الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«مَن قالَ حينَ يسمعُ النِّداءَ: اللَّهم ربَّ هذه الدَّعوةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القائمةِ آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْهُ مقامًا محمودًا الذي وعدتَهُ، حلَّتْ له شفاعتي يومَ القيامةِ».


رواه البخاري برقم: (614) ورقم: (4719)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«النِّداءَ»:
أي: الأذان بالصلاة. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (5/ 37).

«الدَّعوةِ التَّامَّةِ»:
التوحيد، قال -عز وجل-: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ} الرعد: 14، وإنما قيل لها: التامة؛ لأنه لا نقص فيها، ولا عيب؛ إذ لو كان للموحد شريك كان ذكر التوحيد ناقصًا. كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 51).

«آتِ»:
بفتح الهمزة أمرٌ من آتى يؤتي إيتاءً، كأعطى يُعطي إعطاءً؛ وأصله: (أأت)؛ لأنه من تُوأتي بهمزتين، فحذفت حرف الخطاب علامة للأمر، وحذفَت الياء علامة للجزم، فبقي (أأتِ) بهمزتين ثانيتهما ساكنة، فقلبت ألفًا لانفتاح ما قبلها، فصار (آت) على وزن أَفع. شرح أبي داود، للعيني (2/ 492).

«الوسيلة»:
هي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء، ويُتقرَّب به، وجمعها: وسائل، يقال: وسل إليه وسيلة، وتوسل، والمراد به في الحديث: القُرْب من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي منزلة من منازل الجنة كما جاء في الحديث. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 185).

«الفضيلة»:
أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويُحتمل: أنْ تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة. فتح الباري، لابن حجر (2/ 95).

«المقام المحمود»:
الذي يَحْمدُهُ لأجله جميع أهل الموقف، وفيه قولان:
أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود وحذيفة وابن عمر وسلمان وجابر في خلق كثير.
والثاني: يُجْلِسُه على العرش، روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وقال عبد الله بن سلام: يقعده على الكرسي. كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 51).


شرح الحديث


قوله: «مَن قال حين يسمع النداء»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
النداء ها هنا: الأذان. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 328).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «يسمع» فإن قلتَ: هذا الدعاء مسنون بعد الفراغ عن الأذان، فالسياق يقتضي أن يقال بلفظ الماضي، قلتُ: هو بمعنى يفرغ من السماع، أو المراد من النداء إتمامه؛ إذ المطلق محمول على الكامل، و(يسمع) حال لا استقبال. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «مَن قال حين يسمع النداء» ظاهره أنه يقول ذلك في حال سماع النداء، قبل فراغه، ويحتمل أنه يريد به حين يفرغ من سماعه.
وحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- صريح في أنه يسأل الوسيلة بعد إجابة المؤذن والصلاة على رسول الله، وهذا هو الأظهر؛ فإنه يُشرع قبل جميع الدعاء تقديمُ الثناء على الله، والصلاة على رسوله، ثم يدعو بعد ذلك. فتح الباري (3/ 465).
وقال العيني -رحمه الله-:
«حين يسمع النداء» أي: الأذان، وظاهر الكلام كان يقتضي أن يقال: حين سمع، بلفظ الماضي؛ لأن الدعاء مسنون بعد الفراغ من الأذان، لكن معناه: حين يفرغ من السماع، أو المراد من النداء تمامه؛ إذ المطلق محمول على الكامل، و(يسمع) حال لا استقبال، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، أخرجه مسلم بلفظ: «قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، ثم سلوا الله لي الوسيلة»، ففي هذا: إن ذلك إنما يقال عند فراغ الأذان. عمدة القاري (5/ 122).

