‌ثمن ‌الكلب، وحُجة مالك والكوفيين (الأحناف): قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} المائدة: 4، فإذا أحل لنا الذي علَّمناه أفادنا ذلك إباحة التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية. فإن قيل: المذكور في هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أَمْسَكْنَ علينا، فالجواب: أن (ما) بمعنى الذي، وتقديره: أحل لكم الطيبات والذي عَلَّمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} المائدة: 4، وهذا قول جماعة السلف، روي عن جابر بن عبد الله أنه جعل القيمة في كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السلوقي (نسبة إلى سَلُوق اسم مدينة باليمن أو بالروم، تُنسب إليها أجود الكلاب المعلمة والطويلة)، وعن النخعي مثله، وقال أشهب: إذا قتل الكلب المعلَّم ففيه القيمة، وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفي كلب ماشية شاة، وفي كلب الزرع فَرَقًا من طعام (الفَرَق إناء يسع 16 رطلًا بما يعادل 10 كيلو جرام)، وأجاز عثمان الكلب الضاري في المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على مَن قتله، وقد روي عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- أنه قال: «مَن اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان»، فهذا الحديث زائد، فكأنه -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذي أَذِنَ في اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذي فيه النهي عن ثمن الكلب وكسب الحجَّام كان في بدء الإسلام، ثم نُسخ ذلك، وأُبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح في جواز بيعه، وكذلك لما أَعطى الحجام أجْرَه كان ناسخًا لما تقدَّمه، وذكر الطحاوي من حديث أبي رافع أن النبي -عليه السلام- لما أمر بقتل الكلاب أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأُمَّة التي أَمَرْتَ بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} المائدة: 4، فلما حل لنا الانتفاع بها؛ حلّ لنا بيعها وأكل ثمنها. شرح صحيح البخاري (6/362-364).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب» وفي الحديث الآخر: «وثمن الكلب خبيث» ظاهرٌ في تحريم بيع الكلاب كلها، ولا شك في تناول هذا العموم لغير المأذون فيه منها؛ لأنها إمَّا مُضرّة فيحرم اقتناؤها، فيحرم بيعها، وإما غير مُضِرة فلا منفعة فيها.
وأما المأذون في اتخاذها: فهل تناولها عموم هذا النهي أم لا؟
فذهب الشافعي والأوزاعي وأحمد: إلى تناوله لها، فقالوا: إن بيعها محرّم، ويفسخ إن وقع، ولا قيمة لما يُقتل منها، واعتضد الشافعي لذلك: بأنها نجسة عنده.
ورأى أبو حنيفة: أنه لا يتناولها؛ لأن فيها منافع مباحة يجوز اتخاذها لأجلها، فتجوز المعاوضة عليها، ويجوز بيعها.
وجُل مذهب مالك على جواز الاتخاذ، وكراهية البيع، ولا يفسخ إن وقع، وقد قيل عنه مثل قول الشافعي، وقال ابن القاسم: يُكره للبائع، ويجوز للمشتري للضرورة.
وكأن مالكًا -رحمه الله- في المشهور: لما لم يكن الكلب عنده نجسًا، وكان مأذونًا في اتخاذه لمنافعه الجائزة؛ كان حُكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيها؛ لأنَّه ليس من مكارم الأخلاق.
فإن قيل: فقد سوى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ثمن الكلب وبين مهر البغي، وحلوان الكاهن في النهي عنها، والمهر والحلوان محرمان بالإجماع، فليكن ثمن الكلب كذلك.
