«أتيتُ ليلة أُسْرِيَ بي على قوم تُقْرَضُ شِفَاهُهُم بمقاريض من نار، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خُطباء أُمَّتِك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به».
رواه أحمد برقم: (12211) والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (4613) واللفظ له، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (291)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2327).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لَيْلَة»:
اللَّيْلَةُ: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقياس جمعها: لَيْلاتٌ. المصباح المنير، للفيومي (ص: 289).
الليل: هي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، أو إلى طلوع الشمس، وهو خلافُ النهار. التعريفات الفقهية (ص: 189).
«أُسْرِيَ»:
السُّرَى: كالهُدَى: سَيْرُ عامَّةِ اللّيْلِ لَا بَعْضه...، ويكونُ أَوَّلَ الليْلِ وأَوْسَطه وآخِرَه.تاج العروس(38/ 261).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
وسَرَيْتُ سُرىً ومَسْرىً وأَسْرَيْتُ بمعنى: إذا سرتَ ليلاً...، وإنما قال تعالى: {سُبْحانَ الذي أَسْرى بعَبْدِهِ ليلاً} الإسراء:1، وإن كان السُرى لا يكون إلا بالليل للتأكيد. الصحاح (6/ ٢٣٧٦).
«ليلة أُسْرِيَ بي»:
أي: ليلة المعراج. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 168).
«تُقْرَض»:
القَرْض: القطع، يقال: قرضتُ الشيءَ بالْمِقراض، وقَرَضَتِ الفأرةُ الثوب: إذا أكلته. شمس العلوم(8/ 5454).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
القَرض: القطع. قَرضه يقرضه -بالكسر- قرضًا وقرضه: قطعه...، قال الزمخشري: أصلها من القَرض في الأرض وهو قطعها بالسير فيها. لسان العرب(7/ 216-217).
«شِفَاهَهم»:
بكسر الشين: جمع شَفة بالفتح. شرح المصابيح لابن الملك (5/ 231).
شفتا الإنسان: اللحمتان الظاهرتان اللتان تستُرَان الأسنان من أعلى ومن أسفل. معجم المغني، عبد الغني أبو العزم(ص: 15828).
قال الخطابي -رحمه الله-:
لأَنَّهم قَالُوا بأفواههم فَعُوْقِبُوا فيها. غريب الحديث (1/ 309).
«مقاريض»:
هي جمع المِقراض، وهو ما يُقْطَعُ به الظّفر والشّعر، وغيرهما، والمراد بهذا: القوم الذين يأمرون الناس بالبر، ويفعلون خلاف ما يقولون. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 168).
وقال الملا القاري -رحمه الله-:
جمع مِقراض -بكسر الميم-: آلة القطع المعروفة. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(8/ 3221).
شرح الحديث
قوله: «أتيتُ ليلة أُسْرِيَ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ليلة أُسْرِيَ بي» هي ليلة غير معينة، لم يَرِدْ بتعيينها سنة صحيحة، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها -وقد شاع في الناس-: أنها ليلة سابع وعشرين من رجب، ويخُصُّونها بأنواع من القُرْب، وهي من البدع التي شاعت كغيرها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 303).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
هي ليلة غير مُعَيَّنة، واعتقاد الناس أنها ليلة الثامن وعشرين من رجب، ويسمونها ليلة المعراج، لا أصل له فيما أعلم، ثم رأيتُ بعد هذا أنه جزم النووي أنَّ المعراج به -صلى الله عليه وسلم- كان ليلة سبع وعشرين من رجب، قال هذا في السير من الروضة، وفي فتاويه: من ربيع الأول، وفي شرح مسلم: من ربيع الآخر، ذكره عنه في الاصطفاء شرح الشفاء، وقد ذكر ابن القيم: أنها لا تُعرف ليلة المعراج، واختلاف كلام النووي في هذا النقل يدل على ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (9/548- 549).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
اختلف الناس في تاريخ الإسراء؛ فقال ابن الأثير: الصحيح عندي: أنه كان ليلة الاثنين ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة، وبهذا جزم شيخ الإسلام النووي في شرح مسلم، وجزم في فتاويه في كتاب الصلاة بأنه كان في شهر ربيع الأول، وفي سِيَرِ الروضة: أنه كان في شهر رجب، وإنما كان ليلًا لتظهر الخصوصية بين جليس الملك ليلًا، وجليسه نهارًا. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (2/ 80-81).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليلة أُسْرِيَ بي»: بالإضافة إلى الفعل المجهول، وفي نسخة بالتنوين نصبًا على الظرفية، أي: أبصرت ليلة أُسْرِيَ بي فيها.
