«كُلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقتِهِ حتى يُفصَلَ بين الناسِ -أو قال: يُحكَمَ بين الناسِ-».
رواه أحمد برقم: (17333) واللفظ له، والطبراني في الكبير برقم: (771)، والحاكم برقم: (1517)، وابن حبان برقم: (3310)، وابن خزيمة برقم: (2431)، من حديث عُقْبَة بن عامر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4510)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (872).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«امرئٍ»:
المرءُ، مُثَلَّثَةَ الميم: الإنسانُ، أو الرَّجلُ، ولا يُجْمَعُ من لَفْظِه، وسُمِعَ: مَرْؤُونَ...، وفي امْرِئٍ مع ألف الوصْلِ ثَلاثُ لُغاتٍ: فتحُ الراءِ دائمًا، وضمُّها دائمًا، وإعرابها دائمًا، وتقولُ: هذا امْرُؤٌ ومَرْءٌ، ورَأيْتُ امْرَأً ومَرْءاً، ومَرَرْتُ بامْرِئٍ وبِمَرْءٍ مُعْرَبًا من مَكانَيْنِ. القاموس المحيط، للفيروز أبادي (ص: 52).
شرح الحديث
قوله: «كُلّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُفصَلَ بين الناسِ -أو قال: يُحكَمَ بين الناسِ-»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«كُل امرئ في ظل صدقته» يوم القيامة حين تدنو الشمس من الرؤوس «حتى يُقضى»، لفظ رواية الحاكم: «حتى يفصل بين الناس» يعني: أن المتصدق يُكفى المخاوف، ويصير في كنفِ الله وسَتره، يقال: أنا في ظل فلان، أي: في داره وحِماه، أو المراد الحقيقة بأن تجسد الصدقة فيصير بها في ظل بخلق الله وإيجاده كما قيل فيه، وفي نظائره المعروفة كذبح الموت ووزن الأعمال، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة: 284، وكان بعض السلف لا يأتي عليه يوم إلا تصدق ولو ببصلة أو لقمة. فيض القدير (5/ 12).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«كل امرئ» أي: كل إنسان «في ظل صدقته» أي: تدفع عنه صدقته حرارة الموقف يوم القيامة «حتى يفصل» أي: حتى يقضى. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (3/ 144).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
يقول: «كل امرئ في ظل صدقته» أي: يوم القيامة أعم من صدقته الواجبة والنافلة «حتى يفصل بين الناس» رواه ابن حبان والحاكم.
فيه حث على الصدقة، وأما كونه في ظلها؛ فيحتمل الحقيقة وأنها تأتي أعيان الصدقة، فتدفع عنه حر الشمس، أو المراد في كنفها وحمايتها.
ومن فوائد صدقة النفل أنها تكون توفية لصدقة الفرض إن وجدت في الآخرة ناقصة، كما أخرجه الحاكم في الكنى من حديث ابن عمر، وفيه: «وانظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع منها شيئًا فانظروا: هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة؟ لتتموا بها ما نقص من الزكاة»، فيؤخذ ذلك على فرائض الله؛ وذلك برحمة الله وعدله. سبل السلام (1/ 542).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«كل امرئ» يوم القيامة «في ظل صدقته» في كَنَف (حفظ) أجرها وصيانته «حتى يقضى بين الناس» بفصل حسابهم، ويحتمل الحقيقة بأن يجعل الصدقة في الآخرة جسمًا تظل صاحبها، وفيه ترغيب في الصدقة. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 161- 162).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: الحمل على الحقيقة هو المعتمد. مرعاة المفاتيح (6/ 362).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«كل» هذه من ألفاظ العموم، و«امرئ» نقول فيها مثل ما قلنا في (رجل) السابقة؛ يعني: كل امرئ وامرأة «في ظل صدقته» يحتمل أن يكون المراد بالظل هنا: الحماية، يعني: أن الله تعالى يحميه من أجل الصدقة، ويحتمل أن يكون ظلًّا حقيقيًّا، بمعنى: أن الصدقة تجعل كالظل على رأسه، أيهما أولى؟ الثاني أولى؛ لأن الحقيقة هي الأصل، والصدقة قد تكون ظلًّا، فإن الله -سبحانه وتعالى- قادر على أن يجعل المعاني أعيانًا، والأعيان معانٍ، فهذه الصدقة وإن كانت عملًا مضى وانقضى وهو فعل من أفعاله، لكن المتصدَّق به شيء محسوس قد يؤتى به يوم القيامة بصفة شيء محسوس، بل قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان، أو فِرْقان (سِرْبان) من طير صوافّ، تحاجّان عن صاحبهما يوم القيامة، فهذا القرآن كلام الله -عزَّ وجلَّ-، وهو فعل القارئ، ومع ذلك يجعل الثواب كأنهما فرقان من طير صواف، فهذه الصدقة يجعلها الله تعالى شيئًا محسوسًا يظل صاحبها...