فالجواب: إنَّا كذلك نقول، لكنه محمولٌ على الكلب الغير مأذون فيه، ولئنَّ سلمنا: أنَّه متناوِل للكل، لكن هذا النهي ها هنا قصد به القَدَرُ المشترك الذي بين التحريم والكراهة؛ إذ كل واحد منهما منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما قد اتفق هنا، فإنا إنما عَلِمْنا تحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن بالإجماع، لا بمجرد النهي سلمنا ذلك، لكنا لا نسلم أنه يلزم من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه؛ إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي، وإنما ذلك في محل مخصوص، كما بيناه في أصول الفقه. المفهم (4/ 443-444).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
هذا التفصيل الذي ذكره القرطبي محلّ نظر، بل الذي يترجّح عندي هو الذي عليه الجمهور، من تحريم بيع الكلب مطلقًا؛ لعموم النصّ، وعدم صحّة الاستثناء الذي في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي أخرجه النسائيّ، ولفظه: «أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن ثمن السنّور، والكلب إلا كلب صيد»؛ فإنه حديث ضعيف كما بيّنته في شرح النسائيّ. والحاصل: أنَّ ما ذهب إليه الجمهور هو الأصح، فتبصَّر، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (27/ 452-453).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«نهى ‌عن ‌ثمن ‌الكلب»؛ لنجاسته عند الشافعية، والنهي عن اتخاذه عند المالكية، وهل النهي عندهم للتنزيه أو للتحريم؟ قولان، قال ابن العربي: والصحيح دليلًا جواز البيع. فيض القدير (6/ 309).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اختلفوا في بيع الكلب المعلَّم، فمَن يرى نجاسة الكلب -وهو الشافعي- يمنع من بيعه مطلقًا؛ لأن علة المنع قائمة في المعلَّم وغيره، ومَن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلَّم منه؛ لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء، وقد ورد في بيع المعلَّم منه حديث في ثبوته بحث، يحال على علم الحديث. إحكام الأحكام (2/ 125).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والنهي عن ثمن الكلب يشمل كل كلب، وقال ابن التين: هو ضربان: كلاب الدُّور، والحرث والماشية، فالأول لا يحل اتخاذها؛ لأنها تروِّع الناس وتؤذيهم فثمنها حرام، واختُلف في بيع كلب الصيد والماشية وفي أخذ قيمته إن قُتل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (25/ 587، 588.
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «نهى عن ثمن الكلب» وهو بإطلاقه يتناول جميع أنواع الكلاب. عمدة القاري (12/ 58).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «‌نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-» ‌نهي تحريم «عن ‌ثمن ‌الكلب» المعلَّم وغيره؛ لنجاسته، وقال الحنفية وسحنون من المالكية: يجوز بيع المنتفَع به من الكلاب. إرشاد الساري (8/ 194).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ثمن الكلب: وظاهر النهي تحريم بيعه، وهو عامّ في كل كلب، مُعَلَّمًا كان أو غيره، مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازم ذلك أن لا قيمة على مُتْلِفه، وبذلك قال الجمهور.
وقال مالك: لا يجوز بيعه، وتجب القيمة على مُتلِفِه، وعنه كالجمهور، وعنه كقول أبي حنيفة: يجوز، وتجب القيمة، وقال عطاء، والنخعيّ: يجوز بيعُ كلب الصيد دون غيره، ورَوَى أبو داود من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «نهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب»، وقال: «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا» وإسناده صحيح.
ورَوَى أيضًا بإسناد حسن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حُلوان الكاهن، ولا مَهْرُ البَغِيِّ». والعلة في تحريم بيعه عند الشافعيّ: نجاسته مطلقًا، وهي قائمة في المعَلَّم وغيره، وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته: النهي عن اتخاذه، والأمر بقتله؛ ولذلك خُصّ منه ما أُذِنَ في اتخاذه، ويدل عليه حديث جابر -رضي الله عنه- قال: «نَهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، إلا كلب صيد» أخرجه النسائيّ بإسناد رجاله ثقات، إلا أنه طُعِن في صحته، وقد وقع في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عند ابن أبي حاتم بلفظ: «نَهَى عن ثمن الكلب، وإن كان ضاريًا» يعني: مما يصيد، وسنده ضعيف، قال أبو حاتم: هو منكر، وفي رواية لأحمد: «نَهَى عن ثمن الكلب، وقال: طُعْمة جاهلية»، ونحوه للطبرانيّ من حديث ميمونة بنت سعد. فتح الباري (4/ 426 -427).
