الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«مَن شَهِدَ الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قِيرَاطٌ، ومَن شَهِدَهَا حتَّى تُدْفَنَ فله قِيرَاطَانِ». قيل: وما القِيرَاطَانِ؟ قال: «مِثْلُ الجبلينِ العظيمينِ» ... وكان ابنُ عمرَ يُصَلِّي عليها، ثم يَنْصَرِفُ، فلمَّا بَلَغَهُ حديثُ أبي هريرةَ، قال: «لقد ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كثيرةً».


رواه البخاري برقم: (1324) ورقم: (1325)، ومسلم برقم: (945) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الجنازة»:
بنصب الجيم وجرها: الإنسان الميت، والشيء الذي ثقل على قوم واغتموا به أيضًا جنازة. العين، للخليل (6/ 70).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
لجنازة يقال: بكسر الجيم وفتحها في الميت والسرير معًا. مشارق الأنوار (1/ 156).

«قِيرَاط»:
أي: نصيب من الثواب. الكوثر الجاري، للكوراني (3/ 340).
وقال الرازي -رحمه الله-:
القيراط: نصف دانق، وأما القيراط الذي في الحديث فقد جاء تفسيره في أنه «مثل جبل أُحُد». مختار الصحاح (ص: 251).


شرح الحديث


قوله: «من شهد الجنازة»:
قال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «مَن شهد»، في رواية للبخاري: «مَن شيع»، وفي أخرى له: «مَن تبع»، وفي رواية لمسلم: «من خرج مع جنازة من بيتها، ثم تبعها حتى تدفن»، فينبغي أن تكون هذه الرواية مقيدة لبقية الروايات، فالتشييع والشهادة والاتباع يعتبر في كونها محصلة للأجر المذكور في الحديث أن يكون ابتداء الحضور من بيت الميت، ويدل على ذلك ما وقع في رواية لأبي هريرة عند البزار بلفظ: «من أهلها»، وما عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «فمشى معها من أهلها»، ومقتضاه: أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك جزم الطبري. نيل الأوطار (4/ 65).
وقال ابن فرحون -رحمه الله-:
قوله: «من ‌شهد ‌الجنازة» «من» اسم شرط في موضع رفع بالابتداء، و«شهد» في محل الخبر. العدة في إعراب العمدة (2/ 243- 244).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الشهود الحضور، والمراد بذلك أن يكون معها من حين يخرج بها من بيتها، وإلا فلا يحصل القيراط بمجرد الصلاة. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (13/ 657).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «من شهد الجنازة» المراد بالشهود هو الحضور معها، وظاهر الحضور معها من ابتداء الخروج بها، وهذا مصرَّح به في رواية لمسلم بلفظ: «من خرج مع جنازة من بيتها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط». البدر التمام شرح بلوغ المرام (4/ 206).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الجنازة بالفتح والكسر: الميت، وقيل: يقال أيضًا: السرير الذي يحمل عليه الميت، وفرَّق بعضهم فجعل الفتح للميت، والكسر للنعش، وهو قول ابن الأعرابي، والحديث يدل على إطلاق اللفظ في الوجهين. إكمال المعلم (3/ 403).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
قد تقدم أن شهد في مثل هذا بمعنى: حضرَ، والحديث مشعرٌ بالحض على صلاة الجنازة، والترغيب في مصاحبتها واتباعها حتى تُدفن، والتنبيه على عظيم ثوابها، وهي مما خص اللَّه تعالى به هذه الأمةَ، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن اللَّه أعطاكم شيئين لم يكونا لأحد من الأمم قبلكم: صلاة المؤمنين عليكم» الحديث. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 276).

