«إنَّ الرُّؤْيَا ثلاثٌ: منها أَهَاوِيلُ مِن الشيطان لِيَحْزُنَ ابنَ آدمَ، ومنها ما يَهُمُّ به الرَّجُلُ في يقظتِهِ فيراهُ في منامِهِ، ومنها جُزْءٌ مِن ستةٍ وأربعين جُزْءًا مِن النُّبُوَّةِ».
رواه ابن ماجه برقم: (3907) واللفظ له، وابن حبان برقم: (6042)، والطبراني في الأوسط برقم: (6742) والكبير برقم: (118)، من حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3534)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1870).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَهَاوِيلُ»:
جمع أهوال؛ هو جمع هول، كأقاويل جمع أقوال؛ جمع قول. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 450).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الأهوال هي جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد. النهاية (5/ 283).
«يَهُمُّ»:
مِن هَمَّ بالأمر يهمُّ، إذا عَزم عليه. النهاية، لابن الأثير (5/ 274).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ الرُّؤيا ثلاثٌ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«الرؤيا» أي: الأمور التي تُرى في حالة النوم بالنظر إلى ما يَعرِض لصاحبها من الفرح والحزن «ثلاث» لا رابع لها. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (23/ 191).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قلتُ: وتقسيم الرؤيا إلى ثلاثة أقسام لا ينافي تقييد الصادقة بالتي هي صادرة عن مسلم، ولا يمكن القول بأن رؤيا الكافر من أجزاء النبوة. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 207).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
والراؤون على ثلاثة أقسام:
صالح من المؤمنين، وفاسق منهم، وكافر من غيرهم؛ فأما رؤيا المؤمن الصالح، والرجل الصالح والمسلم، فهي التي تُنسب إلى النبوة، وتنعاد معها؛ لأن الصلاح جزء منها. وأما رؤيا الفاسق فقد قال بعضهم: إنها مرادة بقوله: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين»، فإنْ كانت من مؤمن فهي من خمسة وأربعين، ومعنى صلاحها: استقامتها وانتظامها، والذي عندي أنَّ رؤيا الفاسق لا تنعاد في النبوة.
وأما الرؤيا من الكافر فقد وردت في القرآن، وقد كان كفار الأمم والعرب وقريش ترى الرؤيا الصحيحة، ولا تعاد أيضًا في النبوة، ولكنها تدخل في باب الندارة، وأنا موعز إليكم ألا تتعرضوا لأعداد الشريعة، فإنَّها ممتنعة عن إدراكها في متعلقاتها. عارضة الأحوذي (9/91-92).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يناسب حاله حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء، وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم يراها الرجل الصالح، أو ترى له»، فإن الكافر والكاذب والمخلط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من الوحي، ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد قدمنا: أن الكاهن يخبر بكلمة الحق، وكذلك المنجم قد يحدس فيصدق، لكن على الندور والقلة، وكذلك الكافر والفاسق والكاذب، وقد يرى المنام الحق، ويكون ذلك المنام سببًا في شر يلحقه، أو أمر يناله إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة المقصودة به، وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة، كمنام الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ومنام عاتكة عمَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحوه كثير، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة. المفهم (6/ 13 -14).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: وليس الحصر مرادًا من قوله: «ثلاث»؛ لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب، وهو حديث النفس، وليس في حديث أبي قتادة وأبي سعيد الماضيين سوى ذكر وصف الرؤيا بأنها مكروهة ومحبوبة، أو حسنة وسيئة، وبقي نوع خامس وهو تلاعب الشيطان، وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قطع فأنا أتبعه، وفي لفظ: فقد خرج فاشتددت في أثره، فقال: «لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام»، وفي رواية له: «إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يخبر به الناس». ونوع سادس وهو رؤيا ما يعتادهُ الرائي في اليقظة؛ كمن كانت عادته أن يأكل في وقت فنام فيه، فرأى أنه يأكل أو بات طافحًا من أكل أو شرب، فرأى أنه يتقيأ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص، وسابع وهو الأضغاث. فتح الباري (12/ 407).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
حاصل تقسيم الرؤيا كما ذكر الحافظ ستة:
أ-من الله بشرى. ب-تخويف من الشيطان.