وقال الشوكاني -رحمه الله- معلقًا:
قال في الفتح: ورجال (أي: حديث جابر) إسناده ثقات، إلا أنه طُعن في صحته، وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي هريرة، لكن من رواية أبي ‌الْمُهَزِّمِ وهو ضعيف، فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون المحرَّم ‌بيع ‌ما ‌عدا ‌كلب ‌الصيد إنْ صلح هذا المقيَّد للاحتجاج به. نيل الأوطار (5/ 171).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله: «ونهى عن ثمن الكلب» لفظة (نهى) لا تدل على التحريم على الراجح، فيؤخذ التحريم من دليل آخر كالأمر بقتله، فلو كان له قيمة مالية ما أمر بإضاعتها؛ ولما فيه من النجاسة، وتحريم اقتنائه، وهذه أدلة يقوِّي بعضها بعضًا، وعلى هذا التحريم شامل للكلب المعلَّم وغيره والمقتنى وغيره. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب(8/ 386 -387).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
قال: «نهى ‌عن ‌ثمن ‌الكلب»، يقال: ثمن، ويقال: قيمة، فهل بينهما فرق؟
الجواب: نعم، الثمن ما وقع عليه العقد، والقيمة: ما يُقوَّم به الشيء في عامة أوصاف الناس...، إذن «نهى عن ثمن الكلب» أي: عن عقد البيع عليه المتضمن للثمن؛ ونحن قلنا هذا لفائدة نذكرها -إن شاء الله تعالى- في الفوائد، وهي: ما إذا أُتلف الكلب هل يضمن بقيمة أو لا؟
وقوله: «الكلب» هو حيوان معروف سَبُع يفترس، وهو أخبث الحيوانات وأنجسها؛ لأن نجاسته لا بد فيها من سبع غسلات إحداها بالتراب، والخنزير كغيره من الحيوانات الأخرى يغسل حتى تزول النجاسة بدون تسبيع وبدون تراب، وقوله: «الكلب» «أل» هنا للعموم، فيشمل كلَّ كلب سواء كان أسود أم غير أسود، معلَّمًا أم غير معلم، يجوز اقتناؤه أو لا يجوز اقتناؤه؛ لأن الحديث عام. فتح ذي الجلال والإكرام (3/479، 480).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله- أيضًا:
وأما اتخاذ الكلب وكون الإنسان يقتنيه فإن هذا حرام بل هو مِن كبائر الذنوب والعياذ بالله؛ لأن الذي يقتني الكلب إلا ما استثنى ينقص من أجره كل يوم قيراطان، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تبع الجنازة حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد»، فالذي يتخذ الكلب بدون ما استثنى ينقص كل يوم من أجره مثل جبلي أحد قيراط بل قيراطان، وهذا يدل على أن اتخاذ الكلاب من كبائر الذنوب إلا ما استثنى الصيد والحرث والماشية، فالصيد هو الكلب المُعلَّم الذي يصيد به الإنسان، فهذا يحل صيده إذا كان مُعلَّمًا بحيث يسترسل إذا أرسل، ويقف إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، وأن يسمي الله عند إرساله، فهذا صيده حلال، والإنسان يقتنيه لحاجة ومصلحة. شرح رياض الصالحين (6/ 429).

قوله: «إلا كلب صيد»:
قال الطحاوي -رحمه الله-:
فكان في هذا الحديث أنّ الكلب المنهي عن ‌ثمنه ‌هو ‌خلاف ‌كلب ‌الصيد، وهو الكلب الذي لا منفعة فيه، وقد روينا في حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من نهيه، عن ثمن السِّنور مثل الذي فيه من نهيه عن ثمن الكلب، ولم نعلم اختلافًا بين أهل العلم في ثمن السنور أنه ليس بحرام، ولكنه دنيء، وكان مثله ثمن الكلب المقرون معه في ذلك الحديث، وقد يحتمل أيضًا أن يكون نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب أَراد به جميع الكلاب، وكان ذلك منه في الوقت الذي أَمَرَ فيه بقتل الكلاب، وأنْ لا يترك منها شيء، فإنه قد كان أَمر بذلك، ونهى أن يترك منها شيء، وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك. مشكل الآثار(12/٨٣).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
(ورواه) النسائي وزاد: «إلا كلب صيدٍ»؛ لكنه زادها واستنكرها -رحمه الله-، وقال: إنها منكرة، فالاستثناء ليس بصحيح كما هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد سبق لنا: أيضًا الكلام عليه، وبيَّنا أنه لو قيل: إن النهي عن ثمن الكلب إنما هو عن ثمن الكلب الذي يباح اقتناؤه؛ لأن ما لا يباح اقتناؤه لا يَرِدُ عليه البيع، إذ إن الإنسان لا يمكن أن يخسر مرتين: الأجر والثمن. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 503).