قوله: «اللهم رب هذه الدعوة التامة»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «اللهم» يعني: يا ألله، والميم عوض عن الياء، فلذلك لا يجتمعان. عمدة القاري (5/ 122).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقوله: «رب هذه الدعوة» لا حجة فيه للمعتزلة الذين يقولون بخلق الصفات، تعالى الله عن قولهم؛ لأن الرب في اللغة يقال لغير الخالق للشيء، وهو على ضروب: فربُّ الشيء بمعنى مالكه ومستحقه، كما قال يوسف: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} يوسف: 23، أي: أنه مالكي، والله تعالى وإن كان لا يجوز أن يوصف بأنه مالك لصفاته فهو مستحق أن يوصف بها؛ لأن الملك والاستحقاق معناهما واحد. شرح صحيح البخاري (2/ 242).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قيل: إنما وصف (الدعوة) بـ(التمام)؛ لأنها ذكر الله -عز وجل- يُدعى بها إلى عبادته، وهذه الأشياء وما والاها: هي التي تستحق صفة الكمال والتمام، وما سوى ذلك من أمور الدنيا يعرض (له) النقص والفساد.
ويحتمل: أنها وصفت بـ(التمام) لكونها محمية عن النسخ والإبدال، باقية إلى يوم التناد. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«رب هذه الدعوة» هذا إشارة إلى الأذان، وإنما أنَّث لتأنيث خبره؛ لأنه هو في المعنى، كما فعل ذلك في قولهم: من كانت أمك؟ و«التامة» صفة مقيدة للخبر، أي: هذه دعوة تامة في إلزام الحجة وإيجاب الإجابة، والمسارعة إلى المدعو إليه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 249).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «هذه الدعوة التامة» سمِّي الأذانُ دعوة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاةِ والذكرِ، ووصف هذه الدعوة بالتامة؛ لأنها ذكر الله، وما هو ذكر الله لا شكَّ أنه تامٌّ، والتام في الحقيقة ذكر الله، وما كان فيه رضا الله، وما سوى ذلك فهو ناقصٌ. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 49).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
«الدعوة التامة» بفتح الدال: هي دعوة الأذان عندهم، سميت بذلك لكمالها وعظم موقعها. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 144).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «الدعوة» أي: ألفاظ الأذان التي يدعى بها الشخص إلى عبادة الله تعالى، ووصفت بالتمام: إما لِمَا تقدم في (باب بدء الأذان) أنه كلمة جامعة للعقائد الإيمانية من العقليات والنقليات علمية وعملية، أو لأن هذه الأشياء وما والاها هي التي تستحق هيئة الكمال والتمام، وما سواها من أمور الدنيا تعرض للنقص والفساد، أو لأنها محمية عن التغيير والتبديل، باقية إلى يوم النشور. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وأما رواية مَن روى: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة»، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال: كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع أن فيها كلمة التوحيد، وهي من القرآن، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق؟ وبهذا فرَّق مَن فرّق مِن أهل السنة بين أفعال الإيمان وأقواله، فقال: أقواله غير مخلوقة، وأفعاله مخلوقة؛ لأن أقواله كلها ترجع إلى القرآن؟
وأجيب عن هذا بوجوه:
منها: أن المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله: «حي على الصلاة، حي على الفلاح»، وليس ذلك في القرآن، ولم يرد به التكبير والتهليل، وفيه بُعد.
ومنها: أن المربوب هو ثوابها، وفيه ضعف.
ومنها: أن هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجهٍ، وليست منه بوجه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الكلام من القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، فهي من القرآن إذا وقعت في أثناء القرآن، وليست منه إذا وقعت من كلام خارج عنه، فيصح أن تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة.
وقد كره الإمام أحمد أن يؤذِّن الجُنُب، وعلّل بأن في الأذان كلمات من القرآن، والظاهر: أن هذا على كراهة التنزيه دون التحريم، ومن الأصحاب مَن حمله على التحريم، وفيه نظر؛ فإن الجنب لا يمنع من قول: (سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة إلا بالله، والله أكبر) على وجه الذكر دون التلاوة.
وسئل إسحاق: عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لأنه ليس بقرآن.
ومنها: أن الرب ما يضاف إليه الشيء، وإن لم يكن خلقًا له، كرب الدار ونحوه، فالكلام يضاف إلى الله؛ لأنه هو المتكلم به، ومنه بدأ، وإليه يعود، فهذا بمعنى إضافته إلى ربوبية الله، وقد صرَّح بهذا المعنى الأوزاعي، وقال فيمَن قال: (برب القرآن): إن لم يُرِد ما يريد الجهمية فلا بأس، يعني: إذا لم يُرِد بربوبيته خلقَه كما يريده الجهمية، بل أراد إضافة الكلام إلى المتكلم به. فتح الباري (3/ 466).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
والمراد بالدعوة التامة: دعوة الأذان؛ فإنها دعاء إلى أشرف العبادات، والقيام في مقام القرب والمناجاة؛ فلذلك كانت دعوة تامة، أي: كاملة لا نقص فيها، بخلاف ما كانت دعوات أهل الجاهلية: إما في استنصارٍ على عدو، أو إلى نعيِ ميتٍ، أو إلى طعام، ونحو ذلك مما ظاهره النقص والعيب. فتح الباري (3/ 465).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«التامة» لِمَا سبق من جمعها العقائد بتمامها، أو لأنها المستحقة للوصف بالكمال والتمام، وغيرها من الدنيا عرضة النقص والفساد، أو لأنها محمية من التغيير والتبديل، باقية إلى يوم النشور. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 453).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال ابن التين: وصفت بالتامة؛ لأن فيها أتم القول، وهو لا إله إلا الله. شرح سنن أبي داود (3/ 491).
وقال العيني -رحمه الله-:
«رَبَّ» منصوب على النداء، ويحوز رفعُه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أنت رَبُّ هذه الدعوة؛ والرب: المُربّي المصلح للشأن؛ واشتقاقه من الرِّبَّة؛ وهي نبت يصلح عليه المال (المواشي وتسمن). يُقال: رَبَّ يَرُبُّ ربًّا، وربّى يُربّي تربيةً، وأصله: رَبَبٌ؛ وهو قول زيد بن عليّ، وسعيد بن أوس، وقال الحسين بن الفضل: هو الثابت، أو نزل، من رَبَّ بالمكان، ولبَّ: إذا أقام، وأرضٌ مُرِبّ ومربابٌ: دام بها المطرُ، وفي اللغة: الرب: المالكُ السيّدُ والصاحبُ، وقال الواسطي: هو الخالق ابتداء، والمُربي غداء، والغافر انتهاء. شرح أبي داود (2/ 492).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
الرب: المالك، ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحبُّ إليّ من أن يربني رجل من هوازن، تقول: ‌رَبَّهُ ‌يَرُبُّهُ ‌فهو ‌رَبٌّ، كما تقول: نَمَّ عليه يَنُمُّ فهو نَمٌّ.
ويجوز أن يكون وصفًا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلا في اللَّه وحده، وهو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم: ربُّ الدار، وربُّ الناقة. تفسير الكشاف (1/ 10).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«اللهم ‌رب ‌هذه ‌الدعوة التامة» أي: صاحبها، وقيل: المتمم لها والزائد في أهلها، والعمل بها والإجابة لها. النهاية (2/ 179).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
والدّعوة بفتح الدّال هي الآذان، ووصفها بالتمام لأنّها ذكر الله، ويدعى بها إلى عبادته، وذلك هو الذي يستحقّ صفة الكمال والتمام. مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (1/ 277).