ج-حديث النفس. د-تلاعب الشيطان.
هـ-ما يعتاده الرائي. و- ما يهم به الرجل في المنام.
قلتُ: تلاعب الشيطان وتخويفه يتقارب، وحديث النفس وما يهم به الرجل ويعتاده متقارب، فمآلها إلى ثلاث، وهي قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهي قسمة حاصرة. الحلل الإبريزية (4/ 374).
قوله: «منها أَهَاوِيلُ من الشيطان لِيَحْزُنَ ابن آدَمَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ليحزن بها ابن آدم» أي: ليدخل الحزن والأسف في قلبه بسبب تلك الرؤية؛ كأن رأى رأسه مقطوعًا أو مجلودًا نفسه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (23/ 194).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ليحزن ابن آدم» ولا حقيقة لها في نفس الأمر. فيض القدير (4/ 47).
قوله: «ومنها ما يَهُمُّ به الرَّجُل في يقظته، فيراه في مَنامه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ومنها ما يهُمُّ» أي: يغمُّ «به الرجل في يقظته» بفتح القاف: ضد النوم؛ أي: في حال انتباهه، «فيراه» أي: فيرى ذلك الأمر الذي يهُمُّ به «في منامه» أي: في نومه؛ كأن رأى نفسه مسجونًا لدَين. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (23/ 194).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
يدخل فيه ما يُلازمه المرء في يقظته من الأعمال والعلوم والأقوال. المفهم (6/ 18).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومنها ما يهُمُّ به الرجل» يعني: الإنسان «في يقظته، فيراه في نومه» لتعلُّق حواسه به. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 39).
قوله: «ومنها جُزء من سِتة وأربعين جُزءًا من النُّبوة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- معلقًا:
قوله: «رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة»، وفي حديث عبادة: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا»، وفي رواية عن أبي هريرة: «رؤيا الرجل المصالح جزء من ستة وأربعين»، وفي أخرى عنه: «الرؤيا الصالحة»، وفي رواية: «رؤيا الرجل الصالح ستة وأربعون جزءًا من النبوة»، وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين»، وفي غير كتاب مسلم عن ابن عباس: «جزء من أربعين»، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «جزء من سبعة وأربعين»، وفي حديث العباس -رضي الله عنه-: «من خمسين»، وعن أنس -رضي الله عنه-: «من ستة وعشرين»، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: «من أربعة وأربعين». المفهم (6/ 12).
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ومنها» أي: ومن تلك الثلاث «جزء» كائن «من ستة وأربعين جزءًا من النبوة». مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (23/ 194).
قال الخطابي -رحمه الله-:
معنى هذا الكلام تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وإنما كانت جزءًا من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله عليهم- دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة، وأنبأنا ابن الأعرابي: حدثنا ابن أبي ميسرة، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} الصافات: 120...
وقال بعض العلماء: معناه: أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء باقٍ من النبوة.
وقال آخر: معناه: أنها جزء من أجزاء علم النبوة باقٍ، والنبوة غير باقية بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له». معالم السنن (4/ 138- 139).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وتُعُقِّب بقول مالك -فيما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيُعَبّر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلْعَب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يُلعَب بالنبوة.
والجواب: أنه لَمْ يُرِدْ أنَّها نبوة باقية، وإنما أراد أنَّها لَمَّا أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يُتَكَلَّم فيها بغير علم. فتح الباري (12/ 363).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وأما قوله: «جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» فقد كان بعض أهل العلم يقول في تأويله قولًا لا يكاد يتحقق من طريق البُرهان.
قال: وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بقي مُنذُ أول ما بدئ بالوحي إلى أن تُوفِّي ثلاثًا وعشرين سنة، أقام منها بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، وكان يُوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستةُ أشهر، وهي نصف سنة، فصارت هذه المُدَّة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء مُدَّة زمان النبوة.