قوله: «حتى يصلَّى عليها»:
قال ابن قدامة -رحمه الله-:
وهو (أي: اتباع الجنائز) على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي عليها، ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك، وقال أبو داود: رأيت أحمد ما لا أحصي صلى على جنائز، ولم يتبعها إلى القبر، ولم يستأذن.
الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من شهد الجنازة حتى يُصلَّى فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان». قيل: وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين» متفق عليه.
الثالث: أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل الله له التثبيت، ويدعو له بالرحمة؛ فإنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دفن ميتًا وقف، وقال: «استغفروا له، واسألوا الله له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل» رواه أبو داود، وقد روي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها. المغني (3/ 396).
وقال ابن فرحون -رحمه الله-:
قوله: «حتى يصلِّيَ عليها»... و«يُصلِّيَ» هنا منصوب بإضمار «أنْ» بعد «حتى»، فتكون الياء مفتوحة؛ لأن الفعل المضارع المعتلَّ بالياء والواو إذا دخل عليه الناصب كانت العلامة لفظًا فتحة ظاهرة، وقد رأيتُه في بعض النسخ المقروءة بسكون الياء، فإن ثبت روايةً فهي لُغة. العدة في إعراب العمدة (2/ 243- 244).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«حتى يصلّي» بكسر اللام، وفي رواية الأكثر: بفتحها، وهي محمولة عليها، فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة مِنَ الذي يشهد، زاد ابن عساكر في نسخة: «عليها» أي: على الجنازة، وللكشميهني: «عليه» أي: على الميت. إرشاد الساري (2/ 427).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
فلو تعددت الجنائز، واتحدت الصلاة عليها دفعة واحدة، هل تتعدد القراريط بتعددها، أو لا تتعدد؛ نظرًا لاتحاد الصلاة؟ قال الأذرعي: ‌الظاهر ‌التعدد، وبه أجاب قاضي حماة البارزي. إرشاد الساري (2/ 427).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «حتى يصلَّى عليها» لفظ «عليها» ثابت في رواية الكشميهنيّ للبخاري، وهو كذلك عند مسلم، وللبيهقي أيضًا بإسناده. البدر التمام شرح بلوغ المرام (4/ 206).

قوله: «فله قيراط»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وهذا المقدار الذي هو القيراط خطاب للناس بما يعرفونه، إلا أن الذي أرى فيه قيراط من قراريط الأجر، ووزنه يكون في الأجرة، فهي من حيث ثقلها في الحق وخلوصها في تبع الجنازة والصلاة على الميت، وشهود دفنه، من الأحوال التي كلها عظة وعبرة وتذكرة، فالحال إذًا ‌قَمِنَة أي: جديرة بالإخلاص؛ فلذلك ثقلت حتى كان القيراط منها يرجح بأُحُد. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 287- 288).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله: «فله قيراط» فالقيراط: اسم لمقدار معلوم في العُرْف، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، وقد يراد به الجزء مطلقًا، ويكون عبارة عن الحظ والنصيب، فيكون تمثيلًا لجزء من الأجر، ومقدار منه، ألا ترى أنه قال: «مثل الجبلين العظيمين» أو «مثل أُحُد؟» وهذا من مجاز التشبيه؛ تشبيهًا للمعنى العظيم بالجسم العظيم، والمقصود من الحديث: أن من صلى على جنازة، فله أجر عظيم من الثواب والأجر، فإن صلى عليها واتبعها حتى تدفن، كان له حظَّان عظيمان من ذلك؛ إذ قد عمل عملين: أحدهما: صلاته، والثاني: كونه معه إلى أن يدفن، ولا يلزم من هذا أن يكون هذا القيراط هو المذكور في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراط»، وفي رواية: «قيراطان»، بل ذلك قدر معلوم، يجوز أن يكون مثل هذا، وأقل، وأكثر. العدة في شرح العمدة (2/ 791-792).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ذكر القيراط تمثيل وتقريب إلى الفهم، ولَمَّا كان الإنسان يعرف القيراط ويرغب فيه ويعمل العمل في مقابلته وُعِدَ من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم...
والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت، من تجهيزه وغسله ودفنه والتعزية به، وحمل الطعام إلى أهله وتسليتهم، والصبر على المصاب فيه، فكان للمصلي عليه قيراط، وللذي يصلي ويلبث حتى يدفن قيراطان. كشف المشكل (3/ 418- 419).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«القيراط» اسم لمقدار معلوم في العرف، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، هو في أصل اللغة نصف دانق، والدانق: سدس درهم؛ وذلك ثمان حبات وثلث حبة، وثلث خمس حبة، وأصله: قِرّاط بالتشديد؛ لأن جمعه قراريط، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء، مثل دينار أصله دِنّار بالتشديد أيضًا. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 527- 528).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والذي يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلّى فقط دون قيراط من شيع مثلًا وصلّى، وهذا دون من حضر التكفين مثلًا واستمر إلى أن صلّى، وهو دون من حضر من أول الأمر إِلى آخر الصّلاة.
وقد وقع في صحيح مسلم ما يدلُّ في أن القراريط تتفاوت، ولا شك في تفاوت الأجر بتفاوت العمل، كما في المجيء يوم الجمعة في السّاعة الأولى وما بعدها. انتقاض الاعتراض في الرد على العيني في شرح البخاري (1/ 499).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فله قيراط» تقدم أن قراريط أحوال الجنازة متعددة، وإنما خصَّ قيراطي الصلاة والدفن بالذكرة؛ لكونهما المقصودين أصالة، بخلاف البقية. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 398).

