«مَن صلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قبلتَنا، وأكلَ ذبيحتَنا، فذلك المسلمُ الذي له ذمةُ اللهِ وذمةُ رسولِه، فلا تُخفِروا اللهَ في ذمتِهِ».
رواه البخاري برقم: (391)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ذِمَّة»:
الذِّمة والذِّمام: هما بمعنى العهد والأمان والضمان، والحرمة والحق. وسمي أهل الذمة؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. النهاية، لابن الأثير (2/ 168).
«تُخفِروا»:
بالضم من الرباعي (أخفر) أي: لا تغدروا (وبفتح التاء وكسر الفاء من خفر الثلاثي من باب ضرب). فتح الباري، لابن حجر (1/ 496).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
يُقال: خفرتُ الرجل: أجرتُه وحفظتُه، وخفرتُه: إذا كنتُ له خفيرًا، أي: حاميًا وكفيلًا، وتخفَّرتُ به: إذا استجرتُ به، والخفارة -بالكسر والضم-: الذِّمام، وأخفرتُ الرجل: إذا نقضت عهده وذِمامه، والهمزة فيه للإزالة؛ أي: أزلت خِفارته. النهاية في غريب الحديث والأثر(2/ 52).
شرح الحديث
قوله: «مَن صلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قبلتَنا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«مَن صلى صلاتنا» أي: مَن صلى صلاة مثل صلاتنا، وهذه الصلاة لا توجد إلا من مسلم؛ لأن أهل الكتاب يصلون، ولكن لا يصلون مثل صلاتنا، وغير أهل الكتاب لا يصلون.
«واستقبل قبلتنا» أي: توجَّه إلى الكعبة في الصلاة، وهذا بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، واستقبال الكعبة أيضًا علامة الإسلام؛ لأنه لم يستقبل الكعبة أهل الكتاب. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 79).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«مَن صلى صلاتنا» قالوا: أي صلى كما نصلي، ولا يوجد ذلك إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومَن اعترف بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى، فلهذا جعل الصلاة عَلَمًا لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين؛ لأنهما داخلتان في الصلاة، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته؛ ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا، كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 454).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وصلى صلاتنا» أي: الخمس المفروضة علينا، وهي لا تتم إلا بجميع صفاتها وهيئاتها، ومنها: استقبال القبلة، فقوله: «واستقبل قبلتنا» ذكر لأعظم واجبات الصلاة عناية بشأنه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 175).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«مَن صلى صلاتنا» أي: داوم على الإتيان بها بشروطها، والمراد من الصلاة المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلًا، وإن صدق عليها اسم الصلاة. والإضافة في «صلاتنا» قيد لإخراج أصحاب الديانات الأخرى؛ الذين يصلون صلاة ليست كصلاتنا في الهيئة والأركان والشروط، ففي الكلام تشبيه بليغ حذف منه الوجه والأداة.
«واستقبل قبلتنا» في صلاته، وهي الكعبة، فالحديث بعد تحويل القبلة عن بيت المقدس، وبعد تشنيع اليهود عن تحويلها، والجملة من قبيل عطف الخاص على العام، تعظيمًا للخاص، واهتمامًا به، وإلا فاستقبال القبلة داخل في الصلاة؛ لأنه شرط من شروطها. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 88).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
هذا يدل على تعظيم شأن القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومَن ترك القبلة متعمدًا فلا صلاة له، ومَن لا صلاة له فلا دين له. شرح صحيح البخاري (2/ 53).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قالوا: هذا دليل على أن مَن لم يصلِّ صلاتنا، ولم يستقبل قبلتنا فليس بمسلم. التمهيد (3/ 322).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
إنما لم يذكر سائر الأركان استغناء بالصلاة التي هي عنوان الإسلام، وإيذانًا بأن الواجب أن يُكتفى بما يظهر من طلاء الدين (ظاهر الدين) وأمارات الإيمان، وتفوّض سرائرهم إلى عالم الغيوب.