وهذا وإن كان وجهًا قد تحتمله قِسمة الحساب والعدد، فإن أول ما يجب فيه أن يَثْبت ما قاله من ذلك خبرًا وروايةً، ولم نسمع فيه خبَرًا، ولا ذكر قائل هذه المقالة فيما بلغني عنه في ذلك أثرًا، فهو كأنه ظنٌّ وحُسبان، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذُهب إليه من هذه القسمة، لقد كان يجب أن تُلحق بها سائر الأوقات التي كان يُوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته، وأن تُلتَقط فتُلفَّق، وتُزاد في أصل الحساب، وإذا صِرنا إلى هذه القضية بطلت هذه القسمة، وسقط هذا الحساب من أصله. أعلام الحديث (4/ 2315).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
وقد قبل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة، وأجابوا عما أورده الخطابي، أما الدليل على كون الرؤيا كانت ستة أشهر، فهو أن ابتداء الوحي كان على رأس الأربعين من عمره -صلى الله عليه وسلم-، كما جزم به ابن إسحاق وغيره؛ وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل إليه، وهو بغار حراء كان في رمضان، وبينهما ستة أشهر.
وفي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا. فتح الباري (12/ 364).
وقال المازري -رحمه الله-:
وأما قوله: «جزء من ستة وأربعين جزءًا من النّبوة» فإنّه مما قال بعض الناس فيه: إنّه -صلى الله عليه وسلم- أقام يوحَى إليه ثلاثة وعشرين عامًا عشرة بالمدينة، وثلاثة عَشَرَ بمكة، وكان قبل ذلك بستة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يلقيه إليه الملك -عليهما السلام- وذلك نصف سنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النّبوءة، وقد قيل: إن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد خصَّ دون الخليقة بضروب وفنون، وجُعِلَ له إلى العلم طرق لم تجعل لغيره، فيكون المراد أن المنامات نِسبتها مما حصل له وميّز به جزء من ستة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يقال: بَيِّنُوا هذه الأجزاء، ولا يلزم العلماءَ أن تعرف كلّ شيء جملة وتفصيلًا، وقد جعل الله -سبحانه- للعلماء حدًّا تقف عنده، فمنها ما لا تعلمه أصلًا، ومنها ما تعلمه جملة، ولا تعلمه تفصيلًا، وهذا منه، ومنها ما تعلمه جُملة وتفصيلًا. المعلم بفوائد مسلم (3/ 203).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- معلقًا:
وقد اعتُرِض عليه (يعني المازري) بأن هذه المدة لَمْ يصحَّ نقل تحديدها، ولا هو معروف، فتقديره تحكُّم.
قلتُ: القَدْر الذي اختَلَف الرواة فيه من هذا الحديث أمران:
أحدهما: مَنْ أضيفت الرؤيا إليه، فتارة سكت عنه، وأخرى قيل فيه: «المسلم»، وفي أخرى: «المؤمن»، وفي أخرى: «الصالح»، وهذا الأمر الخلاف فيه أهون من الخلاف في الأمر الثاني؛ وذلك أنه حيث سكت عنه لم يضر السكوت عنه، مع العلم بأن الرؤيا مضافة إلى راءٍ ما، فإذا صُرِّح به في موضع آخر فهو المعنيُّ، وأما حيث نُطِق به فالمراد به واحد، وإن اختلفت الألفاظ؛ وذلك أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يناسب حالُه حالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأُكرِمَ بنوع مما أُكرِمَ به الأنبياء -عليهم السلام-، وهو الاطّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لَمْ يبق من مبشِّرات النبوة إلَّا الرؤيا الصادقة في النوم، يراها الرجل الصالح، أو تُرى له»، فإنَّ الكافر والكاذب والمخلِّط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من الوحي ولا من النبوّة؛ إذ ليس كلّ من صَدَق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة.
وقد قدَّمنا: أن الكاهن يُخبر بكلمة الحقّ، وكذلك المنجِّم قد يحدِس، فيصدق، لكن على الندور والقلَّة، وكذلكَ الكافر، والفاسق، والكاذب.
وقد يرى المنام الحق، ويكون ذلك المنام سببًا في شرٍّ يلحقه، أو أمرٍ يناله، إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة المقصودة به.
وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة؛ كمنام الملِك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفَتَيَيْن في السجن، ومنام عاتكة عمَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي كافرة، ونحوه كثير، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة، فهذا هو الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني: وهو اختلاف عدد أجزاء النبوة التي جُعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها؛ فاختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين، وأكثرها في الصحيحين، وكلها مشهورٌ فلا سبيل إلى أخذ أحدها، وطَرْح الباقي، كما قد فعل أبو عبد الله المازريّ، فإنَّه قد يكون بعض ما ترك أَولى مما قُبِل إذا بحثنا عن رجال أسانيدها، ولمّا ترجَّح عند غيره غير ما اختاره هو. فإذًا: الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أن يقال: إن هذه الأحاديث -وإن اختلفت ألفاظها- متفقة على أنَّ الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة.
فهذه شهادة صحيحة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها وحي من الله تعالى، وأنها صادقة لا كذب فيها؛ ولذلك قال مالك وقد قيل له: أيُفَسِّر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال: أيُلْعَب بالوحي؟ وإذا كانت هكذا فتعيَّن على الرائي أن يعتني بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها، فإنَّها إما مبشِّرة له بخير، أو محذِّرة له من شر، فإنْ أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك، وهو اللبيب الحبيب؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصها، أُعبِّرها؟»، فكانوا يقصُّون عليه، ويُعَبِّر.
وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه، كما فعل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر، وكل ذلك بناءً على أنَّها وحي صحيح.
وإذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخبر؛ غير أن علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب، وتأوَّلوه تأويلات، فلنذكرها، وننبِّه على الأقرب منها؛ وهي أربع:
الأول: ما صار إليه أبو عبد الله (المازري) وقد ذكرناه، وما وَرَدَ عليه.
والثاني: أن المراد بهذا الحديث: أن المنام الصادق خصلة من خصال النبوة، كما جاء في الحديث الآخر: «التؤدة، والاقتصاد، وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة»، أي: النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون، هذه الثلاثة الأشياء جزء واحدٌ منها، وعلى مقتضى هذه التجزئة: كلّ جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء في نفسه، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صحَّ لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون، ويصحُّ أن يسمَّى كلّ اثنين من الثمانية والسبعين جزءًا وخصلة، فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءًا، ويصحُّ أن يسمَّى كلّ أربعة منها جزءًا، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءًا ونصف جزء، فتختلف أسماء العدد المجزَّأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، وعلى هذا: فلا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوَّة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابًا، وإنَّما هو اختلاف اعتبار مقادير تلك الأجزاء المذكورة، والله تعالى أعلم.
الثالث: ما أشار إليه الطبري، وهو: أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى اختلاف حال الرائي؛ فالمؤمن الصَّالح تكون نسبة رؤياه من ستة وأربعين، وغيرُ الصالح من سبعين؛ ولهذا لَمْ يَشترط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترطه في وصفه في رواية: «ستة وأربعين»، فإنَّه شرط فيها الصَّلاح في الرائي، وسكت عن اشتراطه في رواية السبعين.
قلتُ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لِمَا قدَّمناه من صحَّة احتمال حمل مطلق الرِّوايات على مقيّدها، وبما قد رُوي عن ابن عباس: «الرؤيا الصالحة جزء من أربعين»، وسكت فيه عن ذِكر وصف الرائي، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو حين ذَكَر سبعة وأربعين، وحديث العبَّاس حين ذكر خمسين...
قلتُ: وأشبه ما ذكر في ذلك: الوجه الثاني؛ مع أنَّه لَمْ تَثْلُجُ النفسُ به، ولا طاب لها.
وقد ظهر لي وجه خامس -وأنا أستخير الله في ذِكره- وهو: أن النبوَّة معناها: أن يُطلِعَ الله مَن يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه: إما بالمشافهة، وإما بواسطة مَلَك، أو بإلقاء في القلب، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخلق الله به إلَّا مَنْ خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف، والعلوم، والفضائل، والآداب، ونزَّهه عن نقائص ذلك؛ ولذلك قال سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} الحج: 75، وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: 124، وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90، وقال: {كُلًّا هَدَيْنَا} الأنعام: 84، وقال لنبيِّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: 4، فقد حصل من هذا: أن النبوَّة لَمْ يخصّ الله بها إلَّا أكمل خلقه، وأبعدهم عن النقائص.