قوله: «ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«ومن شهدها» أي: الجنازة «حتى تدفن» أي: يفرغ من دفنها بأن يُهال عليها بالتراب، وعلى ذلك تحمل رواية مسلم: «حتى توضع في اللحد»، «فله» وفي لفظ: «كان له» «قيراطان» من الأجر المذكور. وهل يحصل ذلك بقيراط الصلاة، أو بدونه، فتكون ثلاثة قراريط؟ المعتمد الأول. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 391).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«القيراط»: جزء من الوزن... وقوله «كتب له ‌قيراط» وفي الرواية الأخرى «قيراطان»، وفُسِّر في الحديث: أن القيراط «مثل جبل أُحُد»، وكذلك قوله فيمن اقتنى كلبًا: «نقص من أجره أو من عمله كل يوم ‌قيراط»، وروي «قيراطان» إشارة إلى جزء معلوم عند الله. مشارق الأنوار(2/ 178).
وقال النووي -رحمه الله-:
«قوله -صلى الله عليه وسلم- «‌من ‌شهد ‌الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن» فيه الحث على الصلاة على الجنازة واتباعها ومصاحبتها حتى تدفن. شرح مسلم (7/ 13).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
في قوله -عليه الصلاة والسلام -: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها» ما يؤذن بما ورد في بعض الروايات، وهو اتباعها من عند أهلها، وأنه المراد بشهودها حتى يصلى عليها، ولا شك أن من صلى عليها مجردًا حصل له قيراط، لكن قيراط مَنْ شهدها من عند أهلها حتى صلى عليها أكمل، وكذلك قيراط مَنْ تبعها حتى يفرغ من دفنها أكمل ممن حضر الدفن والفراغ منه دون الاتباع.الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 533).
وقال الباجي -رحمه الله-:
فجعل لشاهد فرض الجنازة قيراطًا، ولمشاهدة فضل المواراة قيراطًا، ولعلهما إنما تساويا في الاسم دون الجنس والقدر، والله أعلم وأحكم. المنتقى شرح الموطأ (2/ 25).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من شهدها حتى تدفن فله قيراطان» معناه: بالأول فيحصل بالصلاة قيراط، وبالاتباع مع حضور الدفن قيراط آخر، فيكون الجميع قيراطين؛ تبينه رواية البخاري في أول صحيحه في كتاب الإيمان: «من شهد جنازة، وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها رجع من الأجر بقيراطين»، فهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان.
وقد سبق بيان هذه المسألة ونظائرها والدلائل عليها في مواقيت الصلاة في حديث: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله»، وفي رواية البخاري هذه مع رواية مسلم التي ذكرها بعد هذا من حديث عبد الأعلى: «حتى يفرغ منها» دليل على أن القيراط الثاني لا يحصل إلا لمن دام معها من حين صلى إلى أن فرغ وقتها، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا.
وقال بعض أصحابنا: يحصل القيراط الثاني إذا سُتِرَ الميت في القبر بالْلَّبِن، وإن لم يلق عليه التراب والصواب الأول. شرح مسلم (7/ 13).
وقال تاج الدين السبكي -رحمه الله-:
فلو اتَّبَعه حتى وضع في القبر، ولكن لم يصلِّ عليه احتمل أن لا يحصل له شيء من القيراطين؛ إذ يحتمل أن يكون القيراط الثاني المزيد مرتبًا على وجود الصلاة قبله، ويحتمل أن يحصل له القيراط المزيد. وأما احتمال أن القيراطين يحصلان بالاتباع حتى يوضع في القبر وإن لم يصلِّ عليه، فهو هنا بعيد، وأما احتمال أن مَنْ صلى واتبع حتى يدفن، يحصل له ثلاث قراريط؛ فمُرتَّبٌ على هذا الاحتمال الثالث إن قلنا: مَنِ اتبع ولم يصلِّ فله قيراطان؛ فلا شك أن مَنْ صلى يزداد قيراطًا ثالثًا. الأشباه والنظائر (1/ 137- 138).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
مقصود الحديث أن مَنْ صلى على جنازة كان له مقدار عظيم من الثواب والأجر، فإنِ اتبعها بعد أن صلى عليها حتى تدفن كان له حظَّان عظيمان من ذلك، إذ قد عمل عملين: الصلاة، وكونه معها حتى تدفن.
فإن قيل: فظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» ما يقتضي أن القيراطين يحصلان بشهودها؛ وهو اتباعها ودفنها، فيكون حينئذٍ له بالصلاة والاتباع والدفن ثلاثة قراريط.
فالجواب: أن هذا مردود برواية البخاري التي أوردناها، فإنها صريحة في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 531- 532).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «حتى تدفن» وفي لفظ في الصحيحين: «حتى يفرغ من دفنها» فيه دليل على أن القيراط الثاني لا يحصل إلا لمن دام معها من حين صلى إلى أن فرغ من دفنها، وهذا أصح الأوجه عندنا.
وثانيها: يحصل إذا سُتِرَ الميت في القبر باللَّبِن وإن لم يُلقَ عليه التراب.
وثالثها: أنه يحصل بمجرد الوضع في اللحد وإن لم يُلْقَ عليه التراب؛ حكاه السرخسي في أماليه، وقال: إنه أضعفها، ويُحتجُّ له برواية مسلم: «حتى توضع في اللحد»، وفي أخرى: «في القبر»، ويُتأوّل بالفراغ من دفنها جمعًا بين الروايات. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 533).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «حتى تدفن» أي: يُفرغ من دفنها، كما هو ظاهر الحديث، وخرج به ما قيل: إن المعنى: حتى تُوضع في اللحد، أو حتى تُوارى قبل إهالة التراب. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 398).