ففي هذا الحديث دليل على فضيلة الصدقة، وعلى أنها تكون يوم القيامة ظلًّا لصاحبها، وأنها تكون ظلًّا في جميع يوم القيامة حتى يفصل بين الناس.
وفيه دليل على: إثبات يوم القيامة، وعلى الحساب والجزاء؛ لقوله: «حتى يُفصل بين الناس» وما الذي يُقضى فيه أولًا؟ أول ما يُقضى بين الناس في الدماء، وأول ما يحاسب عليه الإنسان من حقوق الله الصلاة.
وقوله: «حتى يُفصل» هل المراد: الحكم بين الناس بين المعتدي والمعتدى عليه، أو الفصل بين الناس حتى في تمييزهم فريق إلى الجنة وفريق إلى النار؟ الأخير؛ لكنه ملازم للأول. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/ 102- 103).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وفي الحديث: الحث على الصدقة كل وقت، وأنها تستر بين العبد وبين حر الشمس والنار يوم القيامة، وهذا ما دامت الشمس موجودة، فإذا كورت وألقيت في النار كانت الصدقة تستر من النار.
والصدقة -وإن قلَّت- فإن الله تعالى يربي حتى تكون مثل الجبل العظيم وأعظم من ذلك. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (5/ 367).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أن في القيامة ظلالًا بحسب الأعمال الصالحة، تقي صاحبها من وهج الشمس، ولفح النار، وأنفاس الخلق، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «الرجل في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس»، ولكن ظل العرش أعظم الظلال وأشرفها، فيخص الله به من يشاء من صالح عباده. المفهم (6/ 542).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
فليس هناك إلا ظل العرش، فأما ظل الصدقة فمن ظل العرش، والله أعلم. المفهم (3/ 75).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على فَضْل الصدقة. وكون المَرْء في ظلها؛ إما مجاز عن مدافعتها عنه أهوال القيامة، أو أن ذلك على حقيقته، وإن الصدقة تأتي أعيانها يوم القيامة، فيظله عن حر الموقف، والله أعلم. البدر التمام شرح بلوغ المرام (4/ 367).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
هذا الحديث ضمن معنى الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول: «سبعة يظلهم» وهنا: «المرء في ظل صدقته»، فالحديثان متفقان في المعنى في هذه الجزئية.
وفي بعض روايات هذا الحديث: «المرء في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضَى بين الخلائق»، وقَدْرُ ذلك كما بينه الله في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} المعارج:4. شرح بلوغ المرام (137/ 2).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومنها (فوائد الصدقة) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة»، فالناس تكون الشمس فوق رؤوسهم قدر ميل، وهؤلاء المتصدقون وعلى رأس صدقاتهم الزكاة يكونون في ظل صدقاتهم يوم القيامة.
وحكى لي بعض الصلحاء أن رجلًا كان يمنع أهله من الصدقة من البيت يقول: لا تتصدقوا، وفي يوم من الأيام نام ورأى في المنام كأن الساعة قد قامت، ورأى فوق رأسه ظلًّا يظله من الشمس إلا أن فيه ثلاثة خروق. يقول: فجاءت تمرات فسدت هذه الخروق، فتعجب كيف الثوب متخرق، وتجيء التمرات تسد الخروق، فلما قصها على زوجته أخبرته أنها تصدقت بثوب وثلاث تمرات، فكان الكساء الأول هو الثوب لكنه مخرق، فجاءت التمرات الثلاث فسدَّت الخروق، ففرح بذلك وأذن لها بعد هذا أن تتصدق بما شاءت. فالحاصل أن هذه الرؤيا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة».
ومنها أنها تلين القلب، وصدقات التطوع تلين القلب حيث إن الإنسان يعطيها الفقراء المحتاجين، فيلين قلبه ويرحمهم، وفي ذلك تعرُّض لرحمة الله؛ لأن الله إنما يرحم من عباده الرحماء. شرح رياض الصالحين (5/ 238- 239).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
1-استحباب صدقة التطوع، وفضلها، والحث عليها، وأنها من أسباب تخفيف أهوال يوم القيامة.