قوله: «والصلاة القائمة»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
و«الصلاة القائمة» التي هي أول الفرائض بعد الإيمان بالله، فإذا دعا للنبي -عليه السلام- بالوسيلة والمقام المحمود فقد دعا لنفسه ولجميع المسلمين. شرح صحيح البخاري (2/ 242).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«والصلاة القائمة» أي: الدائمة التي لا تُغَيّرُها ملة، ولا تنسخها شريعة. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
و«الصلاة» عطف على الخبر، ومعناها الدعاء، و«القائمة» الدائمة من: أقام الشيء وأقام عليه: إذا حافظه وداوم عليه، كما قال الشاعر:
أقامت غزالةُ سوقَ الضِّرابِ ** لأهلِ العراقينِ حولًا قميطًا (أي: تامًّا كاملًا) أي: لا يغيرها شارع، ولا يبطلها غاشم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 249).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«والصلاة القائمة» أي: التي ستقوم وتحضر، وقد خرَّج البيهقي حديث جابر -رضي الله عنه-، ولفظه: «اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة»، وهذا اللفظ لا إشكال فيه؛ فإن الله سبحانه جعل لهذه الدعوة وللصلاة حقًّا كتبه على نفسه، لا يُخلفه لمن قام بهما من عباده، فرجع الأمر إلى السؤال بصفات الله وكلماته؛ ولهذا استدل الإمام أحمد على أن القرآن ليس بمخلوق باستعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمات الله التامة، وقال: «إنما يستعاذ بالخالق لا بالمخلوق». فتح الباري (3/ 466).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«والصلاة» هنا هي الحيعلة؛ لقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} البقرة: 3، ويحتمل أن يراد بالصلاة الدعاء، وبـ«الصلاة القائمة» الدائمة، من قولهم: قام بالشيء إذا داوم عليه، ويحتمل أن يراد بالصلاة المعهودة المدعوِّ لها، وهو أظهر. شرح سنن أبي داود (3/ 492).

قوله: «آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وقوله: «آتِ محمدًا الوسيلة» فإن الوسيلة قد روي فيها ما روي، إلا أنها في وضع اللغة: هي التي يدلي بها الطالب، فيكون سؤال الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوسيلة سؤال لنفوسهم؛ فإن الوسيلة والمقام المحمود والدرجة الرفيعة كلَّه ليستنزل ويسأل الصفح عنهم والعفو. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 328).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفيه: «آتِ محمدًا الوسيلة» الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير؛ يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، وتوصل إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل، والمراد بها في الحديث: منزلة في الجنة مفسَّرة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة».
وإنما سميت وسيلة؛ لأن خصِّيصى القُربة أفضت به إلى تلك المنزلة، ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقام القربة وحال التوسل إلى الله؛ بحيث لا يناهضه أحد خُصَّ في الجنة بمنزلة لا يناصبه فيها أحد. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
و«الوسيلة» ما يُتقرّب إلى غيره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} المائدة: 35، أي: اتقوه بترك المعاصي، وابتغوا إليه الوسيلة بفعل الطاعات، من: وسل إلى كذا: إذا تقرب إليه، قال لبيد:
أرى الناسَ لا يدرون ما قدْرُ أمْرِهم ** ألا كل ذي لُبٍّ إلى اللهِ واسلُ
والمراد بها ها هنا: منزلة في الجنة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عبد الله بن عمرو: «ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة». وإنما سميت وسيلة؛ لأنها منزلة يكون الواصل إليها قريبًا من الله تعالى فائزًا بلقائه، فيكون كالوصلة التي يتوسل بالوصول إليه والحصول فيها إلى الزلفى من الله -عز وجل-، والانخراط في عُمَّار الملأ الأعلى، أو: لأنها منزلة سَنية، ومرتبة عَليَّة يتوسل الناسُ بمن اختص بها ونزل فيها إلى الله تعالى، وشفيعًا مُشفَّعًا يخلِّصهم من أليم عقابه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 249).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة؛ لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو».
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سلوا الله لي الوسيلة» قالوا: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال: «أعلى درجة من الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، أرجو أن أكون أنا»، ولفظ الإمام أحمد: «إذا صليتم عليّ فسلوا الله لي الوسيلة...»، وذكر باقيه. وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوسيلة درجة عند الله -عز وجل- ليس فوقها درجة، فسلوا الله ان يؤتيني الوسيلة».
وأما «الفضيلة» فالمراد -والله أعلم-: إظهار فضيلته على الخلق أجمعين يوم القيامة وبعده، وإشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف، كما قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»، ثم ذكر حديث الشفاعة. فتح الباري (3/ 466).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والوسيلة: القربة، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «إنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة». وقيل: إنها الشفاعة، وقيل: القُرب من الله تعالى. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 340).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«آتِ» سيدنا، «محمدًا الوسيلة» هي: ما يتقرب بها إلى الكبير، وتطلق على المنزلة الرفيعة. شرح سنن أبي داود (3/ 492).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«آتِ محمدًا الوسيلة» هي أعلى درجة في الجنة، لا تكون إلا له -صلى الله عليه وسلم-، وحكمة طلبها له مع تحقق وقوعها له بالوعد الصادق: إظهار الافتقار والتواضع، مع عود عائدة جليلة للسائل أشار إليها بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثم سلوا الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي» أي: وجبت، كما في رواية «يوم القيامة» أي: بالوعد الصادق، وأما في الحقيقة فلا يجب لأحد على الله شيء تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. تحفة المحتاج بشرح المنهاج (ص: 27).

قوله: «وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«وابعثه» أي: أَرسِلْهُ وأوصِلْه. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 49).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
والمقام المحمود الذي يَحْمدُهُ لأجله جميع أهل الموقف، قال ابن مسعود: هو الشفاعة للناس يوم القيامة، وذلك أن هذه الدعوة هو سنها، وعلى لسانه ذكرت، فكل قائل يقولها فثوابها له إلى يوم القيامة، فيكون قول القائل: «اللهم آتِ محمدًا الوسيلة» جزاءً لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وحسنَ مكافأة. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 328).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته» الموصول مع الصلة إما بدل، أو نصب على المدح، أو رفع بتقدير: أعني أو هو، ولا يجوز أن يكون صفة للنكرة، وإنما نُكّر لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقامًا أيَّ مقام، مقامًا يغبطه الأولون والآخرون، محمودًا يكل عن أوصافه ألسنةُ الحامدين. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 913).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
«مقامًا محمودًا» نصب على الظرف، أي: عسى أن يبعثك يوم القيامة ‌فيقيمك ‌مقامًا ‌محمودًا، أو ضُمّن يبعثك معنى يقيمك، ويجوز أن يكون حالًا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود، ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل مَن رآه وعرفه، وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات، وقيل: المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله، وعن ابن عباس -رضى الله عنهما-: مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق، تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. تفسير الكشاف (2/ 687).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«مقامًا محمودًا» أي: مقامًا يحمده الأولون والآخرون، وهو مقام ليس أحد إلا تحت لوائه -صلى الله عليه وسلم-، وهو مقام الشفاعة العظمى، حيث اعترف الجميعُ بعجزهم، ويقال له -صلى الله عليه وسلم-: «اشفع تُشفع» فيَشفع لجميع الخلائق في إراحة هول الموقف وكشف كربة العرصات.
فإن قلتَ: ما وجه نصبه؟ لامتناع أن يكون مفعولًا معه؛ لأنه مكان غير مبهم فلا يجوز أن يقدَّر (في) فيه؟
قلتُ: يجوز أن يلاحظ في البعث معنى الإعطاء، فيكون مفعولًا ثانيًا له، أو هو مشابه للمبهم فله حكمه، ثم إن النحاة جوزوا مثل: رميتُ مرمى زيد، وقتلت مقتَل عمرو، وهذا مثله...
قوله: «الذي وعدتَه» إما صفة للمقام إن قلنا: المقام المحمود صار عَلَمًا لذلك المقام، وإما بدل، أو نسب على المدح، أو رفع بتقدير: أعنى أو هو، وإنما نُكر مقام لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقامًا وأيَّ مقامٍ مقامًا يغبطه الأولون والآخرون، والمراد بالوعد ما قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الإسراء: 79. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«وابعثه مقامًا محمودًا» هكذا في رواية: البخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، وعزا بعضُهم إلى النسائي أنه رواه بلفظ: «المقام المحمود» بالتعريف، وليس كذلك، وكذلك وقعت هذه اللفظة بالألف واللام في بعض طرق روايات الإسماعيلي في صحيحه.
ووجه الرواية المشهورة: أن ذلك متابعة للفظ القرآن، فهو أولى، وعلى هذا فلا يكون «الذي وعدته» صفة؛ لأن النكرة لا توصف بالمعرفة وإن تخصصت، وإنما تكون بدَلاً؛ لأن البدل لا يشترط أن يطابق في التعريف والتنكير، أو يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: (أعني: الذي وعدته)، أو يكون مرفوعًا خبر مبتدأ محذوف أي: (هو الذي وعدته).
و«المقام المحمود» فُسِّر بالشفاعة، وقد رُوي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس -رضي الله عنهم- وغيرهم.
وفُسِّر: بأنه يُدعى يوم القيامة ليُكسى حلة خضراء، فيقوم عن يمين العرش مقامًا لا يَقدُمه أحد، فيغبطه به الأولون والآخِرون، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، ونحوه من حديث كعب بن مالك أيضًا، وكذا رُوي عن حذيفة -رضي الله عنه- موقوفًا، ومرفوعًا، وهذا يكون قبل الشفاعة، وفسَّره مجاهد وغيره بغير ذلك. فتح الباري (3/ 466).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والمقام المراد به مقام الشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون.
وقوله: «مقامًا محمودًا» كذا هو بالتنكير فيهما، وهو موافق لقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الإسراء: 79، ووقع في صحيح أبي حاتم ابن حبان بسند ابن خزيمة بالتعريف فيهما، وكذا أخرجها البيهقي أيضًا في سننه وعزاها إلى البخاري، ومراده: أصل الحديث كما هو معروف من عادته، وسؤال هذا المقام مع أنه موعود به؛ لشرفه وكمال منزلته، وعظم حقه، ورفيع ذكره، وقوله: «الذي وعدته» يجوز أن يكون بدلًا ومنصوبًا بأعني، ومرفوعًا خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي وعدته. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 340).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«مقامًا محمودًا الذي وعدته» بدل من النكرة، أو صفة لها على رأي الأخفش القائل بجواز وصفه به إذا تخصصت بوصف، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف. مصابيح الجامع (2/ 276).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وابعثه مقامًا محمودًا» أي: يحمد مَن يقوم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. شرح سنن أبي داود (3/ 492).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
وأطلق عليه الوعد؛ لأن (عسى) مِن الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان، هكذا قال شيخنا ابن حجر، وفيه نظر؛ لأن شرط عطف البيان كما قال ابن مالك وغيره أنه لا يخالف متبوعه في تعريفه وتنكيره؛ ولهذا ردوا قول الزمخشري أن {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان على {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} آل عمران: 97، وقالوا: إنه سهو، وكذا رُد عليه في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى} سبأ: 46، و{وَأَنْ تَقُومُوا} عطف على {وَاحِدَةٍ}، ولا يختلفون في جواز ذلك في البدل نحو: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} الشورى: 52، 53، ونحو: {بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ} العلق: 15 ،16.
