الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

لما نزلتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} البقرة:187، قال له عَدَيُّ بن حاتمٍ: «يا رسولَ اللهِ، إني أجعلُ تحتَ وسادتي عِقَالينِ: عِقَالًا أبيضَ وعِقَالًا أسودَ، أعرفُ الليلَ من النهارِ، فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ وسادتَكَ لعريضٌ، إنما هو سوادُ الليلِ، وبياضُ النهارِ».


رواه البخاري برقم: (1916)، ومسلم برقم: (1090) واللفظ له، عن عَدَيِّ بن حاتم -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


{الْخَيْطُ}:
واحد الخيوط، وخِطْتُ الشيء أخيطه خياطة فهو مخيط ومخيوط. جمهرة اللغة، لابن دريد الأزدي (1/ 611).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
(خيط) الخاء والياء والطاء: أصل واحد يدل على امتداد الشيء في دقة، ثم يحمل عليه؛ فيقال في بعض ما يكون منتصبًا. فالخيط معروف، والخيط الأبيض: بياض النهار، والخيط الأسود: سواد الليل. ويقال: لما يسيل من لعاب الشمس: خيط باطل. مقاييس اللغة (2/ 233).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الخيط: السلك، والجمع: أخياط وخيوط وخيوطة. لسان العرب (7/ 298).

«وسادتي»:
الوساد والوسادة: الْمَخَدَّة، والجمع: وسائد، وقد وسدْتُهُ الشيء فتوسَّدَهُ، إذا جعلته تحت رأسه، فكنى بالوساد عن النوم؛ لأنه مظنته. النهاية، لابن الأثير (5/ 182).

«عِقَالين»:
العقال: هو الحبل. مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض (2/ 100).

«لعريض»:
أي: إنَّ نومك إذًا لطويل، كنَّى بالوساد عن النوم، ومعنى العريض: السعة والكثرة؛ إذ لم يرد به ضد الطول. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 122).
قال أبو عبيد الهروي -رحمه الله-:
كَنَّىْ به عن السِّمن الذي يزيل الفطانة. الغريبين في القرآن والحديث (4/ 1258).