وأضاف الصلاة احترازًا عن صلاة اليهود والنصارى وسائر أرباب الملل، وإنما ذكر استقبال القبلة -والصلاة متضمنة لها-؛ لأنه أعرف وأشهر، فإن كل أحد يعرف قبلتهم، ولا كذلك صلاتهم، وإن قبلتنا لا تلابس قبلتهم، والصلاة تتشابه في كثير من أعمالها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 47).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«مَن صلى صلاتنا»... لم يتعرض للزكاة وغيرها من الأركان استغناءً بالصلاة التي هي عنوان الدين، أو لتأخر وجوب تلك الفرائض عن زمان صدور هذا القول.
«واستقبل قبلتنا» وإنما ذكر الاستقبال مع أن صلاتنا مشروطة به؛ ترغيبًا للناس عليه لاحتمال صدور الحديث وقت تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو لأن صلاتنا تشابه صلاة غيرنا في كثير من أعمالها، وقبلتنا ليست كذلك. شرح المصابيح (1/ 37).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد دل هذا الحديث على أن الدم لا يعصم بمجرد الشهادتين، حتى يقوم بحقوقهما، وآكد حقوقهما الصلاة؛ فلذلك خصها بالذكر، وفي حديث آخر أضاف إلى الصلاة الزكاة.
وذكر استقبال القبلة إشارة إلى أنه لا بد من الإتيان بصلاة المسلمين المشروعة في كتابهم المنزل على نبيهم، وهي الصلاة إلى الكعبة، وإلا فمَن صلى إلى بيت المقدس بعد نسخه كاليهود أو إلى المشرق كالنصارى؛ فليس بمسلم، ولو شهد بشهادة التوحيد.
وفي هذا دليل على عظم موقع استقبال القبلة من الصلاة؛ فإنه لم يذكر من شرائط الصلاة غيرها، كالطهارة وغيرها. فتح الباري (3/ 56- 57).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «صلاتنا» منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف، أي: مَن صلى صلاة كصلاتنا. عمدة القاري (4/ 125).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«مَن صلّى صلاتنا» أي: مَن صلّى صلاة كصلاتنا المتضمنة للإقرار بالشهادتين «واستقبل قبلتنا» المخصوصة بنا. إرشاد الساري (1/ 410).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«وصَلَّوا» إلى آخره، خُصَّت بالذِّكر من بين سائرِ الأركان، وواجباتِ الدِّين؛ لأنَّها أظهرُ وأعظمُ وأسرعُ عِلْمًا؛ لأَنَّ في اليوم تُعرف صلاةُ الشَّخص وطعامُه غالبًا، والصَّوم إنَّما يُعلَم في السَّنة، وكذا الحَجُّ يتأخر سنين، وقد لا يَجبُ أصلًا. اللامع الصبيح (3/ 133).
قوله: «وأكل ذبيحتَنا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«وأكل ذبيحتنا» أي: مذبوحتنا، وهي فعيلة بمعنى المفعول، والتاء للجنس كما في الشاة، وقيل: للتأنيث؛ لأنه لم يذكر موصوفها معها. شرح المصابيح (1/ 37).
قال المظهري -رحمه الله-:
«وأكل ذبيحتنا»... يعني: مَن أكل لحم ما ذبحه المسلمون من الشاة والبقر والإبل وغيرها مما يحل أكله، فهو مسلم، والمراد بهذا: أهل الكتاب؛ لأنهم هم الذين لا يأكلون ذبيحتنا، ويعتقدون تحريم ما ذبحه المسلمون، فإذا أكلوا ذبيحة المسلمين، واعتقدوا حِلَّه، فهو دليل إسلامهم.
وأما غير أهل الكتاب لم يكن أكلهم ذبيحة المسلمين دليل إسلامهم؛ لأنهم لم يعتقدوا تحريم ذبيحة المسلمين، ولم يمتنعوا من أكل ذبيحة المسلمين، فلم يكونوا تاركين لدينهم بأكلهم ذبيحة المسلمين، بخلاف أهل الكتاب. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 79- 80).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره عبادة، أعقبه بذكر ما يميزه عبادة وعادة، فقال: «وأكل ذبيحتنا»؛ فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العبادات، فكذلك من العادات الثابتة في كل ملة.
أقول -والله أعلم-: إذا أُجري الكلام على اليهود سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأن اليهود خصوصًا يمتنعون عن أكل ذبيحتنا، وهم حين حولت القبلة شنعوا بقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} البقرة: 142 أي: صلوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة؛ لأنه من باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه وما هو مهتم بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضًا عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 454).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وذكره أكل ذبيحة المسلمين، فيه إشارة إلى أنه لا بد من التزام جميع شرائع الإسلام الظاهرة، ومن أعظمها أكل ذبيحة المسلمين، وموافقتهم في ذبيحتهم، فمَن امتنع من ذلك فليس بمسلم.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمتحن أحيانًا مَن يدخل في الإسلام، وقد كان يرى في دينه الأول الامتناع من أكل بعض ذبيحة المسلمين، بإطعامه مما كان يمتنع من أكله؛ ليتحقق بذلك إسلامه.
فروي أنه عرض على قوم -كانوا يمتنعون في جاهليتهم من أكل القلب، ثم دخلوا في الإسلام- أكلَ القلب، وقال لهم: «إن إسلامكم لا يتم إلا بأكله».
فلو أسلم يهودي، وأقام ممتنعًا من أكل ذبائح المسلمين، كان ذلك دليلًا على عدم دخول الإسلام في قلبه، وهذا الحديث يدل على أنه لا يصير بذلك مسلمًا، ويشهد لذلك: قول عمر فيمَن أسلم من أهل الأمصار، وقدر على الحج ولم يحج: أنه هَمَّ بضرب الجزية عليهم، وقال: ما هم بمسلمين. وحكي عن الحسن بن صالح: أن المسلم إذا أسلم بدار الحرب، وأقام بها مع قدرته على الخروج، فهو كالمشرك في دمه وماله، وأنه إن لحق المسلم بدار الحرب وأقام بها صار مرتدًّا بذلك. فتح الباري (3/ 57- 58).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وأكل ذبيحتنا»... وهم (أي: أهل الكتاب) الذين يمتنعون من أكل ذبيحتنا، أي: صلّى صلاتنا وترك المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة فهو من باب عطف الخاص على العامّ، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه وما هو مهتم بشأنه عليها. إرشاد الساري (1/ 410).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «وأكل ذبيحتنا» أي: ما ذبحه أهل الإسلام فهو المسلم؛ لأنه قد اتصف بخصال الإسلام؛ فإن إقامة الصلاة لا يكون إلا بعد التصديق بالله وبرسله، وأكل ذبائح أهل الإسلام من جملة خصاله، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يصف لكل سائل ما يعلم أنه إلى معرفته أحوج، وأن خطابه أهم، وإسلامه بفعله وقوله أتم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 175).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«وأكل ذبيحتنا» الذبيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي: ما تحل شرعًا بالذبح، والمقصود: الاقتصار في أكل ما يذبح على ما ذبح، وأبيح بشرعنا، فلا يأكل الخنزير، ولا الميتة، ولا الدم، ولا المنخنقة، ولا المضروبة بمثقل، ولا الميتة متردية من أعلى إلى أسفل، ولا المقتولة بنطح، ولا ما أكل السبع، ولا ما ذكر اسم غير الله عليه.
وليس المراد الأكل الفعلي، بل المقصود الإقرار بحلها دون غيرها، وإن لم يطعم في حياته ذبيحة كالنباتيين؛ لذا جاء في رواية: «وذبحوا ذبيحتنا» بخلاف الصلاة، واستقبال القبلة، فالشرط أداؤهما بالفعل. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 88).