ثم: إنه لمّا شرّفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية، فلمَّا كانت النبوَّة لا يخص الله بها إلَّا من حصلت له خصال الكمال أطلق على تلك الخصال نبوّة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «التؤدة والاقتصاد، والسَّمت الحسن جزء من النبوة»، أي: من خصال الأنبياء، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الإسراء: 55، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} البقرة: 253، فتفاضلهم بحسب ما وُهِبَ لكل واحد منهم من تلك الصفات، وشُرِّف به من تلك الحالات، وكلٌّ منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته، وكانوا تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فنائمهم يقظان، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان؛ فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق؛ غير أنه لمّا كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين، وكان أقلّ خصال كمال الأنبياء ما إذا اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا، وأكثر ما يكون ذلك سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث.
وعلى هذا: فمَن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء، كانت رؤياه جزءًا من نبوّة ذلك النبيّ، وكمالاتهم متفاضلة كما قرَّرناه، فنسبة أجزاء منامات الصَّادقين متفاوتة على ما فصَّلناه، وبهذا الذي أظهره الله لنا يرتفع الاضطراب، وبالله تعالى التوفيق. المفهم (6/12 -18).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
ثم إن الأنبياء -صلوات الله عليهم- يُخصُّون -وراء ما وصفتُ- بآيات يؤيدون بها؛ ليتميزوا بها عمَّن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه، فيكون لهم الخصوص من وجهين، إلا أن ما في حَيّز التعليم فهو النبوة، وما وقع في حَيّز التأييد فهو حجة النبوة.
والخصوص من قِبَل التعليم قد يكون في الجهة التي منها يلقون العلم، وبه تكون في العلم التي تلقى فيهم، والواقع من ذلك في جهة العلم وجوه:
*منها وهو أعلاها: درجة تكليم الله -عزَّ وجلَّ- مَن كلَّم منهم...
*ومنها: أن يُلهِمَ الله تعالى واحدًا منهم بالكلام يسمعه على كل شيء، فيجده في نفسه من غير موصل يقدمه إلا منه إليه بحسٍّ واستدلال.
*ومنها: أن يوحى إليه على لسان مَلَك فيراه فيكلمه، كما يكلم واحدًا من البشر صاحبه، فيقع له العلم بما يسمعه منه.
*ومنها: أن يأمر الملك فينفث في روعه...
*ومنها: إكمال عقل النبي وتقويته، وصيانته عن الخبل والجنون، فلا يعرضان له...
*ومنها: تقوية حفظه وذكره حتى يسمع السور التي لم يسمعها، ولا كلامًا مثلها منظومًا ينظم خارج عن نظوم كلام الناس، من المَلَك مرة واحدة، فيعيها طويلة كانت أو قصيرة، ويحويها قلبه، ولا ينسى منها حرفًا حتى يبلغها الناس كما أخذها من المَلَك.
*ومنها: أن يُعصَمَ من الزلل في رأيه، فإذا اجتهد في الحوادث رأيه لم يخطئ، ولم يحلم إلا بالصواب والحق.
*ومنها: إذكاء فهمه حتى يتسع لضروب من الاستنباط بما أوحي إليه، لا يبلغها فهم من دونه، وحقيق أن يكون كذلك...
*ومنها: إذكاء بصره حتى يدرك الشيء النائي الذي لا يقوى بصره في كل وقت، ولا بصر غيره على إدراك ما بعد ذلك البعد ولا ما دونه...
*ومنها: إذكاء سمعه حتى يسمع ما لا يقدر غيره على سماعه؛ لبعد المسابقة بينه وبينه...
*ومنها: إحضار النبي مشاهد لا يبلغ فوق البشر أن يبلغها، كالعروج بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، ورفع موسى حيًّا إلى السماء في قول أكثر المسلمين...