شرح الحديث


قوله: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} البقرة:187»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
إنما فعل هذا في ليل الصوم متأولًا قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} البقرة:187، فجرى في ذلك على ظاهر الاسم المطلق، ولم يعتبره بما هو مضمَّن به من قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}. أعلام الحديث (3/ 1806-1807).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} نزل متصلًا بقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة:187، وأن عدي بن حاتم حمل الخيط على حقيقته، وفهم من قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من أجل الفجر، ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود، وهذا بخلاف حديث سهل بن سعد، فإن فيه: أن الله لم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} إلا منفصلًا عن قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولما وقع لهم الإشكال حينئذٍ أنزل الله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} رافعًا لذلك الإشكال، وكأن الحديثين واقعتان في وقتين.
ويصح الجمع بأن يكون حديث عدي متأخرًا عن حديث سهل، وأن عديًّا لم يسمع ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجرَّدة، ففهمها على ما قررناه، فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الخيط الأبيض كناية عن بياض الفجر، والخيط الأسود كناية عن سواد الليل، وأن معنى ذلك أن يفصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا: فيكون: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلقًا في {يَتَبَيَّنَ}، وعلى مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال متعلقًا بمحذوف، وهكذا هو معنى جوابه في حديث سهل.
ويحتمل أن يكون الحديثان قضية واحدة، وذكر بعض الرواة: {مِنَ الْفَجْرِ} متصلًا بما قبله، كما ثبت في القرآن، وإن كان قد نزل متفرقًا؛ كما بينه حديث سهل -والله تعالى أعلم-. المفهم (3/ 147-148).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة:187، عمدتُ ... إلخ» ظاهره: أن عديًّا كان حاضرًا لَمَّا نزلت هذه الآية، وهو يقتضي تقدم إسلامه، وليس كذلك؛ لأن نزول فرض الصوم كان متقدمًا في أوائل الهجرة، وإسلام عَدِيٍّ كان في التاسعة أو العاشرة كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فإما أن يقال: إن الآية التي في حديث الباب تأخَّر نزولها عن نزول فرض الصوم، وهو بعيد جدًّا، وإما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله: «لما نزلت» أي: لَمَّا تُلْيَتْ عليَّ عند إسلامي، أو لَمَّا بلغني نزول الآية، أو في السياق حذف تقديره: لما نزلت الآية ثم قدمتُ فأسلمتُ وتعلمتُ الشرائع عمدتُ. فتح الباري (4/ 132-133).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة:187، أي: حتى يظهر لكم بياض النهار من سواد الليل، وسمَّيْا خيطين؛ لأن كل واحد منهما يبدو في الأفق ممتدًّا كالخيط؛ فهو تشبيه: شبَّه ما يبدو من البياض وما يمتدّ معه من ظلمة الليل بخيطين أبيض وأسود في الامتداد.
ونزلت هذه الآية في صرمة بن قيس الذي كان عاملًا في أرض له وهو صائم، فلما جاء المساء رجع إلى أهله فلم يجد طعامًا؛ فغلبته عيناه من التعب، فلما حضر الطعام واستيقظ كره أن يأكل خوفًا من الله تعالى؛ فبات طاويًا وأصبح يعمل؛ فما انتصف النهار حتى غُشِيَ عليه، فأخبر النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- فنزلت هذه الآية. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (10/ 70).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
لما نزلت هذِه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} (حتى) لانتهاء غاية تحريم الأكل والشرب والجماع بتبين الفجر الصادق، {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}، وهو ما يبدو من الفجر المعترض بالأفق، {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. شرح سنن أبي داود (10/ 337).
وقال الزمخشري -رحمه الله-:
قوله {مِنَ الْفَجْرِ} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود؛ لأنَّ بيان أحدهما بيان للثاني، ويجوز أن تكون {مِنَ} للتبعيض؛ لأنه بعض الفجر وأوَّله.
فإن قلتَ: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟
قلتُ: قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسدًا مجاز، فإذا زدت من فلان رجع تشبيها.
فإن قلتُ: فلم زِيْدَ {مِنَ الْفَجْرِ} حتى كان تشبيهًا؟
وهلَّا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه، وأدخل في الفصاحة؟
قلتَ: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر {مِنَ الْفَجْرِ} لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد {مِنَ الْفَجْرِ}؛ فكان تشبيهًا بليغًا، وخرج من أن يكون استعارة.
فإن قلتَ: فكيف التَبَسَ على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: «عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي؛ فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما؛ فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبرته، فضحك وقال: إن كان وسادك لعريضًا»، وروي: «إنك لعريض القفا، إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل»؟
قلتُ: غفل عن البيان؛ ولذلك عرَّض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قفاه؛ لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. الكشاف (1/231).

قوله: «يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
إنما جعلهما تحت وساده لاعتنائه بهما، ولينظر إليهما وهو على فراشه من غير كلفة قيام ولا طلب، فكان يرفع الوساد إذا أراد أن ينظر إليهما.
والعقال: الخيط؛ سمي بذلك لأنه يعقل به؛ أي: يربط به ويحبس. المفهم (3/ 148).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«عقالًا» هو عِقالُ البعير، وهو ما يُشَدُّ به من حبلٍ ونحوه. مصابيح الجامع (8/ 161).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«عقالًا أبيض وعقالاً أسود» العقال: ما يربط به الإبل من حبال من شعر أو غيره، وفعل من فعل ذلك، وتأوله على قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} البقرة:187، حتى نزلت: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أن المراد به: الليل والنهار، ليس أن هذا كان الشرع أولاً، ثم نسخ ذلك بقوله: {مِنَ الْفَجْر} على ما أشار إليه الطحاوي والداودي أثناء كلامهما، إنما المراد بفعل ذلك، وتأويله ممن لا علم عنده، ولا فقه من الأعراب، أو من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الليل والنهار؛ إذ لا يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة، ألا ترى إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على عدي، وقوله: «إن وسادك لعريض، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار». إكمال المعلم (4/ 25).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«جعلت» أي: العقالين، و«أن كان» بفتح الهمزة وكسرها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (17/ 25).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي رواية البخاري: «لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة:187، عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي...»، وفي رواية مجالد: «فأخذتُ خيطين من شعر»، «عقالًا أبيض، وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار»، أي: أتبين انسلاخ الليل من النهار، حتى أترك الأكل والشرب. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(20/ 491-492).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قد روى أحمد من طريق مجالد بلفظ: «علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة والصوم فقال: صلِّ كذا، وصُمْ كذا، فإذا غابت الشمس؛ فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود»، وقال: «فأخذتُ خيطين...» الحديث، وذكر الخيطين في هذا الحديث مبين للعقالين، والمراد بهما: الحبل، سُمِّيَ بذلك لأنه يعقل به، أي: يربط به ويحبس.
«فوضعتهما تحت وسادتي» أي: حين نمت، «فنظرت» يعني: إليهما في الليل، «فلم أتبين»، رواية البخاري: «فلا يستبين لي فذكرت ذلك»، رواية البخاري: «فغدوت إلى رسول الله فذكرت له ذلك» لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، «فضحك»، أي: تبسَّم تعجُّبًا من حمله الآية على ظاهرها.
فإن قلتَ: كيف التبس على عدي هذا مع بيانه حتى عمد إلى العقالين؟
قال الزمخشري: غفل عن البيان؛ ولذلك عرَّض رسول الله قفاه؛ لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. شرح سنن أبي داود (10/ 337-338).