قوله: «فذلك المسلمُ الذي له ذمةُ اللهِ وذمةُ رسولِه»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «فذلك» مبتدأ خبره «المسلم» أو الموصول مع صلته، و«ذمة الله» أي: أمان الله وضمانه، ويجوز أن يراد بها الذِّمام وهو الحرمة. الكواكب الدراري (4/ 54).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فذلك المسلم» جواب الشرط، و«ذلك» مبتدأ، وخبره «المسلم»، وقوله: «الذي» صفته، وقوله: «ذمة الله» كلام إضافي مبتدأ، وخبره هو قوله: «له»، والجملة صلة الموصول. عمدة القاري (4/ 125).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَن فعل هذه الأشياء المذكورة فهو مسلم، وحصل له عهد الله ورسوله، وأمان الله تعالى وأمان رسوله -عليه السلام-. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 80).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
الذمة: العهد، وهو إشارة إلى ما عهده الله ورسوله إلى المسلمين بالكف عن دم المسلم وماله. فتح الباري (3/ 58).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فذلك» أي: مَن جمع هذه الثلاثة «هو المسلم الذي له ذمة الله» أي: عهده وأمانه «وذمة رسول الله» لا يستباح منه ما حرم عن المسلمين، وإنما ذكر ذمة رسوله؛ ليعلم أن له ذمتين، فيمسك عن التعرض له بأبلغ الوجوه. شرح المصابيح (1/ 37- 38).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
ولأبي ذر: «وذمة رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم-» أي: أمان الله ورسوله أو عهدهما. إرشاد الساري (1/ 410).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الذي له ذمة الله وذمة رسوله» أي: أمانهما وعهدهما من وبال الكفار، وما شُرِع من القتل والقتال وغيرهما، أي: يرتفع عنه هذا، وكرر لفظة «ذمة» إشعارًا بأن كلًّا منهما مقصود، وأن الأصل هو الأول، وأن كلًّا منهما متلازمان؛ ولذا اقتصر عليه في قوله: «فلا تخفروا الله في ذمته». مرقاة المفاتيح (1/ 82).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«فذلك المسلم» أي: فذلك المسلم لا غيره، فتعريف المبتدأ والخبر يفيد القصر والاختصاص «الذي له ذمة الله وذمة رسوله» أي: أمان الله وعهده، وأمان رسوله وعهده، فيحرم ماله ودمه إلا بحقه. وفائدة عطف ذمة الرسول على ذمة الله للتصريح باللازم؛ ولأنه المنفذ لشريعة الله والمطبق لها. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 88).
قوله: «فلا تُخفِروا اللهَ في ذمته»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
«فلا تخفروا الله في ذمته» معناه: لا تخونوا الله في تضييع حق مَن هذا سبيله، يقال: خفرتَ الرجل إذا حميتَه، وأخفرتَه إذا غدرتَ به، ولم تَفِ بما ضمنتَه من حفظه وحمايته. أعلام الحديث (1/ 375).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
و«الذمة» الأمان، وأذمَّه: أجاره، أي: له أمان الله من نكال الكفار وما شُرع لهم من القتل والقتال، وخفر يخفِر بالكسر خفرًا فهو خفير: إذا أجاره، وكذلك خفَّر يُخفِّر تخفيرًا، قال أبو جندب الهذلي:
يُخَفِّرُني سيفي إذا لم أُخَفَّرِ
والخفرة بالضم: الذمة، وأخفرته يجيء للتعدية إلى مفعول ثانٍ بمعنى: جعلت له خفيرًا، وللسلب بمعنى: غدرت به، ونقضت عهده، وعليه معنى قوله: «ولا تُخفِروا الله في ذمته» أي: لا تعاملوه معاملة الغادر في نقض عهده واغتيال مُؤْمَنِه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 47- 48).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فلا تُخفِروا الله في ذمته» خفر -بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر (المضارع)- خفرًا وخفارة: إذا وفَّى بالعهد، وأعطى أحدًا الأمان، ومنعه عن القتل والظلم، والخفرة بضم الخاء: العهد، وأخفر: إذا نقض العهد «فلا تخفروا الله تعالى» أي: فلا تنقضوا عهد الله وأمانه، فحذف المضاف ها هنا وهو العهد والأمان، ونصب المضاف إليه -وهو الله تعالى- مكان المضاف، والضمير في «ذمته» راجع إلى المسلم الذي له ذمة الله تعالى وذمة رسوله.