*ومنها: إذكاء شمه كما فعله بإسرائيل -صلوات الله عليه- بأن يوسف -عليه السلام- لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، وفصلت العير من مصر، قال أبوه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} يوسف: 94. المنهاج في شعب الإيمان (1/ 239).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: قد يحتمل أن تكون هذه التجزئة من طرق الوحي، ومنه ما سمع من الله دون واسطة، كما قال: {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} الشورى: 1، ومنه بواسطة المَلَك، كما قال: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الشورى: 51، ومنه ما يلقيه في القلب كما قال: {وَحْيًا} الشورى: 51، ثم منه ما يأتيه به المَلَك على صورته، ومنه ما يأتيه به على صورة الآدمي، وقد يعرفه كما جاء في غير حديث، ومنه ما يتلقاه منه وهو لا يعرفه حتى يعرفه آخر كحديث: «ردوا عليّ الرجل»، ومنه ما يأتيه به في منامه بحقيقة كقوله: «الرجل مطبوب (مسحور)»، ومنه ما يأتيه به بالمثال، وأحيانًا يسمع الصوت ويرى الضوء، وأحيانًا يغط، ويأخذه به في الرُّحَضاء (العَرَق الشديد)، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجرس، ومنه ما يلقيه روح القدس، إلى غير ذلك مما وقفنا عليه ومما لم نقف عليه، فتكون الرؤيا التي هي ضربُ مثالٍ جزءًا من ذلك العدد من أجزاء الوحي، والله أعلم. إكمال المعلم (7/ 214).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- معقبًا:
قلتُ: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البُعد والتساهل، فإن تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوة، وأكثر هذه الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء لكونه يعرف المَلَك، أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته، أو على غير صورته، ثم مع هذا التكلف العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين. المفهم (6/ 16).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
يجب أن نعلم ما معنى كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة، فلو كانت جزءًا من ألف جزء منها لكان ذلك كثيرًا، فنقول -وبالله التوفيق-: إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى: أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لا كذب فيه كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب. شرح صحيح البخاري (9/ 517).
وقال المازري -رحمه الله-:
ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر: وهو أنّ ثمرة المناماتِ الخبر بالغَيب لا أكثَر، وإن كان يتبع ذلك إنذار وَتَبشِير، والإخبار بالغيب أحَد ثمرات النبوّة وأحد فوائدها، وهو في جنب فوائد النبوّة والمقصود بها يسير؛ لأنّه يصح أن يبعَثَ نبي ليشرع الشرائع ويبينّ الأحكام، ولا يخبر بغيب أبدًا، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوّته ولا مبطلًا للمقصود منها، وهذا الجزء من النبوّة وهو الإخبار بالغيب إذَا وقع فلا يكون إلا صدقًا، ولا يقع إلا حقًّا، والرّؤيا ربما دلّت على شيء ولم يقع ما دلّت عليه إمّا لِكَونهَا مِن الشّيطان أو من حَدِيثِ نَفسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة المنام، فَقد صار الَخبر بالغَيب أحَدَ ثمرات النّبوءة، وهو غير مقصود فيها، ولكنه لا يقع إلا حَقًّا، وثمرة المنام الإخبار بالغيب ولكنه قد لا يقع صدقًا، فتقدر النّسبة في هذا بقدر ما قدَّره الشرع بهذا العدد على حسب ما أطلعه الله -سبحانه- عليه؛ ولأنه يعلم من حقائق نبوّته ما لا نعلمه نحن. المعلم بفوائد مسلم (3/ 204).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فإن قيل: فما معنى اختلاف الأجزاء في ذلك في القلة والكثرة؟
قيل: وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين، لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل؛ مثل مَن رأى أنه يعطى شيئًا في المنام فيعطى مثله بعينه في اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق في تأويلها، ولا رمز في تعبيرها.
