«قد أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافًا، وقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ».
رواه مسلم برقم: (1054)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أفلح»:
أي: فاز وظفر بالمقصود. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3234).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
الفلاح: البقاء في الجنة الخلود؛ ولذلك قيل للفائزين: المفلحون. غريب الحديث، (1/ 172).
وقال نشوان الحميري-رحمه الله-:
الفلاح: البقاء في الخير. شمس العلوم(8/ 5248).
«كَفَافًا»:
أي: ما كفاه في أمر دنياه، وكفَّه عما سواه. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3234).
وقال ابن الأثير-رحمه الله-:
الكفاف: هو الذي لا يفضل عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة إليه. النهاية (4/ 191).
وقال الحميدي -رحمه الله-:
الكفاف: ما لا فضل فيه عن الحاجة ولا تقصير، وأصله المساواة؛ لا له ولا عليه. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 38).
«قَنَّعَهُ»:
أي: جعله قانعًا. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3234).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
قنع بقسم قنعًا وقناعة: رضي. المحكم والمحيط الأعظم(1/ 226).
وقال الفتني -رحمه الله-:
«قنَّعه الله» أي: جعله قانعًا بما أعطاه؛ لمعرفته بأنه مقسوم، لن يعدو ما قدر له. مجمع بحار الأنوار (4/ 327).
شرح الحديث
قوله: «قد أَفلح مَن أَسلم»:
قال البغوي -رحمه الله-:
قوله: «أفلح» أي: فاز، ويقال لكل من أصاب خيرًا: مفلح، والفلاح: البقاء. شرح السنة (1/ 20).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قد أفلح» أي: فاز وظفر بالمقصود «من أسلم» أي: انقاد لربه المعبود. مرقاة المفاتيح (8/ 3234).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«قد أفلح» أي: فاز بالفلاح، وهو الفوز والبقاء والظَفَر «من أسلم» بدأ به؛ لأنه الأساس في الاعتداد بقبول صالح الأعمال، والمراد: الإسلام الصحيح المخلص فيه؛ لأنه الكامل، فينصرف المطلق إليه. دليل الفالحين (4/ 468).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مَن أَسلم» وجهه لله، وانقاد لشريعة الإسلام. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (12/ 193).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الفلاح هو الفوز بالبغية في الدارين، والحديث قد جمع بينهما...
وذكر أمرين... وأطلق الأول أسلم: ليشتمل جميع ما هو الإسلام متناول له، كما قال الله تعالى لإبراهيم -عليه السلام-: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} البقرة: 131. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3280).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«قد أَفلح مَن أَسلم» فإنه خلص عن الذّنب الذي لا يغفره الله. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 53).
وقال الراغب -رحمه الله-:
والإسلام في الشرع على ضربين:
أحدهما: دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الحجرات: 14.
والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدَّر، كما ذكر عن إبراهيم -عليه السلام- في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} البقرة: 131. المفردات في غريب القرآن (ص: 423).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول بأن الحياة الطيبة في الدنيا؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح» يدل على ذلك؛ لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة. أضواء البيان (3/ 425).
قوله: «ورزق كفافًا»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«كفافًا» أي: بقدر الحاجة، لا يفضل عنه. دليل الفالحين (4/ 468).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ورُزِقَ كفافًا» أي: ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحقه بأهل الترفُّهَات. فيض القدير (4/ 508).
وقال البغوي -رحمه الله-:
سئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: شبع يوم، وجوع يوم. شرح السنة (14/ 245).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الكفاف: هو الذي لا يفضل عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة إليه. وهو نصب على الحال.
وقيل: أراد به مكفوفًا عنِّي شرُّها.
وقيل: معناه: ألا تنال مني ولا أنال منها، أي: تكف عني وأكف عنها. النهاية لابن الأثير (4/ 191).
وقال النووي -رحمه الله-:
الكفاف: الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف، وقد يحتج به لمذهب من يقول: الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى. شرح مسلم (7/ 145- 146).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير الذي لا يترفه في طيبات الدنيا ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقير أقرب، لقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفى مرارته وآفاته، وعلى هذا فأهل الكفاف هم -إن شاء الله- صدر كتيبة الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ لأنهم وسطهم، والوسط العدل كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} البقرة: 143، أي: عدولًا خيارًا، وليسوا من الأغنياء كما ذكرنا. التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة(ص: 979).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
بالرزق: الحلال منه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مدح المرزوق، وأثبت له الفلاح. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3280).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله: «ورزق كفافًا» والكفاف: ما كف عن السؤال، وألا يزيد على قدر الحاجة، ولا ينقص. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (5/ 255).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ورزق» أي: من الحلال «كفافًا» أي: ما كفاه في أمر دنياه، وكفَّه عما سواه. مرقاة المفاتيح (8/ 3234).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ورزق كفافًا» ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات. والمراد بالرزق الحلال؛ لأنه لا فلاح مع رزق حرام. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 53).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-:
والقناعة ضد الطمع؛ فهي عبارة عن رضا الإنسان بما يصيبه من الرزق؛ قلَّ أو كثر، وعدم طمعه فيما ليس له، واستشرافه لِمَا في أيدي الناس، هذا هو التحقيق، واقتصر بعض العلماء في تفسيره على الاجتزاء باليسير من أعراض الدنيا؛ لأن من رضي بالقليل كان بالكثير أرضى، وقد يكون الاقتصاد في المعيشة سببًا للقناعة. مجلة المنار (32/ 24).