يعني: لا تقتلوا، ولا تؤذوا مَن فعل هذه الخصال؛ فإنكم لو قتلتموه لنقضتم عهد الله، وحاربتم الله بسبب قتله. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 80).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فلِمَ اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولًا؟
قلتُ: ذكر الأصل لحصول المقصود به، واستلزامه عدم إخفار ذمة الرسول، وأما ذكره أولًا فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقًا، والضمير راجع إلى المسلم أو إلى الله، والإخفار: نقض العهد. الكواكب الدراري (4/ 54).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«فلا تخفروا الله في ذمته» أي: لا تغدروا بمَن له عهد من الله ورسوله، فلا تفوا له بالضمان، بل أوفوا له بالعهد، وهو مأخوذ من قولهم: أخفرت فلانًا، إذا غدرت به، ويقولون: خفرته، إذا حميته. فتح الباري (3/ 58).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فلا تخفروا الله في ذمته» الضمير فيه لله أو للمسلم، والإخفار: إزالة الخفرة، وهو العهد؛ يعني: لا تزيلوا عهد الله في حق مَن في أمانه، وبهذا قال أبو حنيفة: إذا صلى كافر بجماعة يحكم بإسلامه.
ثم هذه العصمة ثابتة له بشرط أن لا يكون عليه شيء من حقوق الإسلام، أما إذا كانت فلا، وكذا مَن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا له ذمة الله، ولكن بصفة النقصان من استيفاء قصاص نفس أو طَرَف أو قطع، ومن أَخْذ مالٍ إذا غصب، إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية، فإنه إذا قُتل فلا قصاص فيه ولا دية؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} النساء: 92 جعل التحرير كل الجزاء. شرح المصابيح (1/ 38).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«فلا تخفروا الله في ذمته» الخطاب للصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، ويقاس عليهم مَن يأتي بعدهم. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 89).
وقال المظهري -رحمه الله-:
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر من الأركان غير الصلاة في هذا الحديث؟
قلنا: لأنه معلوم أن الكافر لا يصلي صلاتنا، ولا يستقبل قبلتنا، فمَن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فقد اعترف بنبوة محمد -عليه السلام-، وقُبِلَ قوله، فإذا صدَّقه على الرسالة، وقَبِلَ قوله في الصلاة، واستقبل القبلة، فالظاهر والغالب أنه لا ينكر شيئًا مما أمره النبي -عليه السلام- من أحكام الدين، فإذا كان كذلك، فلا حاجة إلى ذكر جميع الأركان؛ لأن ذكر ما في هذا الحديث يدل على الباقي. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 80).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
في هذا الحديث من العلم أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضًا إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن مَن أظهر شعار الدِّين وتشكل بشمائل أهله أُجري على أحكامهم، ولم يكشف عن باطن أمره، فلو أن رجلًا وُجِدَ في جماعة يصلون في مسجد، أو كان في رفقة مسافرين، يصلي معهم الصلوات في أوقاتها مستقبلًا قبلتهم، وقد رأوه يأكل معهم من ذبائحهم، ومن أطعمتهم، ثم مات ولم يعرفوه باسم أو نسب، ولا اعتقاد دين أو مذهب، كان الظاهر من حكمه أنه مسلم، والواجب في حقه أن يُصلى عليه إن مات، وأن يُدفن في مقابر المسلمين، وأن يحفظ دمه وماله ما دام حيًّا فيهم ومعهم، وكذلك لو لم يعرف رجل غريب في بلد من بلدان أهل الإسلام بدين أو مذهب، غير أنه يرى عليه زي المسلمين ولباسهم، حُمِلَ ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك، ولو وجد مختون بين ظهراني قتلى قُلْف كان حقه أن يعزل عنهم في التربة والمدفن، وإذا وجد لقيط في بلد المسلمين كان حكمه حكمهم، وإن كان فيه أهل ذمة فادعاه رجل منهم أُلحق به في النسب، وأُبقي في الدِّين على حكم الدار. أعلام الحديث (1/ 374- 375).