والقسم الثاني: ما يراه من المنامات المرموزة البعيدة المرام في التأويل، وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير؛ لِبُعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا؛ لأنه إذا قلّت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط في تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بَعُدت بمقدار ذلك، وخفي تأويلها، والله أعلم بما أراد نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وقد عرضتُ هذا القول على جماعة من أصحابي ممن وثقتُ بدينه وفهمه فحسَّنوه، وزادني فيه بعضهم مرة، وقال لي: الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها نبينا -عليه السلام- جبريل بالوحي، فيكلمه بكلام فيعيه بغير كلفة ولا مشقة، ومرة يلقي إليه جُمَلًا وجوامع يشتد عليه فكُّها وتبيينها، حتى تأخذه الرُّحَضاء (العَرَق الشديد)، ويتحدر منه العرق مثل الجُمان في اليوم الشديد البرد، ثم يعينه الله على تبيين ما أُلقي إليه من الوحي، فلما كان تلقيه -عليه السلام- للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقي المؤمن من عند المَلَك الآتي بها من أُمِّ الكتاب بهذه الصفة، والله أعلم. شرح صحيح البخاري (9/ 517).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أجزاء النبوة مما لا يَعلمها بشر إلَّا الأنبياء، ومن أتى ذلك من الملائكة، فانتساب الرؤيا منها، فكم من التجزئة لا ينتهي إليه طوق البشرية... والقَدْر الذي أراده النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لنا؛ لأنَّه اطِّلاع على الغيب، وذلك قوله: «لم يبقَ بعدي من النبوة إلا المبشرات»، وتفصيل النسبة تختص به درجة النبوة. عارضة الأحوذي (9/ 125- 126).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «جزء مِن ستة وأربعين جزءًا من النبوة» كذا وقع في أكثر الأحاديث، ولمسلم من حديث أبي هريرة: «جزء من خمسة وأربعين» أخرجه من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين عنه، وللبخاري من طريق عوف، عن محمد بلفظ: «ستة» كالجادة، ووقع عند مسلم أيضًا من حديث ابن عمر: «جزء من سبعين جزءًا»، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود موقوفًا، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه مرفوعًا، وله من وجه آخر عنه: «جزءٌ من ستة وسبعين» وسندها ضعيف، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا من رواية حُصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفًا كذلك، وأخرجه أحمد مرفوعًا، لكن أخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن أبي صالح كالجادة، ولابن ماجه مثل حديث ابن عمر مرفوعًا، وسنده لَيِّنٌ، وعند أحمد، والبزار عن ابن عباس بمثله، وسنده جيد، وأخرج ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا: «جزء من ستة وعشرين»، والمحفوظ من هذا الوجه كالجادة، وهو للبخاري أيضًا، ومثله لمسلم من رواية شعبة، عن ثابت، وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبري في تهذيب الآثار، من طريق الأعرج، عن سليمان بن عَرِيب -بمهملة، وزانُ عظيم- عن أبي هريرة كالجادّة، قال سليمان: فذكرته لابن عباس، فقال: «جزء من خمسين». فقلتُ له: إني سمعتُ أبا هريرة، فقال ابن عباس: فإني سمعتُ العباس بن عبد المطلب يقول: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين جزءًا من النبوة». وللترمذي والطبري من حديث أبي رَزِين الْعُقيلي: «جزء من أربعين»، وأخرجه الترمذي من وجه آخر كالجادة، وأخرجه الطبري من وجه آخر، عن ابن عباس: «أربعين»، وللطبري من حديث عُبادة: «جزء من أربعة وأربعين»، والمحفوظ عن عبادة كالجادة، وأخرج الطبري وأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «جزء من تسعة وأربعين»، وذكره القرطبي في المفهم بلفظ: «سبعة» بتقديم السين.
فحصلنا من هذه الروايات على عشرة أوجه، أقلها: «جزء من ستة وعشرين»، وأكثرها: «من ستة وسبعين»، وبين ذلك: «أربعين» و«أربعة وأربعين» و«خمسة وأربعين» و«ستة وأربعين»، و«سبعة وأربعين» و«تسعة وأربعين» و«خمسين» و«سبعين»، أصحها مطلقًا الأول، ويليه السبعين.
ووقع في شرح النووي: وفي رواية عبادة: «أربعة وعشرين» وفي رواية ابن عمر: «ستة وعشرين»، وهاتان الروايتان لا أعرف مَن أخرجهما، إلَّا أن بعضهم نسب رواية ابن عمر هذه لتخريج الطبريّ.
ووقع في كلام ابن أبي جمرة أنه ورد بألفاظ مختلفة، فذكر بعض ما تقدم، وزاد في رواية: «اثنين وسبعين»، وفي أخرى: «اثنين وأربعين»، وفي أخرى: «سبعة وعشرين»، وفي أخرى: «خمسة وعشرين»، فبلغت على هذا خمسة عشر لفظًا.