قوله: «والسِّنَّوْرِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري رحمه الله-:
«و» ثمن «‌السنور» أي: الهرة الأهلية...، لا الهرة الوحشية المعروفة بالسنور، فإنَّه يجوز بيعها لغرض الزباد، وهو بزاقة العطر؛ لأنه يخلط بالطيب، كما هو مبسوط في الفروع. الكوكب الوهاج (17/ 237-238).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وأما بيع السِّنَّوْر فقد اختلفت الرواية عن أحمد في جواز بيع السنور، فروي عنه: يجوز، وهي اختيار الخرقي ومذهب الشافعي.
وعن أحمد: لا يجوز، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر، وهي أصح؛ لهذا الحديث؛ ولأن السِّنَّوْر كالوحشي الذي لا يملك قياده، ولا يكاد يصح التسليم فيه؛ لأنه قد يألف بعض الأماكن مدة، ثم ينتقل عنها إلى غيرها، وليس كالدواب التي تُربط وتُحبس، ولو ربطه المشتري وحبَسه لم ينتفع به، ويحتمل أن يكون نهى عن بيع هذه الأشياء ليرتفق بها الناس، ولا يأخذوا لها ثمنًا. كشف المشكل (3/ 108).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وأما بيعُ السِّنَّور فكَرِهَه أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد؛ لظاهر هذا الحديث، ولم يَكْرَهه غيرُهم، وما نُقل عن أحدٍ تحريمُ بيعِه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 395).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
النهي عن بيع السنور متأوَّل على أنه إنما كُره من أجل أحد معنيين:
إما لأنه كالوحشي الذي لا يملك قيادَهُ، ولا يصح التسليم فيه؛ وذلك لأنه ينتاب الناس في دورهم، ويطوف عليهم فيها، ثم يكاد ينقطع عنهم، وليس كالدواب التي تُربط على الأوادي (أي: الأماكن التي ترجع إليها وتَؤُودُ)، ولا كالطير الذي يحبس في الأقفاص، وقد يتوحش بعد الأنوسة، ويتأبد حتى لا يُقْرَب، ولا يُقْدَر عليه، فإن صار المشتري له إلى أن يحبسه في بيته أو يشده في خيط أو سلسلة لم ينتفع به.
والمعنى الآخر: أن يكون إنما نهى عن بيعه؛ لئلا يتمانع الناس فيه؛ وليتعاوروا (يعيرونه بينهم) ما يكون منه في دورهم، فيرتفقوا به ما أقام عندهم، ولا يتنازعوه إذا انتقل عنهم إلى غيرهم تَنَازُع الْمُلَّاك في النفيس من الأعلاق (جمع علق وهو النفيس من كل شيء يتعلق بالقلب) وقيل: إنما نهى عن بيع الوحشي منه دون الإنسي.
وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث، وزعم أنه غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وممن أجاز بيع السنور: ابن عباس، وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين والحكم وحماد، وبه قال مالك بن أنس وسفيان الثوري وأصحاب الرأي، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره بيعه أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد. معالم السنن (3/ 130).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
وقد أجمع أهل العلم على أن اتخاذه (السنور) مباح، واختلفوا في بيعه، فروينا عن ابن عباس أنه رخص في بيعه، وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.
وكرهت طائفة بيعه، روينا ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد، وبه قال جابر بن زيد، فإنْ يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن بيعه، فبيعه لا يجوز، وإن لم يثبت ذلك فبيعه كبيع الحُمر والبغال وسائر ما يُنتفع به ولا يجوز أكله. الإشراف على مذاهب العلماء (6/ 14-15).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
حديث أبي سفيان عن جابر لا يصح؛ لأنها صحيفة، ورواية الأعمش في ذلك عندهم ضعيفة، فكل مَا أبيح اتخاذه، والانتفاع به، وفيه منفعة، فثمنه جائز في النظر، إلا أنْ يمنع من ذلك ما يجب التسليم له، مما لا مُعارض له فيه، وليس في السنور شيء صحيح، وهو على أصل الإباحة، وبالله التوفيق. التمهيد (8/ 403).
وقال النووي -رحمه الله-:
بيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا، إلا ما حكاه البغوي في كتابه في شرح مختصر المزني عن ابن القاص أنه قال: لا يجوز، وهذا شاذ باطل مردود، والمشهور جوازه، وبه قال جماهير العلماء...، واحتج مَن منعه بحديث أبي الزبير قال: «‌سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك» رواه مسلم.