وقال العيني -رحمه الله-:
ذكر ما يستنبط منه: فيه: أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمَن أظهر شعائر الدين أُجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطن غير أنه عليه زي المسلمين حُمل على ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك.
وفيه: ما يدل على تعظيم شأن القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومَن ترك القبلة متعمدًا فلا صلاة له، ومَن لا صلاة له فلا دين له.
وفيه: أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقًا، إلا في حالة الخوف...
وفيه: أن من جملة الشواهد بِحالِ المسلمِ أكلُ ذبيحة المسلمين؛ وذلك أن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذبائح المسلمين، والوثني الذي يعبد الوثن، أي: الصنم. عمدة القاري (4/ 125).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
واستُنبِطَ من هذا الحديث اشتراط استقبال عين الكعبة لصلاة القادر عليه، فلا تصح الصلاة بدونه إجماعًا، بخلاف العاجز عنه كمريض لا يجد مَن يوجهه إلى القبلة ومربوط على خشبة فيصلّي على حاله ويعيد. ويعتبر الاستقبال بالصدر لا بالوجه أيضًا؛ لأن الالتفات به لا يبطل، نعم لا يشترط الاستقبال في شدة الخوف ونفل السفر. والفرض استقبال عين الكعبة يقينًا لمن بمكة، وظنًّا لمن هو غائب عنها، فلا يكفي إصابة الجهة؛ لحديث الصحيحين أنه -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- ركع ركعتين قُبُل الكعبة وقال: «هذه القبلة»، وقُبُل بضم القاف والباء ويجوز إسكانها، ومعناه: مقابلها أو ما استقبلك منها، وعند عامة الحنفية: فرض الغائب عن مكة استقبال جهة الكعبة لا عينها. إرشاد الساري (1/ 410).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
وأُخذ من نحو هذه الأحاديث لقب أهل القبلة لأهل الإسلام.
ووجهه: أن هذه الأمور أمارات جلية يحصل بها التمايز بين الإسلام وبين سائر الأديان، فإنهم يتنزَّهون عن أكل ذبيحتنا، ولا يصلون صلاتنا، ولا يستقبلون قبلتنا، فصارت تلك كالشعار لأهل الإسلام، لا أنه مَن توجد فيه تلك الأمور يحكم عليه بالإسلام، وإن أنكر سائر الدِّين، ومرق منه مروق السهم من الرمية، ولا أرى أنك شاكّ في تكفير مَن فعل جميع ذلك، ثم أنكر بكون أصغر سورة من القرآن قرآنًا. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 38).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
والمعنى: مَن تظاهر بالإسلام فله ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وأمره وقلبه إلى الله حتى يتبين ما يوجب ردته. الحلل الإبريزية (1/ 126).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
للإسلام حقوق، وعلى المسلم واجبات، ولمنح هذه الحقوق واستيفاء تلك الواجبات كان لا بد من علامة يعرف بها المسلم، ويَبِينُ بها المرء عن قبوله للإسلام ودخوله فيه، وقد نصَّت أحاديث كثيرة صحيحة وصريحة بأن أهم وأبرز هذه العلامات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنها وحدها تَحْقِنُ الدم؛ ولذا عنف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد على قتله الكافر المحارب بعد أن قالها، لكنها وإن حقنت الدم ابتداءً لا تحقنه دوامًا؛ إذ لا بد من أن يضم إليها الصلاة والزكاة، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرتُ أن أقاتل الناس؛ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله». ولا بد أن يضم إليها كذلك الإيمان والإقرار بأصول الشريعة، ولا يُنكِرُ ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، عملًا بالحديث الصحيح: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها، وحسابهم على الله».