وقد استُشكل كون الرؤيا جزءًا من النبوة؛ مع أن النبوة انقطعت بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فقيل في الجواب: إن وقعت الرؤيا من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقةً، وإن وقعت من غير النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز...
وذكر الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة وجهًا آخر، ملخّصه: أن النبوة لها وجوه من الفوائد الدنيوية والأخروية خصوصًا وعمومًا، منها ما يُعلم، ومنها ما لا يُعلم، وليس بين النبوة والرؤيا نسبة إلَّا في كونها حقًّا، فيكون مقام النبوة بالنسبة لمقام الرؤيا بحسب تلك الأعداد راجعة إلى درجات الأنبياء، فنِسبتها من أعلاهم، وهو من ضَمّ له إلى النبوة الرسالة أكثر ما ورد من العدد، ونسبتها إلى الأنبياء غير المرسلين أقلّ ما ورد من العدد، وما بين ذلك، ومن ثَمَّ أطلق في الخبر النبوة، ولم يقيِّدها بنبوة نبيّ بعينه.
ورأيتُ في بعض الشروح أن معنى الحديث: أن للمنام شَبَهًا بما حصل للنبي، وتميَّز به عن غيره بجزء من ستة وأربعين جزءًا.
قال: فهذه عدة مناسبات، لَمْ أرَ مَن جَمَعها في موضع واحد، فللَّه الحمد على ما ألْهَمَ، وعَلّم، ولم أقف في شيء من الأخبار على كون الإلهام جزءًا من أجزاء النبوة، مع أنه من أنواع الوحي، إلَّا أن ابن أبي جمرة تعرّض لشيء منه. فتح الباري (12/ 362 - 368).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضادّ، وتدافع، والله أعلم؛ لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض مَنْ يراها على ستة وأربعين جزءًا، أو خمسة وأربعين جزءًا، أو أربعة وأربعين جزءًا، أو خمسين جزءًا، أو سبعين جزءًا، على حَسَب ما يكون الذي يراها من صِدْق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحُسن اليقين، فعلى قَدْر اختلافَ الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، والله أعلم، فمن خَلَصَت له نيّته في عبادة ربه، ويقينه، وصِدْق حديثه كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك، والله أعلم، قال الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الإسراء: 55.
(ثم أخرج بسنده)... عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «كان من الأنبياء مَن يسمع الصوت، فيكون به نبيًّا، وكان منهم مَن يرى في المنام، فيكون بذلك نبيًّا، وكان منهم مَن يُنفَث في أذنه وقلبه، فيكون بذلك نبيًّا، وإن جبرئيل يأتيني، فيكلمني، كما يكلِّم أحدكم صاحبه».
هذا على أنَّه يكلمه جبريل كثيرًا بالوحي في الأغلب من أمره، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن روح القدس نَفَث في رُوعي (نفسي)، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُم».
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيل له: كيف يأتيك الوحي؟ قال: «يأتيني الوحي أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفْصَم عني، وقد وعيت ما قال». وقد كان يتراءى له جبريل من السحاب، وكان أولُ ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا، فتأتي كأنها فَلَق الصبح، وربما جاء جبريل في صفة إنسان حسن الصورة، فيكلمه، وربما اشتدّ عليه، حتى يَغِطّ غطيط البَكْر (الغطيط: تردد النَّفَس فِي الحلق، والبَكْر: الفتيّ من الإبل)، ويئنّ، ويَحْمَرَّ وجهه، إلى ضروب كثيرة يطول ذكرها.
وقد يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا جزءًا من النبوة؛ لأنَّ فيها ما يُعجِز، ويمتنع؛ كالطيران، وقلب الأعيان؛ ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل.
وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، وأن التصديق بها حقّ، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا أعلم بين أهل الدين والحقّ من أهل الرأي والأثر، خلافًا فيما وصفت لك، ولا ينكر الرؤيا إلَّا أهل الإلحاد، وشِرْذمة من المعتزلة. التمهيد (1/520 -522).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
هذا عندي من الأحاديث المتشابهة التي نؤمن بها، ونكل معناها المراد إلى قائله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نخوض في تعيين هذا الجزء من هذا العدد، ولا في حكمته خصوصًا. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 284).