«بمقاريض»: جمع مِقراض -بكسر الميم-: آلة القطع المعروفة.مرقاة المفاتيح(8/ 3221).
قوله: «على قوم تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ»:
قال السندي -رحمه الله-:
«تُقرَض» على بناء المفعول، أي: تُقْطَع شفاهُهُم، جمع: شفة، أي: أفواههم. حاشية السندي على المسند(3/187).
وقال المظهري -رحمه الله-:
والمراد بهذا: القومُ الذين يأمُرون الناس بالبرِّ، ويَفْعَلُون خلافَ ما يقولون.المفاتيح في شرح المصابيح(5/ 168).
قوله: «بمقاريض من نار»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«بمقاريضَ»: هي جمعُ المِقْرَاض، وهو ما يُقْطَعُ به الظُّفرُ والشّعر وغيرهما.المفاتيح في شرح المصابيح(5/ 168).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مِن نار»: أي: مخلوقة منها.مرقاة المفاتيح(8/ 3221).
قوله: «فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء أُمَّتِك، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله، ولا يعملون به»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقلتُ: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء» إشارة تحقير؛ ولذا أُعِيْد، «خطباء أُمّتِك» أي: علماؤهم ووعاظهم أو شعراؤهم. مرقاة المفاتيح (7/ 3020).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«قلتُ: مَن هؤلاء؟» أي: هؤلاء الرجال بهذا الحال «يا جبريل؟» (من) بيانية. مرقاة المفاتيح(8/ 3221).
وقال ابن عادل -رحمه الله-:
استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبًا، وفي المستقبل يكون خلفًا، وكلاهما مذموم. تفسير اللباب (ص: 4908).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال: «هؤلاء خطباء من أُمَّتِك»، وفي نسخة: «خُطباء أُمَّتِك» أي: علماؤهم ووعَّاظهم ومشايخهم، يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، محطُّ الإنكار الجملة الثانية، وإنما ذكر الجملة الأولى تقبيحًا لسوء أفعالهم وأقوالهم، وتوبيخًا على علومهم المقرونة بترك أعمالهم، كما قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} البقرة: 44، أي: سوء صنيعكم.
وقال -عز وجل-: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف: 3، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للجاهل مرة، وويل للعالم سبع مرات».
وكما ورد في الحديث المشهور: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه». مرقاة المفاتيح (8/ 3221).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الخطباء: جمع خطيب، وهو الذي يَعِظ الناس، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويخالف قوله فعله، و(يخالف) تفسير له في خصوص هذا الحديث، لا مطلقًا، فالتوبيخ بسبب ترك فعل المعروف، لا بسبب الأمر بالمعروف. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 100).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
والمراد بالخطباء: كل من تصدَّى لتعليم العامة، ما طُلب منهم، ونهيهم عما نُهوا، فدخل العالم والواعظ، وغيرهما. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (8/88- 89).
وقال السندي -رحمه الله-:
«هؤلاء خُطباء أُمَّتِك» يدل على أنه ظهر له من صورهم وحالهم، قبل أن يُخلقوا، -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على المسند (3/310).
وقال الخازن –رحمه الله-:
قيل: مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به؛ كالسراج يضيء للناس ويُحْرِق نفسه. وقيل: من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه، وقال بعضهم:
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُسْمَعُ ما تقول ويُقْتَدى ** بالقول منك وينفع التعليم. لباب التأويل في معاني التنزيل(1/ 42).