ومما جاء به -صلى الله عليه وسلم- استقبال الكعبة في الصلاة بصريح القرآن الكريم: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} البقرة: 144، ومشروعية ذكاة الحيوان والطير وذبحه، وتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله، بنص القرآن الكريم، فكان ذلك علامة من علامات إسلام المرء، وكان دليلًا على استحقاقه حقن الدم وحرمة المال، وعهد الله، وأمان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ملزمًا للمسلمين أن يرعوا هذه الذمة، ولا يخونوها، وأن يعطوا مَن هذه حاله حقوق الإسلام، له ما لنا، وعليه ما علينا، وحسابه على الله، وإن يكُ صادقًا فله صدقه، وإن يكُ كاذبًا فعليه وبال كذبه. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 87- 88).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله- أيضًا:
يؤخذ من الحديث:
1- فضل استقبال القبلة، والتزامه في الصلاة، فرضها ونقلها، إلا في حالات مستثناة شرعًا، والمراد: أن يستقبل القبلة بأطراف أصابع رجليه وبجميع ما يمكن من الأعضاء، هذا أكمله، وفي أقله خلاف عند الفقهاء.
2- أخذ بعضهم من مفهوم الحديث قتل تارك الصلاة عمدًا؛ لأن مَن صلى صلاتنا يوفَّى عهده، ويصان دمه وماله، ومفهومه: أن مَن لم يصلِّ صلاتنا لا يُحقن دمه، وفي ذلك خلاف طويل بين الفقهاء مذكور في محله.
3- وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، والله يتولى السرائر.
4- وأن مَن أظهر شعائر الإسلام أُجريت عليه أحكام المسلم، ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك.
5- وأن الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبيحة المسلمين هو شعار الإسلام، وقد استشكل على هذا بأن الشعار الحقيقي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأُجيب بأن الصلاة متضمنة لهذا الشعار؛ إذ الشهادة داخلة في الصلاة، وركن من أركانها، ثم إن ما ذكر في الحديث هو علامة من علامات المسلم، التي تحقن الدم ابتداء، والشهادة وحدها كذلك، ثم يطالب بعد ذلك ببقية أركان الإسلام، فإن أنكر بعضها فقد أتى ما يناقضها ولم يُحقَن.
وحكمة الاقتصار على ما ذكر في الحديث أنه يعالج حالة قائمة آنذاك فإن مَن يُقرّ بالتوحيد من أهل الكتاب، وإن صلوا، واستقبلوا، وذبحوا، لكنهم لا يصلون مثل صلاتنا، ولا يستقبلون قبلتنا، ومنهم مَن يذبح ذاكرًا اسم غير الله، ومنهم مَن لا يأكل ذبيحتنا، والاطلاع على حال المرء في صلاته وأكله يمكن ويقع بأسرع من غير ذلك من أمور الدين. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 89).
وقال القاضي أبو يعلى الفراء -رحمه الله-:
مسألة: إذا صلى الكافر حُكم بإسلامه، سواء كان في جماعة، أو فرادى، نصَّ على هذا في رواية ابن مُشَيْش، والأثرم، وبكر بن محمد -واللفظ لبكر-: في يهودي صلى بقوم وهم لا يعلمون، يُجْبر اليهودي على الإسلام؛ لأنه قد صلى، فإن أبى استتبته ثلاثًا، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
فقد حكم بإسلامه، وعلَّل بأنه قد صلى، وهذا التعليل يعم الجماعة والفرادى،. وقال أيضًا في رواية أحمد بن نصر: إذا صلى وشهد أُجبر على الإسلام، وظاهر هذا: أنه يُجبر على ذلك، سواء صلى في جماعة أو فرادى.
وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إن صلى بجماعة أو في جماعة، حكم بإسلامه، وإن صلى فرادى لم يحكم بإسلامه.
وقال مالك والشافعي وداود -رحمهم الله-: لا يحكم بإسلامه، سواء صلى بجماعة أو فرادى.
فالدلالة على أنه يحكم بإسلامه:... عن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ذمةُ الله وذمة رسوله»...
فإن قيل: هذا لَمْ يصلِّ صلاتنا؛ لأن صلاتنا أنْ يتقدمها في اعتقاد الإسلام، قيل له: قول -عليه السلام-: «مَن صلى صلاتنا» معناه: مَن صلى مثلَ صلاتنا في الهيئات والأفعال؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن للخبر فائدة؛ لأنه إذا تقدمها الإسلام كان مسلمًا قبل أن يصلي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حكم له بالإسلام إذا صلى؛ ولأنه لو كان كذلك لصار تقدير الخبر كأنه قال: «مَن صلى صلاتنا وهو مسلم»، وهذا لغو في الكلام.
فإن قيل: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- علَّق الحكم بإسلامه بالصلاة، وأكلِ الذبيحة جميعًا، وأنتم تعلقونه بفعل الصلاة، ولا تعتبرون الآخر.
قيل له: لو خُلِّينا وظاهرَ الخبر لجعلناهما شرطًا، إلا أنهم لما أجمعوا على سقوط اعتبار أحدهما، أسقطناه، واعتبرنا الآخر. التعليق الكبير (2/ 361- 364).
وقال السمعاني -رحمه الله-:
مسألةٌ: إذا صلى الكافر في جماعة لم يحكم بإسلامه عندنا (الشافعية).
وعندهم (الحنفية): يحكم بإسلامه.
لنا (الشافعية): إنه لم يأتِ بالإسلام فلا يصير مسلمًا، والدليل على أنه لم يأتِ بالإسلام أن الإسلام المأمور به هو كلمة الشهادتين؛ بدليل خبر جبريل أنه سأل النبي -عليه السلام- عن الإسلام فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...» الخبر، وقال أيضًا -عليه السلام-: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...» الخبر، وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} البقرة: 193 أي: شرك، وقال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} الفتح: 16 فدل أن هذا هو الإسلام المدعو إليه، وهو لم يأتِ به، ويقال أيضًا: إن الإسلام هو الإقرار باللسان والاعتقاد بالقلب، وتمامه بالأعمال، ولم يوجد، وقيل: إن الأصل هو الاعتقاد بالقلب واللسان مترجم عنه، ولم يوجد الأصل ولا الترجمة، وإنما غاية ما في الباب أن فعله الصلاة بالجماعة يدل على أنه يعتقد الصلاة جماعة، ولو صرح بهذا الاعتقاد لم يكن مسلمًا، فإذا جاء بما يدل عليه لم يكن مسلمًا أيضًا.
أما حجتهم (الحنفية):
تعلقوا بما روي أن النبي -عليه السلام- قال: «مَن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا، وعليه ما علينا»، وروى بعضهم أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صلى صلاتنا فهو منا»، ولأنه أتى بما يدل على الإسلام فيصير مسلمًا، دليله إذا أتى بالشهادتين، والدليل على أنه دليل الإسلام ما روي في بعض الأخبار: «إذا رأيتم الرجل ملازمًا للجماعة فاشهدوا له بالإيمان»؛ ولأن الصلاة بالجماعة شرع مختص بدين الإسلام ففعله يدل على قبول الإسلام كالشهادتين.
يبينه أن الأصل هو الاعتقاد، وقول الشهادتين دليل عليه، فكذلك فعل الصلاة جماعة دليل عليه؛ ولأن الكفر يثبت بفعل يدل عليه، وهو إذا سجد بين يدي الصنم، فكذلك الإسلام يثبت بدليل يدل عليه. الاصطلام (1/ 291).