«إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، قال: يقولُ اللهُ -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدُكُم؟ فيقولون: ألم تُبيِّضْ وجوهَنا؟ ألم تُدْخِلْنا الجنةَ، وتُنَجِّنا من النارِ؟ قال: فيكشفُ الحجابَ، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربِّهم -عزَّ وجلَّ-».
رواه مسلم برقم: (181)، من حديث صهيب -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الحجاب»:
السِّتْر. الصحاح، للجوهري (1/ 107).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أصل الْحجاب السِّتْر، وَفِي صفة الله تعالى راجع إلى ستر الأبصار، ومنعها من رُؤْيَته. مشارق الأنوار (1/ 181).
شرح الحديث
قوله: «إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي رواية ابن ماجه: «إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ». البحر المحيط الثجاج (5/ 109).
قوله: «قال: يقول اللهُ -تبارك وتعالى-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأكيد لقال الأول «يقول الله تبارك» أي: تزايد بِرُّه وإحسانه لعباده «وتعالى» أي: ترفَّع عما لا يليق به من كل النقائص. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (4/ 281).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«قال: يقول الله» جواب «إذا» «يقول الله»، ولفظ: «قال» مزيد مكرر، أُعيدَ ذكره، وأصل الكلام: إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ يقول الله -تبارك وتعالى-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 588).
قوله: «تريدون شيئًا أزيدكم؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تريدون» أي: أتريدون «شيئًا أزيدكم» أي: على عطاياكم. مرقاة المفاتيح (9/ 3602).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«تريدون شيئًا أزيدكم؟» الكلام على حذف همزة الاستفهام، والمراد من الشيء أنواع النعيم. والسؤال لاستنطاق الشكر منهم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 588).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«تريدون» أي: أتريدون يا عبادي «شيئًا» من المطالب «أزيدكم» ذلك الشيء على ما أعطيتكم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (4/ 281).
قوله: «فيقولون: ألم تُبيِّضْ وجوهَنا؟ ألم تُدْخِلْنا الجنةَ، وتُنَجِّنا من النار؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فيقولون» في جوابه: «ألم تبيض وجوهنا» بهمزة الاستفهام التقريري، وكذا في قوله: «ألم تدخلنا الجنة، وتنجِّنا من النار؟» بالجزم عطفًا على ما قبله، فأي نعمة أفضل من هذا؟ الكوكب الوهاج (4/ 281).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فيقولون: ألم تبيض» من التبييض «وجوهنا؟»، وفي رواية ابن ماجه: «فيقولون: وما هو؟ ألم يثقِّل الله موازيننا؟»... «ألم تدخلنا» بضم أوله، من الإدخال «الجنة؟ وتنجِّنا» بضم أوله، وتشديد الجيم، من التنجية، ويحتمل أن يكون بتخفيف الجيم، من الإنجاء «من النار؟». البحر المحيط الثجاج (5/109- 110).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«ألم تبيض وجوهَنا؟» الاستفهام للنفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي: بيضت وجوهنا.
«وتنجِّنا من النار» بضم التاء وفتح النون وتشديد الجيم المكسورة، وحذف الياء للجزم، عطفًا على المجزوم قبله. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 588).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا» بتشديد الجيم ويخفف، أي: وأَلَمْ تخلصنا «من النار؟» أي: من دخولها وخلودها. مرقاة المفاتيح (9/ 3602).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ألم تبيض وجوهنا؟» تقرير وتعجيب من أنه كيف يمكن الزيادة على ما أعطاهم الله من سعة فضله وكرمه؟ الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3575).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقول مَن يسأله الله من أهل الجنة بقوله: «هل تريدون شيئًا أزيدكم؟»: «ألم تبيضَّ وجوهَنا، وتدخلنا الجنّة، وتنجنا من النار؟» لا يليق بمَن مات على كمال المعرفة والمحبة والشوق، وإنما يليق ذلك بمَن مات بين الخوف والرجاء، فلما حصل على الأمن من المخوف والظَفَر بالمرجو الذي كان تَشَوُّقه إليه، قنِع به، ولها (غَفَلَ) عن غيره، وأما مَن مات مُحِبًّا لله، مشتاقًا لرؤيته، فلا يكون همُّه إلا طلب النظر لوجهه الكريم لا غير، ويدلُّ على صحة ما قلتُه أن المرء يُحْشرُ على ما يموت عليه كما عُلِمَ من الشريعة، بل أقول: إنَّ مَن مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا ينبَّه بالسؤال، بل يعطيه أمنيته ذو الفضل والإفضال. المفهم (1/ 413).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعقِّبًا:
قوله: "لا يليق بمَن مات..." إلخ، فيه نظر لا يخفى؛ لأن نصّ الحديث مطلق، لم يفرِّق بين طائفة وطائفة، وأيضًا استدلاله على ذلك بأن مَن مات يُحشر... إلخ، محلُّ نظر أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الحشر، وإنما هو بعد دخول الجنة، والاستقرار فيها، فتأمله بإنصاف. البحر المحيط الثجاج (5/ 110).