قوله: «قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «قيل: وما القيراطان؟» لم يُعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له، وقد بيَّن الثاني مسلم في رواية الأعرج هذه، فقال: «قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟»، وعنده في حديث ثوبان: «سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القيراط». وبيَّن القائل أبو عوانة من طريق أبي مزاحم عن أبي هريرة ولفظه: «قلتُ: وما القيراط يا رسول الله؟»، ووقع عند مسلم: أن أبا حازم أيضًا سأل أبا هريرة عن ذلك. فتح الباري (3/ 198).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فتبين بهذا أن القائل في قوله هنا: «قيل: وما القيراطان؟» هو أبو هريرة، والمجيب هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد وقع أيضًا سؤال أبي حازم لأبي هريرة -رضي الله عنه-، فتنبه، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (18/ 383).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«مثل الجبلين العظيمين» زاد في مسلم: «أصغرها مثل أُحُد» فالمراد: تعظيم الثواب، فمثَّله بالعيان بأعظم الجبال خَلْقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حُبًّا، ويجوز أن يكون على حقيقته بأن يجعل الله تعالى عمله يوم القيامة جسمًا قدر أُحُد ويوزن. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 398).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
«مثل الجبلين العظيمين» خبر لمحذوف؛ أي: هما مثل الجبلين العظيمين، والجبل العظيم فُسِّر في الرواية الآتية، ولفظه: «كل قيراط مثل أُحُد»، وفي لفظ: «وما القيراطان؟ قال: أصغرهما مثل أُحُد». البحر المحيط الثجاج (18/ 383).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «أصغرهما مثل أُحُد» (كما في رواية مسلم) هل الصغر راجع إلى الأول أم الثاني؟ الله أعلم بذلك، ولا يرجِّح قيراط الصلاة بكونها فرض كفاية؛ لكون الدفن كذلك، ورواية البخاري الآتية دافعة لذلك، فإنها فيها جعل القيراطين على السواء، نعم قد يرجِّح بأن أفضل عبادات البدن الصلاة. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 529).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
إن قلتَ: لِمَ كان الجزاء على الجنازة قيراط دون غيره؟
فالجواب: من وجهين:
الأول: أن ذلك جرى مجرى العادة بتقليل الأجر على القليل من العمل؛ إذ لا كبير مشقة على الإِنسان في الصلاة على أخيه ودفنه.
الثاني: أنه أقل ما يقع به الإِجارة في ذلك الوقت على الأعمال؛ لكثرة المستأجرين وقلة الأعمال؛ لزهد الناس في عمل الدنيا وقلة رغبتهم فيها.
وجواب ثالث: أنه أكثر ما يحتاج إليه الإِنسان في ذلك الوقت، وبه تقع الكفاية. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 538).
وقال الخطيب الشربيني -رحمه الله-:
يحصل من الأجر بالصلاة على الميت المسبوقة بالحضور معه قيراط، ويحصل منه والحضور معه إلى تمام الدفن لا للمواراة فقط قيراطان؛ لخبر الصحيحين: «‌مَنْ ‌شهد ‌الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومَنْ شهدها حتى تدفن»، وفي رواية: «حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين»، ولمسلم: «أصغرهما مثل أُحُد». وعلى ذلك تحمل رواية مسلم: «حتى يوضع في اللحد». وهل ذلك بقيراط الصلاة أو بدونه فيكون ثلاثة قراريط؟ فيه احتمال، لكن في صحيح البخاري في كتاب الإيمان التصريح بالأول، ويشهد للثاني ما رواه الطبراني مرفوعًا: «مَنْ شيّع جنازة حتى يقضى دفنها كتب له ثلاثة قراريط». مغني المحتاج (2/ 54).