قوله: «إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل، وبياض النهار»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «إن وسادَك لعريض» لقوله: «أجعل تحت وسادتي عقالين» أي: إن جعلتَ تحت وسادك الخيطين اللذين أراد الله -وهما الليل والنهار-؛ فوسادك الذي يعلوهما ويغطيهما عريض، وهو المعني بقوله في الحديث الآخر الذي لم يذكره مسلم أو ذكره البخاري: «إنك لعريض القفا»؛ لأن من يكون وساده هذا على عِظَمِهِ، يكون قفاه من نوعه، وعلى مجانسته، وقد جاء في الرواية الأخرى: «إنك لضخم»، لا ما ذهَبَ إليه بعضهم من أنها كناية عن الغباوة، أو عن السِّمَن؛ لكثرة أكله إلى بيان الخيطين، وقيل: أراد بالوساد: النوم، أي: أن نومك كثير، وقيل: أراد به: الليل، وهذان التفسيران يبعدان في هذا الموضع، كأنه قال: إن من لم يكن النهار عنده حتى يتبين له العقالان طال ليله، وكثر نومه، وقيل: أراد بالوسادِ هنا: القفا، كما نص عليه في الحديث الآخر. إكمال المعلم (4/ 25-26).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصواب: ما اختاره القاضي -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (7/ 202).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
بيان للخيط الأسود؛ لأن بيان أحدهما بيان للآخر، أو الفجر فيه اختلاط من سواد الليل وبياض النهار، وهذا تشبيه لا استعارة، وفيه جواز تأخير البيان.
فإن قلتَ: يعلم منه أن فهمهم من الخيطين الحقيقة كان قبل النزول {مِنَ الْفَجْرِ} البقرة:187؛ فلِمَ استحقوا التعريض بالبلاهة؟
قلتُ: الربط في الرجل كان متقدمًا على النزول، وأصحابه ما عرضوا بها، والجعل تحت الوسادة بعد النزول وصاحبه هو المعرض بها.
فإن قلتَ: كيف التبس عليه؟
قلتُ: غفل عن البيان؛ ولذلك عرَّض رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعرض قفاه الدال على البلاهة.
فإن قلتَ: عريض القفا كناية عن الأبله أم مجاز؟
قلتُ: كناية لإمكان إرادة الحقيقة أيضًا.
فإن قلتَ: ما حكم عرض الوسادة؟
قلتُ: هو كناية عن عرض القفا؛ فهو كناية عن كناية. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (17/ 26).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «إن وسادك إذاً لعريض» فيه قولان:
أحدهما: يريد أن نومك إذًا لكثير، وكنى بالوساد عن النوم إذ كان النائم يتوسَّده، أو يكون أراد: أن ليلك إذًا لطويل، إذا كنتَ لا تمسك عن الأكل والشرب حتى يتبين لك سَواد العقال من بياضه.
والقول الآخر: أنه كنى بالوساد عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوساد إذا نام، والعرب تقول: فلان عريض القفا إذا كانت فيه غباوة وغفلة. معالم السنن (2/ 105).
وقال الخطابي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «إن وسادك لعريض» يريد: إن نومك إذًا لطويل، كنى بالوساد عن النوم، إذ كان النائم قد يتوسُّده، والعرض في مثل هذا إذا لم يرد به خلاف الطول، كان معناه: السعة والكثرة. أعلام الحديث (3/ 1807).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إن وسادك لعريض» حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم، وكأنه فهم منه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه، وربما عضدوا هذا بما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: «إنك لعريض القفا»، وليس الأمر كذلك؛ فإنه حمل اللفظ على حقيقته اللسانية؛ إذ هي الأصل؛ إذ لم يتبين له دليل التجوز.
ومن تمسك بهذا الطريق لم يستحق ذمًّا، ولا ينسب إلى جهل، وإنما عنى بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم والله أعلم- أن وسادك إن غطى الخيطين اللذين أراد الله، اللذين هما الليل والنهار، فهو إذن وساد عريض واسع؛ إذ قد شملهما وعلاهما، ألا تراه قد قال على إثر ذلك: «إنما هو سواد الليل وبياض النهار»؛ فكأنه قال: فكيف يدخلان تحت وساد؟! وإلى هذا يرجع قوله: «إنك لعريض القفا»؛ لأن هذا الوساد الذي قد غطى الليل والنهار بعرضه لا يرقد عليه، ولا يتوسده إلا قفا عريض حتى يناسب عرضه عرضه، وهذا عندي أشبه ما قيل فيه وأَلْيَقُ.