ويحتمل أن يجاب عن الزمخشري: بأن النكرة إذا خصّصت بالوصف صارت في معنى المعرفة؛ ولهذا جاز الابتداء بالنكرة إذا وُصفت، وجاز أن تكون الجملة حالًا عن النكرة إذا تخصّصتْ كما في قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} الأنبياء: 50، أي: {أَنْزَلْنَاهُ} جملة حالية مِن {ذِكْرٌ} لأنه مخصوص بالصفة؛ ولهذا أجاز أبو الحسن (الأخفش) وصف النكرة بالمعرفة في قوله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} المائدة: 107 أن الأوليان صفة لآخران لتخصصه بالصفة، وهي {يَقُومَانِ}، واستبعد أبو حيان أن يكون {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} آل عمران: 97 عطف بيان من جهة أخرى، وهي: أن مذهب البصريين أن عطف البيان لا يجوز إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، قال (أبو حيان): ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة، وما ذكره أبو حيان لا يرد على الزمخشري على ما قرّرناه؛ لأن {آيَاتٌ} لما تخصصت صارت معرفة، وعطف البيان في المعرفة بالمعرفة لا نزاع فيه.
وعلى كل حال: فالأولى أن يعرب {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} والموصول في الحديث بدلاً من «مقامًا محمودًا»، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي وعدتَه، أو مبتدأ حذف خبره، أي: الذي وعدته هو المقام المحمود، ويكون «الذي وعدته» ذكر بصيغة الموصول؛ لتعظيم وعد الله تعالى وصدقه، ويجوز أن يكون «الذي» منصوب على تقدير: أعني، أو أمدح الذي وعدتَه. ومما يدل على أن الصفة إذا تخصصت صارت معرفة: وروده معرفة في رواية أخرى، فقد وقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما: «المقام المحمود الذي وعدته»، وهذا مبطل للنزاع. شرح سنن أبي داود (3/ 493).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما ما وقع في التنبيه وكثير من كتب الفقه «‌المقام ‌المحمود» فليس بصحيح في الرواية، وإنما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- التأدب مع القرآن وحكاية لفظه في قول الله -عز وجل-: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الإسراء: 79، فينبغي أن يحافظ على هذا. المجموع شرح المهذب (3/ 117).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معقّبًا:
قلتُ: وقد جاء في هذه الرواية بعينها من رواية علي بن عياش شيخ البخاري فيه بالتعريف -المقام المحمود- عند النسائي، وهي في صحيح ابن خزيمة وابن حبان أيضًا، وفي الطحاوي والطبراني في الدعاء، والبيهقي، وفيه تعقُّب على مَن أنكر ذلك كالنووي. فتح الباري (2/ 95).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
ويحتمل أن يكون المراد بـ«‌المقام ‌المحمود»: الشفاعة، كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة أو الفضيلة، ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا: «يبعث الله الناس، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود». ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدِّمه بين يدي الشفاعة، ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة. فتح الباري (2/ 95).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قيل: المقام المحمود قد وعده ربُّه إياه، والله لا يخلف الميعاد، فما الفائدة في دعاء الأمة بذلك؟ قلتُ: الدعاء إما للثبات والدوام، وإما للإشارة إلى جواز دعاء الشخص لغيره، والاستعانة بدعائه في حوائجه، ولا سيما من الصالحين. شرح أبي داود (2/ 492).

قوله: «حلَّت له شفاعتي يوم القيامة»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
وقوله: «حلَّت له شفاعتي» معناه: غشيته وحلَّت عليه، لا أنها كانت حرامًا عليه قبل ذلك، و(اللام) ها هنا بمعنى (على)، وذلك موجود في القرآن، قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} الإسراء: 109، يعني: على الأذقان سجدًا. شرح صحيح البخاري (2/ 242).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «حلَّت له» أي: استُحقت؛ لأن من كان الشيء حلالًا له كان مستحقًا لذلك، وبالعكس، وفيه: إثبات الشفاعة للأمة صالحًا وطالحًا لزيادة الثواب أو إسقاط العقاب؛ لأن لفظة (مَن) عامة، فهو حجة على المعتزلة حيث خصوها بالمطيع؛ لزيادة درجاته فقط. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«حلَّت له شفاعتي» قيل: معناه: نالته وحصلت له ووجبت، وليس المراد بهذه الشفاعةِ الشفاعةُ في فصل القضاء؛ فإن تلك عامّة لكل أحد، ولا الشفاعة في الخروج من النار، ولا بد؛ فإنه قد يقول ذلك مَن لا يدخل النار.