قوله: «قال: فيكشفُ الحجابَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» النبي -صلى الله عليه وسلم- «فيَكشِفُ» الله -سبحانه وتعالى- «الحجاب» أي: يزيل الموانع التي كانت تمنع رؤيته سبحانه. وتسميتها حجابًا مجاز بالاستعارة، والمحجوب بها الخلق. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (4/ 281).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«فيَكشِفُ الحجاب» بالبناء للمعلوم، والفاعل ضمير مستتر يعود على الله -سبحانه وتعالى-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 588).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فيَكشِفُ» يزيل ويرفع «الحجاب» أي: الذي حجبهم عن إبصاره. ولا تعارض بين الأحاديث التي وردت في الرؤية مختلفة في الكيفية؛ لكونها تكون مرارًا متعددة. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 81).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فيَكشِفُ» بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الكشف «الحجاب» أي: يزيله ويرفعه، والظاهر أنه رداء الكبرياء الذي تقدم في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- (يعني حديث: «وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه»). البحر المحيط الثجاج (5/ 110).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«فيكشف الحجاب»... والظاهر: أنَّ المراد بالحجاب حجاب النور الذي وقع في حديث أبي موسى عند مسلم، ولفظه: «حجابه النور؛ لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه (نوره وجلاله وبهاؤه) ما انتهى إليه بصرهُ من خَلْقِه». تحفة الأحوذي (7/ 226).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فيرفع الحجاب» أي: عن أعين الناظرين. شرح المصابيح (6/ 123).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
سؤال: إن قيل: لِمَ جعل الله الخلق في حجاب من نفسه؟
قلنا: لوجوه:
أحدها: لزيادة المحبة؛ كما قيل: سرور الأوبة على قدر طول الغربة.
والثاني: لزيادة المحبة.
والثالث: لزيادة الهيبة.
والرابع: ليكون فضلًا للمستدلين على غيرهم.
والخامس: لو كشف عنهم الحجاب حتى يشاهدوه في الدنيا لاشتغلوا بالنظر إلى جماله عن أنفسهم وعمارة الدنيا، ألا ترى أن امرأة العزيز أَعطت النِّسوة كل واحدة منهن سكينًا وأترجًا، وأمرتهن أن يقطعن الأترج، وقالت ليوسف -عليه الصلاة والسلام-: اخرج عليهن، فلما رأينه دهشن من حسنه، وغِبنَ عن حواسهن حتى قطعن أيديهن بالسكاكين، ولم يعرفن بالألم. إذا كان هذا حصل لهن بنظرهن إلى جمال مخلوق، فما ظنك بما يحصل بالنظر إلى جمال الخالق؟فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (15/ 149).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
الحُجُب عند السلف وأهل الحديث وغيرهم هي حُجب الله عن العبد، وعند من يثبت رؤية الله بلا مواجهة الحُجُبُ عندهم ما يقوم بالعبد من موانع الرؤية وهي أمر عَدَمي أو عَرَض وجودي. الرد على الشاذلي (ص: 152).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا متعقبًا للأشاعرة:
قوله: الحجاب محمول عندنا على أن يخلق الله تعالى في العين رؤية متعلقة به، وهذا تفسير أصحابه (يعني: أصحاب الرازي من الأشاعرة) الذين يقولون بإثبات الرؤية، وينفون الحجاب، والمقابلة ونحو ذلك.