قوله: «وقنّعه الله بما آتاه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «قنعه» أي: جعله الله قانعًا، ولم يطلب الزيادة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 279).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وقنَّعه الله» أي: صيره قانعًا، ولعل التضعيف إيماء إلى بعد هذا الوصف عن طبع الإنسان، فكأن محاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك؛ لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا، والحرص عليها، إلا من عصمه الله، وقليلٌّ ما هم، أي: وجعله الله يخفي ألطافه قانعًا «بما آتاه» بالمد، أي: أعطاه من الكفاف. دليل الفالحين (4/ 468).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ورُزِقَ كفافًا» أي: ما يكفه ويمنعه من مسألة الناس. والكفاف بفتح الكاف من الكف، بمعنى: المنع، لا من الكفاية كما يُتوهم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (12/ 193).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «قنَّعه الله» قيل: أي: جعله قانعًا بما أعطاه إياه، ولم يطلب الزيادة لمعرفته، بأن رزقه مقسوم، لن يعدو ما قُدِّر له. الكاشف عن حقائق السنن(10/ 3279).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
وذكر أمرين... وقيد الثاني (الرزق) بـ«قنع» أي: رزق كفافًا، وقنَّعه الله بالكفاف، فلم يطلب الزيادة. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3280).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قالوا: ولو لم يكن في التقلّل إلا خفة الحساب لكفى به فضلًا على الغنى. عدة الصابرين (1/ 388).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: جعله قانعًا «بما آتاه» أي: أَعطاه من الدنيا، ولم يطلب الزيادة، ولم يلتفت قلبه لِمَا خلت عنه يده. شرح المصابيح (5/ 389).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وقنَّعه الله» أي: جعله قانعًا «بما آتاه» أي: بما أعطاه إياه، بل جعله شاكرًا لِمَا أعطاه راضيًا بكل ما قدَّره وقضاه. مرقاة المفاتيح (8/ 3234).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وقنَّعه الله بما آتاه» من الكفاف، فلم يطلب الزيادة، وصاحب هذه الحالة يُعدُّ من الفقراء؛ لأنه لا يترفَّه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه على الصبر عن طلب الزيادة على الكفاف. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 53).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
والحديث -كما ترى- جامع للحسنيين، حاوٍ لنعمة الدارين، فحقيق بأنْ يُقال: إنه من الجوامع. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3280).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
وفي الحديث: شرف هذه الحال على الفقر المسْهِي، والغنى المطْغِي. تطريز رياض الصالحين (ص: 352).
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
حَكَمَ -صلّى الله عليه وسلّم- بالفلاح لمن جمع هذه الخلال الثلاث، والفلاح: اسم جامع لحصول كلّ مطلوب محبوب، والسلامة من كلّ مخوف مهوب؛ وذلك أنّ هذه الثلاث جمعت خير الدين والدنيا، فإنّ العبد إذا هُدِيَ للإسلام الذي هو دين الله، الذي لا يقبل دينًا سواه، وهو مدار الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، وحصل له الرزق الذي يكفيه، ويكفّ وجهه عن سؤال الخلق، ثمّ تمّم الله عليه النعمة، بأن قنَّعه بما آتاه، أي: حصل له الرضا بما أوتي من الرزق والكفاف، ولم تطمح نفسه لما وراء ذلك: فقد حصل له حسنة الدنيا والآخرة؛ فإنّ النقص بفوات هذه الأمور الثلاثة أو أحدها: إمّا أن لا يهدى للإسلام؛ فهذا مهما كانت حاله، فإنّ عاقبته الشقاوة الأبديّة، وإمّا بأن يهدى للإسلام، ولكنّه يبتلى: إمّا بفقرٍ يُنسي، أو غنى يُطغي؛ وكلاهما ضرر ونقص كبير، وإمّا بأن يحصل له الرزق الكافي موسعًا أو مقدّرًا، ولكنّه لا يقنع برزق الله، ولا يطمئن قلبه بما آتاه الله؛ فهذا فقير القلب والنفس، فإنّه ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبُه فقير متحسِّر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني راضٍ، قانع برزق الله.
فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته، والله أعلم. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 167).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان فضل القناعة، والحث عليها.
2. ومنها: بيان فضيلة هذه الأوصاف، وقد يحتج به لمذهب من يقول: الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى، قاله النووي -رحمه الله-.
3. ومنها: أن من اتصف بهذه الأمور، فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة.
4. ومنها: أن هذا الحديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-. البحر المحيط الثجاج (20/ 99).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)