قوله: «الذين يقولون ما لا يفعلون»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«الذين يقولون» بدل من قوله: «خُطباء»، ويجوز أن يكون صفة له؛ لأنه لا توقيت فيه على عكس قوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّني
ويجوز أن يكون منصوبًا على الذَّمِّ، وهو الأوجه، يتفطن لذلك من رُزق الذّهن السليم، والطبع المستقيم.شرح المشكاة (10/ 3268).
وقال الدردير -رحمه الله-:
«الذين يقولون ما لا يفعلون»، ولما كان القول باللسان والشفة، كانا محل العذاب. حاشية الدردير على قصة المعراج (ص: 14).
وقال يحيى بن هُبَيْرَة -رحمه الله-:
قوله: «يقولون ما لا يفعلون» يجوز أن يكون هذا من قولهم الحق الذي لا يفعلونه، ويجوز أن يكون أنهم يشددون على الأُمّة ويضيقون عليهم رحمة الله الواسعة بما يأمر به الله، وإن أخرجوا ذلك مخرج الوعظ، وأوردوه مورد النصح؛ فشدَّدوا فيه وغَلَوا غُلُوًّا انتهى بهم إلى مثل ما جرى للخوارج وغيرهم. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 99).
وقال محمود السبكي –رحمه الله-:
يدخل في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُوْلُوْا مَاْ لَاْ تَفْعَلُوْنَ} الصف: 3، وقوله: {أَتَأْمُرُوْنَ الْنَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 44، الآية، وأيضًا فإن مقصود من يأمر غيره بالخير إرشاده إلى ما فيه فلاحه شفقة عليه، وليس من الحزم أن يُشْفِقَ الإنسان على غيره ويدع نفسه، وأيضًا كل واعظ يرغب في أن يكون وعظه نافعًا في القلوب مُؤَثِّرًا فيها، وبإقدامه على المعصية تَنْفِرُ القلوب عن قبول وعظه، ففعله يقلب عليه غرضه.
وأيضًا فإن من وعظ الناس ولم يتَّعِظْ يكون سببًا لرغبة الناس في المعصية؛ لأنهم يقولون: إنه مع علمه فعل كذا؛ فلولا أنه مُطَّلِع على رُخْصَة فيه لما أقدم عليه بعد نهيه عنه، فيصير بذلك داعيًا إلى التهاون بالدين والجرأة على المعصية وعدم المبالاة بها، قال علي -رضي الله تعالى عنه-: "قصم ظهري رجلان: عالم مُتَهَتِّك، وجاهل مُتَنَسِّك"، أي: لأن كُلاًّ من هذين فتنة في الدين، فالعالم الْمُتَهَتِّك الذي لا يعمل بعلمه، يُفْتَنُ الناس بفعله؛ لأن اقتداءهم بفعل العالم ربما يكون أكثر من اقتدائهم بقوله، والجاهل الْمُتَنَسِّك المنقطع للعبادة على جهل يُفْتَنُ الناس بجهله؛ فإنه لِتَنَسُّكِهِ تميل الناس إليه ويقتدون به؛ فيعم جهله كل من اقتدى به.
وروى ابن مردويه أن رجلًا قال: يا ابن عباس! إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: أَبَلَغْتَ ذلك؟ قال أرجو، قال: إن لم تَخْشَ أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُوْنَ الْنَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 44، أحكمت هذه؟ فقال: لا، قال فالحرف الثاني؟ قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُوْلُوْنَ مَاْ لَاْ تَفْعَلُوْنَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُوْلُوْا مَاْ لَاْ تَفْعَلُوْنَ} الصف:2-3، أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟، قال: قول العبد الصالح شعيب -عليه السلام-: {وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ أُخَاْلِفَكُمْ إِلَىْ مَاْ أَنْهَاْكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيْدُ الْإِصْلَاْحَ مَاْ اسْتَطَعْتُ} هود: 88، أحكمت هذه؟ قال: لا! قال: فابدأ بنفسك. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود(8/ 208).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي –حفظه الله-:
هذا فيه الوعيد الشديد على من كان يقول الخير ويأمر به ولا يفعله، وقوله: «تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بمقاريض من نار» هذا وعيد شديد يدل على أن هذا من الكبائر، والله تعالى نهى من يقول ولا يفعل، قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُوْنَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُوْنَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} البقرة:44، أنكر على اليهود كونهم يأمرون الناس بالخير وينسون أنفسهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} الصف:2-3.
وقال سبحانه عن نبيه شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}هود:88، وجاء في الحديث: «أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتَنْدَلِقُ أَقْتَاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون له: ما لك يا فلان؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه»، وهذا يدل على الوعيد الشديد، وأن من يأمر بالخير وينسى نفسه، ويخالف قوله فعله؛ فإن عليه هذا الوعيد الشديد، وقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب. شرح صحيح ابن حبان - الراجحي (3/ 11، بترقيم الشاملة آليا).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«هؤلاء خطباء أُمَّتِك الذين يقولون ما لا يفعلون»، ومن هذا الوجه ورد: «إن طول صلاة الرّجل وقِصر خُطبته مئنّة من فقهه». لمعات التنقيح(8/ 132).
قوله: «ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به»:
قال الشيخ سعيد بن علي القحطاني -رحمه الله-:
لا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه، بل يتعدّى إلى كل من يدعوهم.
وإن مما يذكر في هذا الشأن: أن انحراف الداعية وخروجه عن النهج الصحيح هو في الوقت نفسه سببٌ في انحراف كل من تأثَّر به أو سمع منه، وما ذلك إلا بسبب أن سلوك الداعية وتصرفاته كلها مرصودة من قِبَل الناس، وجميع أفعاله وأقواله موضوعة تحت المجهر.
فَلْيَحْتَطِ الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله.. وَلْيُرِ الله تعالى من نفسه خيرًا. مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة (ص:312).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:
اعلم أن كُلًّا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، أنه حمار من حمر جهنم، يَجُرُّ أمعاءه فيها.
وقد دلَّ القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضًا.
أما السُّنة المذكورة فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يُجَاءُ بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فَتَنْدَلِق أقتابه، فيدور بها في النار، كما يدور الحمار بِرَحَاهُ، فيطيف به أهل النار، فيقولون: أي فلان، ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنتُ آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.
ومعنى تَنْدَلِقُ أقتابه: تَتَدَلَّى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيتُ ليلة أُسْرِيَ بي رجالًا تُقْرَضُ شفَاهُهُم بمقاريض من نار، كلما قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فقلتُ لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أُمَّتِك، كانوا يأمرون الناس بالْبِرِّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون» أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان، وابن مردويه والبيهقي، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس، إني أُرِيْدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أَوَبَلَغْتَ ذلك؟ فقال: أرجو، قال: فإن لم تَخْشَ أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 44، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف: 3، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} هود: 88. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه، وابن عساكر، نقله عنهم أيضًا الشوكاني وغيره.
واعلم أن التحقيق: أن هذا الوعيد الشديد الذي ذُكِرَ من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالِمًا بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح، ولا طالح، والوعيد على المعصية، لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ، وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وقال الآخر:
وَغَيْرُ تَقَيٍّ يَأمُرُ النَّاسَ بالتُّقَى *** طَبِيْبٌ يُدَاوِيْ النَّاسَ وَهْوَ مَرِيْضُ
وقال الآخر:
فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ *** بِهِ تُلْفِ مَنْ إِيَّاهُ تَأمُرُ آتِيَا
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضًا، فهي قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} المدثر: 49-51.
والعبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكِّر -بالكسر والمذكَّر بالفتح- أن يعملا بمقتضى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم. أضواء البيان(2/ 204-206).
وقال جلال الدين الشيزري -رحمه الله-:
وأول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، ولا يكون قوله مخالفًا لفعله، فقد قال الله -عز وجل- في ذَمِّ علماء بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 44.
وروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيتُ ليلة أُسْرِيَ بي رجالًا تُقْرَضُ شفَاهُهُم بالمقاريض، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أُمَّتِك الذين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم».
وقال الله -عز وجل- مخبرًا عن شعيب -عليه السلام- لما نهى قومه عن بخس الموازين، ونقص المكاييل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} هود: 88، ولا يكون المحتسب كما قال ابن همام السلولي:
إذَا نُصِبُوا لِلْقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا *** وَلَكِنَّ حُسْنَ الْقَوْلِ خَالَفَهُ الْفِعْلُ
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا، وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا *** أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا يَدُرُّ لَهَا ثَعْلُ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ، وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ. نهاية الرتبة في طلب الحسبة (ص: 6-7).
وقال أبو يعلى الفراء -رحمه الله-:
والأولى أن يكون الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر من أهل السنن والعدالة والقبول عند الناس؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة رهبه المأمور، وربما استجاب إليه، ورجع إلى قوله، تعظيمًا لله سبحانه، ولدينه؛ ولأن من هذه صفته، كلامه أوقع في النفوس، وأقرب إلى القلوب، وإذا كان يخالف ما يأمر به، وينهى عنه، قيل له: مر على نفسك، وانهها، وربما صار ذلك ذريعة إلى الإيقاع به، وقد قال سبحانه في صفة نبيه: {وَمَا أُرِيْدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} هود: 88.
وقد روي في تغليظ من نهى عن منكر وهو فاعله، ما رواه أبو عبيد في كتابه بإسناده عن أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فَتَنْدَلِق أقْتَابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى، فيقال له: ما لك؟ فيقول: إني كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».
قال أبو عبيد: القَتَب: ما يكون في البطن من الحوايا. قال: وأما الأمعاء فإنها الأقصاب، واحدها: قُصْبٌ.
قال أبو عبيد: وأما قوله: «فَتَنْدَلِق أقتاب بطنه»؛ فإن الاندلاق خروج الشيء من مكانه، أو كل شيء ندر خارجًا: فقد انْدَلَقَ.
ومنه: قيل للسيف: انْدَلَقَ من جفنه إذا شَقَّه حتى خرج منه، وليس هذا القول منعًا للفاسق من إنكار المنكر، بل يجب على الفاسق أن ينكر ما يرى من المنكر مع القدرة؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا».
ولأن الفاسق إذا شاهد المنكر كان بمثابة من وجب عليه فرضان: التوبة، وإنكار المنكر، فإذا امتنع عن أحدهما وهو التوبة، وأتى بالآخر وهو الأمر بالمعروف، وجب أن نحكم بصحته، كمن وجبت عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، فأتى بأحدها، وامتنع عن الآخر، حكم بصحة ما أتى به. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص: 56-58).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا ينتفع به، وهذا بمنزلة من يصف له الطبيب دواء لمرض به مثله، والطبيب معرض عنه غير ملتفت إليه، بل الطبيب المذكور عندهم أحسن حالًا من هذا الواعظ المخالف لما يعظ به؛ لأنه قد يقوم دواء آخر عنده مقام هذا الدواء، وقد يرى أن به قوة على ترك التداوي، وقد يقنع بعمل الطبيعة، وغير ذلك؛ بخلاف هذا الواعظ، فإن ما يعظ به طريق معين للنجاة لا يقوم غيرها مقامها، ولا بد منها، ولأجل هذه النفرة قال شعيب -عليه السلام- لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} هود: 88.
وقال بعض السلف: إذا أردت أن يُقْبَلَ منك الأمر والنهي؛ فإذا أمرت بشيء فكُنْ أول الفاعلين له، المؤتمرين به، وإذا نهيت عن شيء، فَكُنْ أول المنتهين عنه. مدارج السالكين (1/ 445).