وإنما المراد -ولله اعلم-: أنه يصير في عناية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحيث تتحتم له شفاعته، فإن كان ممن يدخل النار بذنوبه شَفع له في إخراجه منها، أو في منعه من دخولها، وإن لم يكن من أهل النار فيَشفع له في دخوله الجنة بغير حساب، أو في رفع درجته في الجنة. فتح الباري (3/ 466).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومعنى «حلت له» غشيته ونالته، وله بمعنى: عليه، كما في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذقاَنِ} الإسراء: 107، ويؤيده رواية مسلم السالفة «حلَّت عليه» وقيل: وجبت له، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} طه: 81 مَن قرأه بالضم أراد: ينزل، ومَن قرأه بالكسر قال: وجب. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 340).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: معنى «حلت»: غشيته وحلت عليه، قال المهلب: والصواب أن يكون «حلت» بمعنى: وجبت، كما قال أهل اللغة: حل ‌يحِلُّ وجب، وحل يحُلُّ نزل، ويحتمل أن هذا مخصوص لمن فعل ما حضه -صلى الله عليه وسلم- عليه، وأتى بذلك على وجهه وفي وقته وبإخلاص وصدق نية، وكان بعض من رأينا من المحققين يقول: هذا ومثله في قوله: «مَن صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا» هو -والله أعلم- لمن صلى عليه محتسبًا مخلصًا قاضيًا حقه بذلك، إجلالًا لمكانه وحبًّا فيه، لا لمن قصد بقوله ودعائه ذلك ‌مجرد ‌الثواب، أو رجاء الإجابة لدعائه بصلاته عليه والحظ لنفسه، وهذا فيه عندي نظر. إكمال المعلم (2/ 253).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
وهو تحكم غير مرضيّ، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه. فتح الباري (2/ 96).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- معقبًا:
ويدل على ما نقله عياض عن شيخه قوله في حديث المتابعة في الأذان: «من قلبه؛ دخل الجَنَّة» كما تقدم. شرح سنن أبي داود (3/ 495).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويُشعر قولُه في آخر الحديث: «حلَّت له شفاعتي» بأن الأمر المطلوب له: الشفاعة، والله أعلم، قوله: «حلت له» أي: استحقت ووجبت، أو نزلت عليه، يقال: حَل يحُل بالضم إذا نزل، واللام بمعنى (على)، ويؤيده رواية مسلم: «حلت عليه»، ووقع في الطحاوي من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «وجبت له». ولا يجوز أن يكون حلَّت مِن الحِل؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. قوله: «شفاعتي» استشكل بعضُهم جعل ذلك ثوابًا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له -صلى الله عليه وسلم- شفاعات أخرى؛ كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات، فيعطى كل أحد ما يناسبه. فتح الباري (2/ 95).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقال المهلب: فيه الحض على الدعاء في أوقات الصلوات حين تفتح أبواب السماء للرحمة، وقد جاء في الحديث: «ساعتان لا يرد فيهما الدعاء: حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف في سبيل الله»، فدلهم -عليه السلام- على أوقات الإجابة، وأن يدعى بمعنى ما فتح له أبواب السماء وهو قوله: «رب هذه الدعوة التامة» يعني: الأذان المشتمل على شهادة الإخلاص لله تعالى، والإيمان بنبيه -عليه السلام-؛ وبذلك تم استحقاق الدخول في الإسلام. شرح صحيح البخاري (2/ 242).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث ما يدل على أن وقت الأذان قَمِنٌ بالإجابة. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 328).


ابلاغ عن خطا