واحتج أصحابنا (الشافعية) بأنه طاهر، منتفع به، ووُجِد فيه جميع شروط البيع بالخيار، فجاز بيعه، كالحمار والبغل، والجواب عن الحديث من وجهين:
أحدهما: جواب أبي العباس بن القاص، وأبي سلمان الخطابي والقفال وغيرهم: أنَّ المراد الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها؛ لعدم الانتفاع بها، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها.
والثاني: أن المراد نهي تنزيه، والمراد النهي على العادة بتسامح الناس فيه، ويتعاورونه في العادة، فهذان الجوابان هما المعتمدان.
وأما ما ذكرهُ الخطابي وابن المنذر أنّ الحديث ضعيف، فغلط منهما؛ لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح، وقول ابن المنذر: إنه لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة، فغلط أيضًا؛ فقد رواه مسلم في صحيحه من رواية معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة أيضًا، والله أعلم. المجموع (9/ 229-230).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وأما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع، أو على أنه نهي تنزيه؛ حتى يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به كما هو الغالب؛ فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع، وكان ثمنه حلالًا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكى ابن المنذر عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز بيعه، واحتجوا بالحديث، وأجاب الجمهور عنه بأنه محمول على ما ذكرناه، فهذا هو الجواب المعتمد. شرح مسلم (10/ 233-234).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولا يحل بيع الهر، فمَن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على مَن عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر، كما قلنا فيمن اضطر إلى الكلب ولا فرق، برهان ذلك: ما روينا من طريق مسلم...، عن أبي الزبير قال: «سألتُ جابرَ بن عبد الله عن ثمن الكلب والسنور؟ فقال: زجر عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، (فـ) الزجر أشدُّ النهي، وروينا من طريق قاسم بن أصبغ...، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كَره ثمن الكلب والسنور، فهذه فتيا جابر لما روي، ولا نعرف له مخالفًا من الصحابة. المحلى بالآثار (7/ 498).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
تحريم بيع السِّنَّور كما دلَّ عليه الحديث الصَّحيح الصَّريح الذي رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ: ... عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه أنَّه كره ثمنَ الكلب والسِّنَّور...، ومنهم من حملَه على السِّنَّور إذا توحَّش، ومتابعةُ ظاهر السُّنَّة أولى...، ومنهم من حمله على الهرِّ الذي ليس بمملوكٍ، ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن. زاد المعاد (6/ 453-454).
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-:
وأما ‌السنور فانفرد مسلم برواية النهي عن بيعه؛ فإنْ سَلِمَ عن العلة التي ذكرناها في شرح الصحيح، فإن ذلك محمول على المصلحة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن تكون السنانير مسترسلة على المنازل تحميها عن الفأر من غير اختصاصٍ. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 799).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والجمهور على جواز بيعه من غير كراهة؛ لأنه ينتفع به لاصطياد الفأر، والبيع شُرع للتوصُّل إلى قضاء الحاجة، وقياسًا على الفهد؛ فإنه يُنتفع به للاصطياد، وحملوا هذا الحديث (حديث جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن ثمن الهر) -إن صح- وحديث مسلم على هرٍّ لا يصطاد ولا يُنتفع به، أو على غير المملوك منها. شرح سنن أبي داود (15/ 435).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
وقد حمله (النهي عن بيع الهر) بعض أهل العلم على الهر إذا توحش، فلم يُقدر على تسليمه، ومنهم من زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكومًا بنجاسته، ثم حين صار محكومًا بطهارة سؤره حل ثمنه، وليس على واحد من هذين القولين دلالة بينة، والله أعلم.
وعن عطاء قال: «‌لا بأس بثمن السنور»، (فـ) إذا ثبت الحديث، ولم يثبت نسخه، لم يدخل عليه (أي: يعارضه) قول عطاء. السنن الكبرى (6/ 11).
وقال العيني -رحمه الله-:
أجاب القائلون بجواز بيعه (الهر) عن الحديث بأجوبة:
أحدها: أن الحديث ضعيف وهو مردود.
والثاني: حَمْل الحديث على الهر إذا توحش فلم يُقدر على تسليمه، حكاه البيهقي في السنن عن بعض أهل العلم.