2-أن صاحبها يكون في ظلها يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس في ذلك الموقف، الذي فيه ما جاء في صحيح مسلم (2864) عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا كان يوم القيامة، أُدنيت الشمس من العباد، حتى تكون على قدر ميل أو ميلين، فتصهرهم، ويكون العرق على قدر أعمالهم، منهم مَن يأخذه على عقبيه، ومنهم مَن يأخذه إلى حقويه، ومنهم مَن يُلجمه إلجامًا».
3-في الحديث إثبات يوم القيامة، والحساب، والفصل بين العباد، وهذا من أمور العقيدة التي يجب الإيمان بها، كما جاءت عن الله تعالى، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/ 388- 389).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على فضل صدقة التطوع، وأن لها شأنًا، وأنها من أسباب الظل والوقاية من حر الشمس يوم القيامة؛ لأن الشمس تدنو من الناس يوم القيامة، وحرها شديد، وهي بعيدة، فكيف إذا دنت؟!
وقد روى مسلم من طريق سليم بن عامر، حدثني المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل». قال سليم بن عامر: فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين… الحديث.
ولكن الله تعالى يقي أولياءه، وأهل طاعته حرها وأذاها بالأعمال الصالحة التي دلت عليها نصوص الشريعة، ومن ذلك الصدقة...
ظاهر الحديث أن هناك ظلًّا غير ظل العرش على الرواية المتقدمة؛ لقوله: «في ظل صدقته». وأجيب عنه بجوابين:
الأول: أن هناك ظلالًا بحسب الأعمال، تظل صاحبها حر الشمس وأنفاس الخلائق، ولكن ظل العرش أعظمها وأشرفها يخص الله به مَن شاء من عباده.
الثاني: أنه ليس هناك إلا ظل العرش؛ يستظل به المؤمنون أجمع، لكن لَمَّا كانت تلك الظلال لا تنال إلا بالأعمال، وكانت الأعمال تختلف، حصل لكل عامل ظلٌّ يخصه من ظل العرش بحسب عمله، وسائر المؤمنين شركاء في ظله، والله تعالى أعلم. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (4/ 472- 473).
وقال عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
أما حديث عقبة بن عامر -رضي اللَّه عنه- هذا فقد رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد اللَّه اليزني عن عقبة بن عامر -رضى اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس». قال يزيد: فكان أبو الخير مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة، وفي رواية لابن خزيمة أيضًا عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد اللَّه اليَزَنِيِّ: أنه كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيتُه داخلًا المسجد قط إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح. قال: حتى ربما رأيتُ البصل يحمله، قال: فأقول: يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك، قال: فيقول: يا ابن أبي حبيب أما إني لم أجد في البيت شيئًا أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ظل المؤمن يوم القيامة صدقته». ويزيد بن أبي حبيب من رجال الشيخين، وشيخه مرثد من رجال الشيخين أيضًا.
ما يفيده الحديث:
1-عظيم فضل الصدقة.
2-أن الصدقة تدفع النار عن وجه صاحبها يوم القيامة. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (3/ 144- 146).
وقال الشيخ البراك -حفظه الله-:
المتبادر أن المراد بالظل هنا: ما يستظل به، ويتقى به من الحر، وهو أثر الحائل المانع من شعاع الشمس، والظاهر أن المراد بالظل المضاف إلى الله -عزَّ وجلَّ- في الحديث (يعني حديث: «سبعة يظلهم الله في ظله»): هو ما يظل به عباده الصالحين يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، وهو أثر أعمالهم الصالحة، كما في الحديث: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس».
وعلى هذا فهذا الظل مخلوق وإضافته إلى الله -سبحانه- إضافة ملك وتشريف، كما قال عياض والحافظ (ابن حجر) -رحمهما الله تعالى-، وليس إضافة صفة إلى موصوف؛ فلا يقال: إن لذات الله ظلًّا أخذًا من هذا الحديث؛ لأن الظل مخلوق كما قال -سبحانه-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الفرقان: 45، والمخلوق ليس صفة للخالق، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يوم لا ظل إلا ظله» يعني: يوم القيامة، ومعناه: ليس لأحد ما يستظل به من حر الشمس إلا مَن له عمل صالح يجعل الله له به ظلًّا؛ وذلك من ثواب الله المعجل في عرصات القيامة.
هذا ولم أقف لأحد من أئمة السنة على تفسير للظل في هذا الحديث، وهل هو صفة أو مخلوق، وما ذكرته هو ما ظهر لي، والله أعلم بالصواب. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (2/ 144).