قوله: «وكان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف»:
قال الفاكهاني -رحمه الله-:
إذا فُرِغَ من الدفن، فانصراف الإنسان منه على خمس مراتب:
الأولى: وهي أفضلها: أن لا ينصرف حتى يفرغ من الدفن، ويستغفر للميت، ويدعو له؛ لما رواه أبو داود، عن عثمان: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كانَ إذا فرغَ من دفنِ الميت، وقفَ عليه، وقال: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيْكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التثبيت، فَإِنه الآنَ يُسْأَلُ».
الثانية: أن ينصرف إذا فَرَغَ من الدفن، ولا يقفَ للدعاء، فقد حصل له قيراطان؛ للحديث.
الثالثة: أن ينصرف إذا سُتر عليه باللَّبِن، قبل أن يُهال عليه التراب، فهو دون الأول في الأجر.
الرابعة: أن ينصرف إذا بلغت الجنازة القبر، قبل أن يقبر، قال أشهب في المجموعة: إذا بقي معها مَنْ يلي ذلك.
قلتُ: لأن الدفن فرض كفاية، فإذا قام به غيره، صار في حقه كالمستحب، فلا يأثم بالرجوع، لكن فاته قيراطٌ من الأجر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «حَتَّى تُدفن، فله قيراطانِ»، فظاهره: اشتراطُ حضورِ الدفن في حصولِ القيراطين، واللَّه أعلم.
الخامسة: أن ينصرف إذا صَلَّى عليها، فله قيراط؛ كما في الحديث، والذي قبله أفضلُ؛ لأنه تبعَ الجنازةَ إلى القبر، فحصل له ثوابُ المشي معها بعد الصلاة، وأما مَنْ تبعها، ثم رجع قبل أن يصلي، فله أجرُ مشيه. وكَرِهَهُ أشهبُ إلا لحاجة. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 277- 278).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقد أسلفنا أن الحديث دال على أنه لا يحتاج إلى إذن في الانصراف عن الجنازة؛ لأن الشارع أخبر أن مَنْ شهدها فله كذا، ومَنْ شهد الدفن فله كذا، فوَكَلَه إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب أو بقيراطين، فدل على تساوي حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن؛ لأنه لا إذن لأحد عليه فيه حين رد الاختيار إليه في ذلك. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 631).