وهذا باطل بالضرورة، فإن كون الله تعالى لا يخلق في العين رؤية أمرُ عدمي لا يحتاج إلى إحداث فعل، بل هو مثل أن الله تعالى لا يخلق للجسم طعمًا أو لونًا أو ريحًا أو حركة أو حياة أو غير ذلك من الأمور العدمية، فقول القائل: فهم محجوبون عنه بحجاب يخلقه فيهم وهو عدمُ الإدراك في أبصارهم كلام باطل؛ لأن العدم لا يخلق....، الوجه الخامس: أنه قال في الحديث: «فيكشف الحجاب فينظرون إليه» وكشف الشيء إزالته أو رفعه، وهذا لا يوصف به المعدوم، فإن المعدوم لا يُزال ولا يرفع، وإنما يزال ويرفع الموجود...، الوجه السادس: أنه قال: «فيكشف الحجاب فينظرون إليه» فجعل النظر متعقبًا لكشف الحجاب، وعندهم أن الحجاب هو عدم خلق الرؤية أو ضده خلق الرؤية، فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية لا يكون شيئًا يتعقب الحجاب، الوجه السابع: أنه قال «حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه» ولو كان الحجاب عدم خلق الرؤية لم يكن كَشفُ ذلك وهو خلق الرؤية في العبد يحرق شيئًا من الأشياء، فإن المؤمنين إذا رأوا ربّهم في عرصات القيامة ثم رأوه في الجنة مرة بعد مرة لا يُحْرَقُ شيء، الوجه الثامن: أن في الصحيحين «وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» فأثبت رداء الكبرياء على وجهه، وعلى قول هؤلاء ما بينهم وبين أن ينظروا إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم، ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء، ولا هو على وجه الله -عز وجل- ولا هو في جنة عدن، ولا هو شيء أصلًا حتى يوصف بشيء من صفات الموجود، الوجه التاسع: أن تسمية مجرد عدم الرؤية مع صحة الحاسة وزوال المانع حجابًا أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، ولهذا لا يقال: إن الإنسان محجوب عن رؤية ما يعجز عنه مع صحة حاسته وزوال المانع، وكالأشياء البعيدة، ولكن يقال في الأعمى: هو محجوبُ البصر؛ لأن في عينه ما يحجب النور أن يظهر في العين، ولكن هؤلاء قوم وافقوا المؤمنين على أن رؤية الله -عز وجل- جائزة، ووافقوا الكفار أعداء الرسل من المشركين والصابئين على ما يوجب أن الله -عز وجل- لا يرى، كما وافقهم الجهمية كالمعتزلة ونحوهم، ثم أثبتوا رؤيةً يُعلم بضرورة العقل بطلانها، وجحدوا حقيقة ما جاء به السمع، فصاروا منافقين مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل صاروا جاحدين لصريح المعقول باتفاق الطوائف، جاحدين لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم والإيمان. بيان تلبيس الجهمية (8/120- 123).
قوله: «فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم -عزَّ وجلَّ-»:
قال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«فما أعطوا» مترتب على المضارع، فينبغي أن يكون مضارعًا، والتقدير: فيحسُّون أنهم ما أعطوا في جنتهم شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عزّ وجلّ-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 588).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم» اعلم أن أعلى نعيم المتنعمين في الجنة شيئان: زيارتهم ربهم تعالى، ونظرهم إليه سبحانه وتعالى. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (15/ 149).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ذكر في هذا الحديث نظر أهل الجنة إلى ربهم، مذهب أهل السنة بأجمعهم جواز رؤية الله عقلًا، ووجوبها في الآخرة للمؤمنين سمعًا، نطق بذلك الكتاب العزيز، وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة عشر من الصحابة بألفاظ مختلفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافًا للمعتزلة والخوارج وبعض المرجئة، إذ نفوا ذلك عقلًا بناء على شروط يشترطونها من البنية والمقابلة واتصال الأشعة، وزوال الموانع في تخليط لهم طويل. وأهل الحق لا يشترطون شيئًا من ذلك سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقها الله للرائي فيرى المرئي، لكن مجرى العادة تكون على صفات، وليست بشروط. إكمال المعلم (1/ 540- 541).