والثالث: ما حكاه البيهقي عن بعضهم أنه كان ذلك في ابتداء الإسلام حين كان محكومًا بنجاسته، ثم لما حُكم بطهارة سُؤره حلَّ ثمنه.
والرابع: أن النهي محمول على التنزيه لا على التحريم، ولفظ مسلم: «‌زَجَرَ» يُشْعِر بتخفيف النهي، فليس على التحريم بل على التنزيه، وعكَس ابن حزم هذا، فقال: الزجر أشد النهي، وفي كل منهما نظر لا يخفى.
والخامس: ما حكاه ابن حزم عن بعضهم أنه يعارضه ما روى أبو هريرة وابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه أباح ثمن الهر، ثم رده بكلام طويل.
والسادس: ما حكاه أيضًا ابن حزم عن بعضهم أنه: لما صح الإجماع على وجوب الهر والكلب المباح اتخاذه في الميراث والوصية والملك جاز بيعيهما، ثم رده أيضًا. عمدة القاري (12/ 60).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
في هذا الحديث: تحريم ثمن السنور، وهو القط، أو الهرة، وله أسماء عدة، إنِّ السيوطي ألَّف رسالة في أسمائه، سماها: (البلّور في أسماء السنور) وثمنها حرام؛ لأنها لا تؤكل، وكذلك السباع والحشرات وذوات السموم، وكل ما حرم الله؛ لأن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، فالمحرمات ليس لها أثمان. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (4/ 364).

قال: «زَجَر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لفظ: «‌زجر» يُشْعِر بتخفيف النهي عنهما، وأنَّه ليس على التحريم كما قررناه، بل على التنزه عن ثمنهما، وقد كره بيع السِّنور أبو هريرة ومجاهد وغيرهما؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث.
واختلفوا في معنى ذلك؛ فمنهم من علَّله: بأنه لا يثبت، ولا يمكن انضباطه، وهذا ليس بشيء، وهذه مناكرة للحِسِّ، فإنها تنضبط في البيوت آمادًا طويلة، وتسلُّمه ممكن حالة البيع، فقد كملت شروط البيع، ثم إن شاء مشتريه ضبَطَه، وإن شاء سيَّبَه، وأحسن من هذا أن بيعه وبيع الكلب ليس من مكارم الأخلاق، ولا من عادة أهل الفضل، والشرع ينهى عما يناقض ذلك أو يباعده، كما قلنا في طرْق الفحل، وكذلك نقول في كسب الحجَّام؛ لأنه عملٌ خسيس لا يتعاطاه إلا أهل الخسَّة والدناءة كالعبيد، ومن جرى مجراهم. المفهم (4/ 447).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الحديث صحيح بلا شك، فقد أخرجه مسلم في صحيحه، ولم ينفرد به حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، بل تابعه فيه معقل بن عبيد الله، كما هنا، ولم ينفرد به أبو الزبير، بل تابعه أبو سفيان طلحة بن نافع، عن جابر -رضي الله عنه-، فقد أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر -رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب والسنور».
فتبين بهذا أن الحق ما ذهب إليه أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد من عدم جواز بيع الهرة؛ لصحة النهي الصريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، وقد تقدم عن ابن المنذر أنه قال: "إن ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن بيعه فبيعه باطل"، فقد ثبت النهي، فالبيع باطل عند ابن المنذر أيضًا، فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (27/ 462).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والحديث يؤيد مذهب أبي حنيفة وأصحابه في تجويزهم بيع الكلب؛ لأن المناسبة بين المتعاطفين في النهي توجب ذلك. مرقاة المفاتيح (5/ 1897).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
إنْ كان المراد التنزه عن ثمنيهما (الكلب والنسور) فالأمر ظاهر، وإن كان التحريم في الكلب، والتنزيه في السنور، فإرادة المعنيين معًا بلفظ واحد مشكل.
والجواب: أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عنهما منفردًا كلًّا منهما عن الآخر، فكان أحدهما تنزيهًا، والآخر تحريمًا، ثم لما رواهما الراوي أوردهما معًا للاشتراك في اللفظ لا غير، مع أنه يصح على عموم المجاز بإرادة معنى أعم من التنزيه والتحريم. الكوكب الدري (2/ 323-324).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا