عن أبي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظَّعْنُ، قال: «احْجُجْ عن أبيك واعتمر».
رواه أبو داود برقم: (1810)، واللفظ له. ورواه أحمد برقم: (16190)، والترمذي برقم: (930)، والنسائي برقم: (2637) بلفظ: «حُجَّ عن أبيك واعتمر».
صحيح الجامع برقم: (188 ، 3127)، صحيح سنن النسائي برقم: (2473).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الظَّعْنُ»:
بفتح ظاء، وسكون عين وحركتها: الراحلة، أي: لا يقوى على السير، ولا على الركوب من كِبَرِ السن. مجمع بحار الأنوار (3/ 487).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الظَّعْنُ»: الذهابُ، يعني: لا يستطيعُ أن يفعلَ أفعالَ الحَجِّ والعمرة، ولا يستطيع الذهابَ، ويحتملُ: أن يريدَ بقوله: «ولا الظَّعْنَ»: ركوبَ الدابَّةَ؛ لأنه قد جاء الظَّعْنُ والاضطعان بمعنى: ركوبِ الدَّابَّة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 263).
شرح الحديث
قوله: «يا رسول الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعْن»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر، وهو أبو رزين -بفتح الراء، وكسر الزاي- العقيلي بالتصغير، واسمه: لقيط بن عامر، ففي السنن وصحيح ابن خزيمة وغيرهما من حديثه أنه قال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: حج عن أبيك واعتمر».
وهذه قصة أخرى، ومن وحَّد بينها وبين حديث الخثعمي فقد أبعد وتكلَّف. فتح الباري (4/ 68 - 69).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «لا يستطيع الحج ولا العمرة» أي: لا يستطيع أفعالهما، «ولا الظعن» أي: الذهابَ أو ركوب الدابة. شرح المصابيح (3/ 247).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«الظَّعْن» -بفتح الظاء وسكون العين-: الرحلة، وكذلك بالتحريك.
وذكر ذلك على وجه البيان للحال التي انتهى إليها من كبر السن، أي: لا يقوى على السير، ولا على الركوب.
أقول: يمكن أن يُكنَّى به عن القوة، ويراد بنفي الاستطاعة عدم الزاد والراحلة، كأنه قال: ليس له زاد ولا راحلة ولا قوة، بعد أن وجب عليه الحج.
يحتمل: أن يريد بقوله: «لا يستطيع الحج والعمرة» الذهاب إليهما راجلًا، وبالظعن: ركوب الدابة. شرح المشكاة (6/ 1947).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا الظَّعْن» يعني: الارتحال، قال الله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} النحل: 80، والمعنى: لا يستطيع أن يثبت على الراحلة في السفر، ولا يستوي على ظهرها. شرح سنن أبي داود (8/ 380-381).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ولا الظَّعَن» -بفتحتين، أو سكون الثاني، والأولى معجمة، والثانية مهملة-: مصدر ظَعَنَ يَظْعُنُ -بالضم-: إذا سافر، وفي المجمع مجمع بحار الأنوار: الظَّعْنُ: الراحلة، أي: لا يقوى على السير، ولا على الركوب من كبر السن.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/213).
وقوله: «احْجُجْ عن أبيك واعتمر»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
الخطاب لراويه أبي رَزِين «عن أبيك» أي: الذي ضَعُف عن أداء فريضة الحج، أو الذي مات ولم يحج، كما دل على التقييد أحاديث أُخَر. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 330).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال الشيخ ولي الدين العراقي: في هذا رد على ابن بشكوال، حيث قال في مهماته في حديث أن رجلًا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: «أبوك في النار» أنه أبو رَزِين العُقيلي، فإن مقتضاه أن أباه كان كافرًا محكومًا له بالنار، وهذا الحديث يدل على أنه مسلم مخاطب بالحج. حاشية السيوطي على سنن النسائي (5/ 111).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«حُجَّ» يا أبا رَزِين «عن أبيك» عقيل الذي كَبُرَ، «واعتمر» عنه، أما الصحيح فلا يحج عنه لا في فرض ولا نفل، كما قال الشافعي، وجوَّزه أبو حنيفة وأحمد في النفل.
ثم هذا الحديث مخصوص بمن حج عن نفسه، كما يفيده الخبر الآتي، وحمله الحنفية على عمومه، فأجازوا حج من لم يحج نيابة عن غيره.
وفيه: تأكيد أمر الحج حتى المكلف لا يُعْذَرُ بتركه عند عجزه عن من يستنيب.
وفيه: وجوب العمرة، وأما خبر جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن العمرة أهي واجبة؟ فقال: «لا، وأن تعتمر خير لك» فضعيف، قال في المجموع: وقول الترمذي: حسن صحيح غير مقبول؛ فإن مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف مدلس اتفاقًا. فيض القدير (3/374).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فيه: دليل على جواز النيابة في الحج. شرح المشكاة (6/ 1947).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: دليل على جواز النيابة عن المعضوب الحي في حج الفرض، وكذا التطوع على الصحيح، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد؛ لأن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت في نفلها كالصدقة.
وأما قول بعضهم: إنما جازت الاستنابة في الفرض إلا للضرورة، فلا يجوز في النفل. وينكر هذا بالتيمم؛ فإنه جوز في الفرض للحاجة، ويجوز أيضًا في النفل.
«واعتمر» فيه: دليل على جواز النيابة في العمرة عن الحي المعضوب، كما يجوز عن الحج. شرح سنن أبي داود (8/381).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«حج عن أبيك» فيه: جواز الحج عن الغير، واستدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور، فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة، وغيره من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يلبي عن شُبرمة، فقال: «أَحَجَجْتَ عن نفسك؟ فقال: لا. قال: حُجَّ عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة» كذا في الفتح.
قلت: الظاهر الراجح هو قول الجمهور، -والله تعالى أعلم-.
«واعتمر» استَدَلَّ به من قال بوجوب العمرة، قال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا، ولا أصح منه. تحفة الأحوذي (3/581).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«حج» بالحركات في الجيم، والفتح هو المشهور «عن أبيك» الذي كبر، وفيه: دليل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز.
وقال المحب الطبري: فيه أبين البيان على جواز حج الإنسان عن الحي الذي لا يستطيع الحج بنفسه، وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله -عز وجل- إنما أراد بقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} النجم: 39 بعض الأعمال دون بعض.
وقيل: إن الآية عامة خصها هذا الحديث وأمثاله.
وقيل: إن ولد الرجل من كسبه كما ورد في بعض الآثار، وعليه فالآية عامة، وحج الولد عن أبيه متناول لها، وقد تقدم بسط الكلام في مسألة النيابة بالحج في شرح حديث الخثعمية، وفي شرح حديث الزاد والراحلة.
«واعتمِر» استدل به من قال بوجوب العمرة، وقد ذهب إلى وجوبها جماعة من أهل الحديث، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وبه قال إسحاق والثوري، والمزني.
قال أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه.
وأُجيب عنه بما قال السندي: لا يخفى أن الحج والعمرة عن الغير ليسا بواجبين على الفاعل، فالظاهر: حمل الأمر على الندب، وحينئذٍ دلالة الحديث على وجوب العمرة خفاؤها لا يخفى - انتهى.
وبما ذكر الشنقيطي أن صيغة الأمر في قوله: «واعتمِر»، واردة بعد سؤال أبي رَزِين، وقد قرَّر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال إنما تقتضي الجواز، لا الوجوب؛ لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز، والخلاف في هذه المسألة معروف - انتهى.
والمشهور عن المالكية: أن العمرة ليست بواجبة، وهو قول الحنفية.
واستدل القائلون بالوجوب أيضًا: بما روي عن عمر في سؤال جبريل عن الإسلام، وفيه: «وأن تحج وتعتمر» أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني وغيرهم.
وأجيب عن هذا: بأن الأمر مجرَّد اقتران العمرة بالأمور الواجبة المذكورة في الحديث لا يكون دليلًا على الوجوب لما تقرَّر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران، لا سيما وقد عارضه ما سيأتي من الأدلة القاضية بعدم الوجوب.
فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام يدل على الوجوب. فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجبًا، والدليل على ذلك: حديث شعب الإسلام والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع.
واستدلوا أيضًا: بما رواه ابن عدي والبيهقي عن جابر مرفوعًا: «الحج والعمرة فريضتان»، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء عن جابر، وأخرجه أيضًا الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بزيادة: «لا يضرك بأيهما بدأت».
وأُجيب عنه: بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وفي الحديث أيضًا انقطاع، ورواه البيهقي موقوفًا على زيد.
قال الحافظ: وإسناده أصح.
واستدلوا أيضًا: بحديث عائشة عند أحمد وابن ماجه: «قالت: يا رسول الله، أَعَلَى النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة». وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث.
وأُجيب عنه: بأن لفظة: «عليهن» ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملًا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة لزم طلب الدليل بأمر خارج، وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة، وبحديث الصبي بن معبد، قال: أتيت عمر فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، فقال عمر: هُدِيْتَ لِسُنَّة نبيك -صلى الله عليه وسلم-.
وبحديث عمرو بن حزم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابًا، وبعث به عمروَ بن حزم، وكان في الكتاب: «أن العمرة هي الحج الأصغر» أخرجه الدارقطني والأثرم.
وبحديث ابن مسعود المتقدم بلفظ: «تابعوا بين الحج والعمرة»، وقد تقدم الجواب عنه.
واستأنسوا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة: 196.
قال ابن قدامة: ومقتضى الأمر الوجوب، ثم عطفها على الحج، والأصل: التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال ابن عباس: إنها لقرينة الحج في كتاب الله.
وفيه: أن لفظ الإتمام مُشْعِر بأنه إنما يجب بعد الإحرام لا قبله.
ويدل على ذلك: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن يعلى بن أمية، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة، عليه جٌبَّةٌ وعليها خلوق، فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} البقرة: 196، والسائل قد أحرم، وإنما سأل كيف يصنع؟ وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام الحج والعمرة ولو أفسدهما.
قال ابن القيم: وليس في الآية فرضها، وإنما فيها إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج، واستدل القائلون بعدم الوجوب بما رواه الترمذي وصححه وأحمد والبيهقي وغيرهم عن جابر: أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أخبرني عن العمرة أَوَاجِبَةٌ هي؟ فقال: «لا، وأن تعتمر خير لك»، وفي رواية: «أولى لك».
وأُجيب عنه: بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وتصحيح الترمذي له فيه نظر؛ لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، واتفقوا على أنه مدلس، على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط، وقد نبَّه صاحب الإمام على أنه لم يزد على قوله: حسن، في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي، وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه.
ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه ابن عدي من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن أبي صالح، وأبو عصمة قد كذبوه.
وفي الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني، وابن حزم، والبيهقي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الحج جهاد، والعمرة تطوع»، وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ.
وعن طلحة عند ابن ماجه بنحوه بإسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي. قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء.
قال الشوكاني: وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: «من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة».
قلت: ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه، اختلف العلماء في ذلك سلفًا وخلفًا، فذهب عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي إلى وجوبها. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهما، واختاره البخاري في صحيحه.
وروي عن ابن مسعود: أن العمرة ليست واجبة، وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي وأحمد، واختيار ابن تيمية.
وقال الشوكاني بعد ذكر أدلة الفريقين: والحق عدم وجوب العمرة؛ لأن البراءة الأصلية لا يُنْتَقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضادها بما تقدم من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره -صلى الله عليه وسلم- على الحج في حديث: «بني الإسلام على خمس»، واقتصار الله -جل جلاله- على الحج في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} آل عمران: 97.
قلت: ويؤيده أيضًا: قوله -صلى الله عليه وسلم- للذي قال: لا أزيد عليهن ولا أنقص: «لئن صدق ليدخُلَنَّ الجنة».
وقال شيخنا الأجل المباركفوري بعد ذكر دلائل وجوب العمرة: والظاهر هو وجوب العمرة، -والله أعلم-.
وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام الشوكاني: الذي يظهر لي: أن ما احتج به كل واحد من الفريقين لا يَقِلُّ عن درجة الحسن لغيره، فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني رجَّح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية: ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب؛ وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر الْمُبْقِي على البراءة الأصلية.
الثاني: أن جماعة من أهل الأصول رجَّحوا الخبر الدال على الوجوب على الخبر الدال على عدمه، ووجه ذلك: هو الاحتياط في الخروج من عُهْدة الطلب.
الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب بَرِئَتْ ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها، ولو مَشَيْتَ على أنها غير واجبة فلم تُؤَدِّها على سبيل الوجوب بَقِيْتَ مطالبًا بواجب على قول جمع كثير من العلماء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «دع ما يربيك إلى ما لا يربيك»، ويقول: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله - انتهى.
واستدل بإطلاق الحديث على صحة حجة من لم يحج نيابة عن غيره. مرعاة المفاتيح (8/ 405- 408).
وقال ابن التركماني -رحمه الله-:
حديث: «احْجُجْ عن أبيك واعتمر»، قلتُ: لا دلالة فيه على وجوب العمرة؛ لأنه أمر الولد أن يحج عن أبيه ويعتمر، ولا يجبان على الولد عن أبيه. الجوهر النقي (4/ 350).
وقال القاري -رحمه الله-:
وأجابوا عن حديث أبي رزين بأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما أمره بأن يحج ويعتمر عن أبيه، وحجه واعتماره عن أبيه ليس بواجب، مع أن قول أبي رزين: «لا يستطيع الحج ولا العمرة» يقتضي عدم وجوبها على أبيه، فيكون الأمر في حديث أبي رزين للاستحباب، كذا ذكره الشُّمني. مرقاة المفاتيح (5/ 1751).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
فدل هذا على أن الرجل يحج ويعتمر عن غيره.
وهذا من الأدلة التي يُسْتَدَلُّ بها على وجوب العمرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «حُجَّ عن أبيك واعتمر»، وذلك عندما ذكر له أنه لا يستطيع الحج والعمرة.
فأمره أن يحج عن أبيه ويعتمر، فدل ذلك على وجوب العمرة، وقد مر بنا حديث الصبي بن معبد، وفيه: أنه كان نصرانيًا فأسلم، وأنه كان يحب الجهاد، ولكنه وجد أن الحج والعمرة مكتوبين عليه، فجاء إلى رجل من قومه، فأرشده أن يجمع بينهما -أي: بين الحج والعمرة-، فجاء إلى عمر -رضي الله عنهُ وأرضاه-، وذكر له القصة، فقال له: هُدِيْتَ لِسُنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث هو أقوى ما يُسْتَدَلُّ به على وجوب العمرة.
وقد جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: هذا أصح شيء جاء في وجوب العمرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحديث مطابق للترجمة من جهة أن يحج الرجل عن غيره.
فهذا يدل على أن للإنسان أن يحج عن غيره، وهذا إذا كان ميتًا، وأما إذا كان حيًا، فيجوز ذلك في حالتين اثنتين:
إحداهما: أن يكون هَرِمًا كبيرًا لا يستطيع السفر، كما جاء في هذا الحديث، وحديث الخثعمية السابق.
والثانية: أن يكون مريضًا مرضًا لا يُرْجَى بُرْؤه، وهو في معناه. شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعًا، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حِجَّة الإسلام، وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه. المغني (5/ 22).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
اتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضَب، فلا يدخل المريض؛ لأنه يُرْجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه تُرْجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يُرْجى خلاصُه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه. فتح الباري (4/ 70 ).
وقال العظيم آبادي -رحمه الله-:
الحديث يدل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز عن المشي، واستُدِلَّ به على وجوب الحج والعمرة.
وقد جزم بوجوب العمرة جماعة من أهل الحديث، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وبه قال إسحاق والثوري والمزني، والمشهور عن المالكية: أن العمرة ليست بواجبة، وهو قول الحنفية، ولا خلاف في المشروعية. عون المعبود (5/173).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
توكيل الإنسان من يحج عنه لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون ذلك في فريضة.
والحال الثانية: أن يكون ذلك في نافلة، فإن كان ذلك في فريضة، فإنه لا يجوز أن يوكل غيره ليحج عنه ويعتمر، إلا إذا كان في حال لا يتمكن بنفسه من الوصول إلى البيت لمرض مستمر لا يُرْجى زواله، أو لِكِبَرٍ، ونحو ذلك، فإن كان يُرْجَى زوال هذا المرض فإنه ينتظر حتى يعافيه الله، ويؤدي الحج بنفسه، وإن لم يكن لديه مانع من الحج، بل كان قادرًا على أن يحج بنفسه، فإنه لا يحل له أن يوكل غيره في أداء النسك عنه؛ لأنه هو المطالب به شخصيًا، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران: 97.
فالعبادات يُقْصَد بها أن يقوم الإنسان بنفسه فيها؛ ليتم له التعبد والتذلل لله -سبحانه وتعالى-، ومن المعلوم أن من وكل غيره، فإنه لا يحصل على هذا المعنى العظيم الذي من أجله شُرِعَت العبادات.
وأما إذا كان الموكل قد أدى الفريضة، وأراد أن يوكل عنه من يحج أو يعتمر، فإن في ذلك خلافًا بين أهل العلم: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، والأقرب عندي: المنع، وأنه لا يجوز لأحد أن يوكل أحدًا يحج عنه، أو يعتمر إذا كان ذلك نافلة؛ لأن الأصل في العبادات أن يقوم بها الإنسان بنفسه، وكما أنه لا يوكل أحدًا يصوم عنه، مع أنه لو مات وعليه صيام فرض صام عن وليُّه، فكذلك في الحج، والحج عبادة يقوم فيها الإنسان ببدنه، وليست عبادة مالية يقصد بها نفع الغير، وإذا كان عبادة بدنية يقوم الإنسان فيها ببدنه فإنها لا تصح من غيره عنه، إلا فيما وردت به السنة، ولم ترد السنة في حج الإنسان عن غيره حج نفل، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله-، أعني: أن الإنسان لا يصح أن يوكل غيره في نفل حج أو عمرة سواءً كان قادرًا أو غير قادر.
ونحن إذا قلنا بهذا القول صار في ذلك حثٌّ للأغنياء القادرين على الحج بأنفسهم؛ لأن بعض الناس تمضي عليه السنوات الكثيرة ما ذهب إلى مكة، اعتمادًا على أنه يوكل من يحج عنه كل عام، فيفوته المعنى الذي من أجله شُرِعَ الحج، بناء على أنه يوكل من يحج عنه. مجموع الفتاوى (21/136).
وقال محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله-:
لا بأس بالحج عن الميت، وعن المرأة والرجل إذا بلغا من الكبر ما لا يستطيعان أن يَحُجَّا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا -رحمهم الله تعالى-. الموطأ (2/ 355).
وقال ابن عابدين -رحمه الله-:
حج الفرض يقبل النيابة عند العجز فقط، لكن بشرط دوام العجز إلى الموت؛ لأنه فرض العمر، حتى تلزم الإعادة بزوال العذر، وبشرط نية الحج عنه، أي: عن الآمر، فيقول: أحرمتُ عن فلان، ولبَّيْتُ عن فلان، ولو نسي اسمه فنوى عن الآمر صح، وتكفي نية القلب، واشتراط دوام العجز إلى الموت إذا كان العجز كالحبس ومرض يُرْجَى زواله، وإن لم يكن كذلك، كالعمى والزمانة سقط الفرض بحج الغير عنه، فلا إعادة مطلقًا، سواء استمر به ذلك العذر أم لا.
ولو أحج عنه وهو صحيح ثم عجز، واستمر لم يُجْزِهِ لفقد شرطه.
وبشرط الأمر به، أي: بالحج عنه، فلا يجوز حج الغير بغير إذنه إلا إذا حج أو أَحَجَّ الوارث عن مورثه. الدر المختار (2/658- 659).