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-:
فقالوا (يعني: الجهمية والزنادقة): إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قول الله -جل ثناؤه-: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} الأنعام: 103، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف معنى قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقال: «إنكم سترون ربكم». وقال لموسى: {لَنْ تَرَانِي} الأعراف: 143، لم يقل: لن أُرى، فأيهما أولى أن نتبع: النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «إنكم سترون ربكم»، أو قول الجهمي حين قال: لا ترون ربكم؟!
والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل الجنة يرون ربهم، لا يختلف فيها أهل العلم.
ومن حديث سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد في قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس: 26، قال: النظر إلى وجه الله.
ومن حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استقر أهل الجنة في الجنة، ونادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أَذِنَ لكم في الزيادة»، قال: «فيكشف الحجاب فيتجلى لهم»، وذكر الحديث.
فينظرون إلى الله لا إله إلا هو، وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم، ويحجبون عن الله؛ لأن الله قال للكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: 15، فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟
والحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع، والحمد لله وحده. الرد على الجهمية والزنادقة (ص:132- 134).
وقال ابن أبي العز -رحمه الله-:
الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عليه السلام. شرح الطحاوية (ص: 197).
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلًا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين. وزعمت طائفة من أهل البدع: المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراهُ أحدٌ من خلقِه، وأنَّ رؤيته مستحيلة عقلًا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح، وجهل قبيح. وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمَن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيًّا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة وكذلك باقي شُبَههم، وهي مستقصاة في كتب الكلام، وليس بنا ضرورة إلى ذكرها هنا، وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فقد قدّمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا.شرح صحيح مسلم (3/ 15).
قال الشيخ عبد الرحمن البراك -رحمه الله-:
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22-23 هي أصرح آية في الدلالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم؛ فإن النظر إذا عدي بـ(إلى) اختص بنظر العين، وقد اختلف الناس في مسألة الرؤية:
فذهب أهل السنة إلى أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم عيانًا من فوقهم من غير إحاطة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة كهذه الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب.
وذهبت المعتزلة إلى نفي الرؤية، وتأولوا الآيات والأحاديث بصرفها عن ظاهرها، وردّ ما أمكنهم ردّه من السنة على أصولهم.
وذهب الأشاعرة إلى إثبات الرؤية بالأبصار، لكن قالوا: إن الله تعالى يُرى لا في جهة بناء على مذهبهم في نفي العلو؛ فأثبتوا رؤية غير معقولة، فخالفوا بذلك العقل والشرع، وكانوا بذلك متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل كانوا أقرب إلى مذهب النفاة كالمعتزلة وغيرهم.
وكل ما ذكر الحافظ في هذا المقام ونقله عن الشراح يدور حول مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، وفيه من الحق ردّ مذهب المعتزلة، ومن الباطل نفي علو الله تعالى، ونفي أن يرى في جهة العلو بل يرى لا في جهة؛ مما أوجب لهم الحيرة والاضطراب، وظهور حجة المعتزلة عليهم. وليس لمذهب أهل السنة المحضة ذكر صريح. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (13/ 426).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -رحمه الله- متعقبًا لابن حجر أيضًا:
معنى ذلك ( يقصد بأنه: منزَّه عن الجهة) أنه لا يرى في العلو، فلا يُرى من فوق، ولا من تحت، ولا أمام، ولا خلف، ولا يمين، ولا شمال، وهذا قول باطل في العقل والشرع؛ فالمرئي رؤية بصرية لا بد أن يكون في جهة من الرائي، وهذا القول في الرؤية هو حقيقة قول الأشاعرة، وهو مبني على باطل، وهو نفي علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، فكانوا في الرؤية متذبذبين بين النُّفاة والمثبتين، بل هم أقرب إلى نفاة الرؤية كالمعتزلة. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (11/ 447).
وقال ابن أبي العز -رحمه الله-:
من قال: يرى (يعني: الله) لا في جهة، فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرًا لعقله وفي عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي ولا خَلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رَدَّ عليه كُلُّ مَن سمعه بفطرته السليمة. شرح الطحاوية (ص: 195).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقية، يكلمهم سبحانه، ويريهم وجهه الكريم، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة، يريهم وجهه الكريم -جل وعلا-، ويحجب عنه الكفار، كما قال -سبحانه وتعالى-: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: 15، فالمؤمنون يرونه سبحانه، والكفار محجوبون عنه. هذه الرؤية العظيمة آمن بها أهل السنة والجماعة، وأجمعوا عليها، وهكذا في الجنة يراه المؤمنون؛ وذلك أعلى نعيمهم، كما قال -عز وجل-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس: 26، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله -عزَّ وجلَّ-، مع ما يزيدهم الله به من الخير والنعيم المقيم، الذي فوق ما يخطر ببالهم.
وقال -عز وجل-: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} المطففين:22- 24، وقال -سبحانه وتعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22- 23، فالمؤمنون يرون الله سبحانه في القيامة، وفي الجنة رؤية عظيمة حقيقية، لكن من دون إحاطة؛ لأنه سبحانه أجل وأعظم من أن تحيط به الأبصار من خلقه، كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام: 103، والمعنى: أنها لا تحيط به؛ لأن الإدراك أخص والرؤية أعم، كما قال تعالى في قصة موسى وفرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} الشعراء: 61، فأوضح -سبحانه- أن الترائي غير الإدراك. وقال جمع من السلف في تفسير الآية المذكورة، منهم عائشة -رضي الله عنها-: إن المراد أنهم لا يرونه في الدنيا.
وعلى كلا القولين، فليس فيها حجة لمن أنكر الرؤية من أهل البدع؛ لأن الآيات القرآنية الأخرى التي سبق بيانها مع الأحاديث الصحيحة المتواترة كلها قد دلت على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفي الجنة.
وأجمع على ذلك الصحابة -رضي الله عنهم- وأتباعهم من أهل السنة وشذت الجهمية والمعتزلة والأباضية فأنكروها، وقولهم من أبطل الباطل، ومن أضل الضلال، نسأل الله العافية والسلامة مما ابتلاهم به، ونسأل الله لنا وللموجودين منهم الهداية والرجوع إلى الحق.
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عزَّ وجلَّ»، فيرونه -سبحانه وتعالى- رؤية حقيقية وذلك أعلى نعيمهم، وأحب شيء إليهم، جعلنا الله وإياكم منهم.
وقد أجمع أهل الحق من أهل السنة والجماعة على هذه الرؤية، كما تقدم، وقد حكى ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين، وحكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وذكر إجماع أهل السنة على ذلك، وذكر أن جمهور أهل السنة يكفِّرون مَن أنكر هذه الرؤية...
أما في الدنيا فإنه -سبحانه- لا يُرى فيها، فالرؤية نعيم عظيم، والدنيا ليست دار نعيم، ولكنها دار ابتلاء وامتحان، ودار عمل، فلهذا ادخر الله -سبحانه- رؤيته؛ ادَّخرها لعباده في الدار الآخرة حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرَ ربه في الدنيا عند جمهور العلماء، كما سئل عن ذلك فقال: «رأيت نورًا»، فلم يرَ -عليه الصلاة والسلام- ربه يقظة.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: «اعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت» أخرجه مسلم في صحيحه، فليس أحد يرى ربه في الدنيا أبدًا، لا الأنبياء ولا غيرهم، وإنما يُرى في الآخرة -سبحانه وتعالى-. فعلى المسلم أن يؤمن بهذا، وبكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن أهل الإيمان يدخلون الجنة، ويرون ربهم سبحانه في القيامة، وفي الجنة، كما يشاء سبحانه، وأن الكفار يصيرون إلى النار مخلدين فيها، نعوذ بالله من ذلك، وأنهم عن ربهم محجوبون؛ لا يرونه -سبحانه وتعالى- لا في القيامة ولا في غيرها، بل هم عن الله محجوبون؛ لكفرهم وضلالهم. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (27/ 115- 119).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث:
*منها: بيان رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، وهي مجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، وإنما خالفت فيها الفرق الضالة كالجهمية والمعتزلة.
*ومنها: الرد على الفرق الضالة التي أنكرت الصفات، ورؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، وخالفت نصوص الكتاب والسنة الصحيحة...
*ومنها: أن النظر إلى وجهه الكريم أعظم ما يعطاه العبد من نعيم الجنة، فكل نعيم الجنة دونه. البحر المحيط الثجاج (5/ 113- 114).