قوله: «قال: لقد ضيعنا قراريط كثيرة»:
قال النووي رحمه الله-:
قوله: «لقد ضيّعنا قراريط كثيرة» هكذا ضبطناه، وفي كثير من الأصول أو أكثرها: «ضيّعنا في قراريط» بزيادة «في» والأول هو الظاهر، والثاني صحيح، على أن «ضيعنا» بمعنى (فرَّطنا) كما في الرواية الأخرى، وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم، والتأسف على ما يفوتهم منها، وإن كانوا لا يعلمون عظم موقعه. شرح مسلم (7/ 15).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«فرَّطنا» أي: ضيّعنا حيث قصرنا في اتباع الجنازة قراريط كثيرة، و«فرَّطت» إشارة إلى ما ورد في القرآن {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ ‌فِي ‌جَنْبِ ‌اللَّهِ} الزمر: 56، ومعناه: ضيَّعتُ من أمر الله. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (7/ 109- 110).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
رواية البخاري المذكورة دالة على أن الثواب المذكور، إنما يحصل لِمَنْ تَبِعَها إيمانًا واحتسابًا، فإن حضورها على ثلاثة أقسام: احتساب، ومكافأة، ومخافة.
فالأول: هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر، كما هو ظاهر هذا الحديث.
الثاني: لا يبعُدُ ذلك في حقه.
والثالث: الله أعلم بما فيه. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 537- 538).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
في الحديث استحباب شهود الميت من حين غسله وتكفينه واتباعه بالصلاة عليه إلى حين يُفرغ من دفنه، ولا شك أن النفوس لَمَّا كانت لاهية بالحياة الدنيا وزينتها شُرِعَ لها ما يلهيها عن ذلك لشهود الجنائز، ورُغِّبت في ذلك بالأجور والثواب؛ ليكون أتقى لها وأزكى، وأبعد لها عما اشتغلت به، فينبغي أن يستعمل في ذلك كله الآداب الشرعية من السكينة والوقار وعدم الجبرية التجبر والاستكبار، والحديث فيما يلهي عن ذلك من المحظور والمباح شرعًا في ظاهره وباطنه، ولا يغفل عما يجب عليه في ذلك كله.
(و) فيه وجوب الصلاة على الميت ودفنه. وفيه التخصيص على الاجتماع لهما، والتنبيه على عظيم ثوابهما، وهي مما خص الله تعالى بها هذه الأمة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله أعطاكم شيئين لم يكونا لأحد من الأمم قبلكم: صلاة المؤمنين عليكم...» الحديث.
(و) فيه التنبيه على عظيم فضل الله تعالى فيما شرعه للنفوس، وما رتَّبه من الأجور على ما شرعه لها لمصلحتها الدنيوية والأخروية.
(و) فيه أداء حقوق الموتى بالصلاة والتشييع وحضور الدفن.
(و) فيه التنبيه على ما الإِنسان صائر إليه ومشاهدته؛ ليعلم أنه راجع إلى الله تعالى ومتصرف فيه، لا يملك لنفسه شيئًا فيستيقظ: «فالكيس من دان نفسه، وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله». الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 539- 540).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان فضل شهود جنازة المسلم.
2. ومنها: الترغيب في شهود الميت والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له.
3. ومنها: التنبيه على عظيم فضل الله تعالى، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لِمَنْ يتولى أمره بعد موته.
4. ومنها: تقدير الأعمال بنسبة الأوزان، إما تقريبًا للأفهام، وإما على حقيقته.
5. ومنها: أن في قصة أبي هريرة -رضي الله عنه- المذكورة في هذا الحديث (في بعض رواياته) دلالةً على تميزه -رضي الله عنه- في الحفظ، وقد حصل له ذلك بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-. البحر المحيط الثجاج (18/ 385-386).


ابلاغ عن خطا