ويدل أيضًا عليه: ما زاده البخاري قال: «إن وسادك إذًا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك»، وقد أكثر الناس فيه. المفهم (3/ 148-149).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«إنَّ وِسادَك إذًا لعريض» تمسك عديٌّ بمطلق اللفظ، ولم يعتبر ما قُيِّدَ به، وهو قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}، وقد وقع في الرواية الثانية: أنه لم يكن نزلَ قولُه: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ فهذا مما يبسط عذره...
وقوله في الرواية الثانية: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا»؛ فسره الخطابي بالبلادة والغفلة، وإنما يرجع إلى ما تقدَّم، أو لأنه إذا كان وسادُه عريضًا، فقفاه يكون عريضًا. مصابيح الجامع (8/ 161-162).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إن وسادك لعريض» كنى بالوساد عن النوم؛ لأن النائم يتوسد، أي: إن نومك لطويل كثير، وقيل: كنى بالوساد عن موضع الوساد من رأسه وعنقه، وتشهد له الرواية التي فيها: «إنك لعريض القفا»؛ فإن عرض القفا كناية عن السِّمَن، وقيل: أراد من أكل مع الصبح في صومه أصبح عريض القفا؛ لأن الصوم لا يؤثر فيه، ويقال: يكنى عن الأبله بعريض القفا، فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرطا قيل: إنه دليل الغباوة والحماقة، كما أن استواءه دليل على علو الهمة وحسن الفهم، وهذا من قبيل الكناية الخفية، والفرق بين الكناية والمجاز أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم، وهكذا فرق السكاكي وغيره. عمدة القاري (10/ 293).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«إنما هو» أي: الخيط الأسود والخيط الأبيض، «الليل والنهار»، أي: سواد الليل وبياض النهار، وحديث عدي هذا يقتضي أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} نزل متصلًا من قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} البقرة:187؛ لأنه قد ثبت أن عديًّا تأخر إسلامه إلى السنة التاسعة أو العاشرة، فلعل عديًّا حمل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} على السببية، أو نسي قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} حتى ذكره به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما حديث سهل بن سعد الذي أخرجه البخاري في الصحيح قال: «أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة:187، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}» الحديث، فإنه ظاهر في أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} نزل بعد ذلك؛ برفع ما وقع لهم من الإشكال، وقد قيل: إنه كان بين نزولهما عام كامل.
والجواب عنه: أن عديًّا كان متأخر الإِسلام، ولم يبلغه ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجردة ففهمها على ما وقع له، فبيَّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} أن ينفصل أحد الخيطين عن الآخر، وأن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلق بقوله: «يتبين». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (8/ 488-489).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه وجوب التوقف عند الألفاظ المشتركة، وطلب البيان فيها، وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها، وأكثر استعمالاتها؛ إلا عند عدم البيان فيها، وقد كان البيان عتيدًا بوجود النبي -عليه السلام-، قال أبو عُبيد: الخيط الأبيض: الفجر الصادق، والخيط الأسود: الليل، والخيط: اللون، ففي هذا وفي قوله: «سواد الليل وبياض النهار»: دليل أن ما بعد الفجر من النهار. إكمال المعلم (4/ 25).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا