الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«والذي نفسي بيدِهِ لا يؤمنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لجارِهِ -أو قال: لأخيهِ- ما يُحِبُّ لنفْسِهِ».


رواه البخاري برقم: (13)، ومسلم برقم: (45) واللفظ له، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «والذي نفسي بيده»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «والَّذِي نفسي بيده» فيه جواز الحلف عَلى الأمر المهم توكيدًا، وإن لم يكن هناك مُسْتَحْلِف. النكت على صحيح البخاري (1/ 247).
وقال السَّفِيري -رحمه الله-:
قوله «والذي نفسي بيده» أي: وحق الذي نفسي بيده، وهو الله -عز وجل-، وفي هذا: دليل على جواز الحلف على الأمر المهم توكيدًا له، وإن لم يكن هناك مُستحلفًا. المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (1/ 404).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«والذي نفسي بيده» أي: أقسمتُ بالله الذي رُوحي بيده؛ لا يكمل إيمان عبدٍ من عباد الله تعالى. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 381).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا القسم بهذه الصيغة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم به كثيرًا، ومضمونه: أنني أقسم قسمًا إن كنتُ غير مُصيب فيه فإني أهلك وأموتُ، يعني: قوله: «والذي نفسي بيده» كأنه يقول: إن كنتُ كاذبًا فليأخذ الله نفسي؛ لأن النفس بيد الله -عزَّ وجلَّ-؛ فيكون هذا من أَعظم القسم، «والذي نفسي بيده»، وهو الله -عزَّ وجلَّ-. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 286).

قوله: «لا يؤمن عَبدٌ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يؤمن» أي: إيمانًا كاملًا. النكت على صحيح البخاري (1/ 247).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: لا يكمُل إيمانه. شرح المصابيح (5/ 297).
وقال العيني -رحمه الله-:
فقوله: «لا يؤمن» نفْيٌ، وهي جملة من الفعل والفاعل، والفاعل هو «أحد»، كما ثبت في بعض نسخ البخاري، أو: «عبد»، كما وقع في إحدى روايتي مسلم، والمعنى: لا يؤمن الإيمان الكامل؛ لأن أصل الإيمان لا يزول بزوال ذلك، أو التقدير: لا يكمل إيمان أحدكم. عمدة القاري (1/ 142).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لا يؤمن عبد» هذا نفي كمال الإيمان، لا نفي أصل الإيمان؛ ولأن أحد العدوين لا يحب خير العدو، بل يريد وصول الضرر إليه، ومع هذا لا يكون كافرًا بهذه العداوة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 219).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يؤمن عبد» قالوا: لا يؤمن الإيمان التَّامَّ، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3181).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أي: لا يتم إيمانه حتى يكون بهذه الصفة للمؤمنين، من كفه الأذى عنهم، وبذله المعروف لهم، ومودّته الخير لجميعهم، وصرف الضر عنهم. إكمال المعلم (1/ 282).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
معناه: أنه لا يتم إيمان أحد الإيمان التام الكامل، حتى يضم إلى سلامة الناس منه إرادته الخير لهم، والنصح لجميعهم فيما يحاوله معهم.
ويستفاد...: أن الأصل في الحقوق النفسية والمالية المنع؛ فلا يحل شيء منها إلا بوجه شرعي -والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم-. المفهم (1/ 224).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «لا يؤمن» أي: لا يكمل إيمانه؛ إذ من يغش المسلم ولا ينصحه مرتكب كبيرة، ولا يكون كافرًا بذلك؛ كما بيناه غير مرة.
وعلى هذا: فمعنى الحديث: أن الموصوف بالإيمان الكامل: من كان في معاملته للناس ناصحًا لهم، مريدًا لهم ما يريده لنفسه، وكارهًا لهم ما يكرهه لنفسه، وتتضمن أن يفضلهم على نفسه؛ لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لغيره ما يحب لنفسه، فقد أحب أن يكون غيره أفضل منه، وإلى هذا المعنى أشار الفضيل بن عياض لَمَّا قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك، فما أديت لله الكريم النصيحة، فكيف وأنت تودُّ أنهم دونك؟! المفهم (1/ 227).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إن الإيمان الكامل الذي وصل بالمؤمن إلى حب الله ورسوله، يدفعه حتمًا إلى أن يُحِبَّ للمسلمين ما يحب لنفسه من خيري الدنيا والآخرة.
أما الذين يحقدون على إخوانهم المسلمين، أو يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يسعون لبخس إخوانهم والتعالي عليهم، فهم ضعاف الإيمان، حظُّهم منه في الآخرة قليل، مصداقًا لقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص:83، إن الإيمان الكامل ينزع الغل والحقد والحسد من قلب صاحبه، ويملؤه برغبة الخير، وبحب المعروف للناس، فالإيمان محبة ومودة وإخاء، ومجتمع إنساني فاضل كريم.
إن الحديث يعالج القلوب من هذه الأمراض الخبيثة، والقلوب إذا صلحت صلح الجسد كله؛ لأن الأعضاء آلات وجنود للقلوب، فإذا ما حل حب الخير للمسلم في قلب المسلم تحركت الجوارح لتنفيذ ميوله وتحقيق رغباته، فنطق اللسان بما فيه صلاحه والدفاع عنه، وامتدَّت اليد والرجل إلى ما يوصل النفع إليه، ذاك هدف الحديث، بناء مجتمع متآلف متعاون متراحم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 167).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- أيضًا:
«لا يؤمن أحدكم» أي: لا يؤمن إيمانًا كاملًا، أما أصل الإيمان فإنه يحصل لمن لم يُحصِّل هذه الصفة، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض وكثير في كلام العرب، كقولهم: فلان ليس برجل أو ليس بإنسان. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 167).

قوله: «حتى يُحب لجاره -أو قال: لأخيه- ما يحب لنفسه»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «حتى» ههنا جارَّة لا عاطفة ولا ابتدائية، وما بعدها خلاف ما قبلها، و(أن) بعدها مضمرة؛ ولهذا نصب: «يحب»، ولا يجوز رفعه هاهنا؛ لأن عدم الإيمان ليس سببًا للمحبة.
قوله: «لأخيه» متعلق بقوله: «يحب».
قوله: «ما يحب» جملة في محل النصب؛ لأنها مفعول «يحب»، وقوله: «لنفسه» يتعلق به، وكلمة «ما» موصولة، والعائد محذوف، أي: ما يحبه، وفيه حذف تقديره: ما يحب من الخير لنفسه.
فإن قلتَ: كيف يتصور أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ وكيف يحصل ذلك المحبوب في محلين وهو محال؟ قلتُ: تقدير الكلام: حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه. عمدة القاري (1/ 142).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حتى يحب لأخيه» أي: المسلم، «ما يحب لنفسه» أي: مثل جميع ما يحبه العبد لنفسه. مرقاة المفاتيح (7/ 3108).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«حتى يحب» ويرضى أن يحصل «لجاره»، وهو من بيته ملاصق لبيتك، أو قريب منه إلى أربعين دارًا على الخلاف المقرر في الفروع في باب الوصية للجار. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 381).
وقال النووي -رحمه الله-:
هكذا هو في مسلم: «لأخيه -أو لجاره-» على الشك، وكذا هو في مسند عبد بن حميد على الشك، وهو في البخاري وغيره: «لأخيه» من غير شك، قال العلماء -رحمهم الله-: معناه: لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير». شرح صحيح مسلم (2/ 16).
وقال العيني -رحمه الله-:
المحبة: مطالعة الْمِنَّة من رؤية إحسان أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة؛ التي ابتدأ بها من غير عمل استحقها به، وستره على معايبه، وهذه محبة العوامِّ، قد تتغير بتغير الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحب وإن نقصه نقصه، وأما محبة الخواص فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حق أخيه المسلم، فهذه لا تتغير؛ لأنها لله تعالى لا لأجل غرض دنيوي.
ويقال: المحبة ههنا هي مجرَّد تمني الخير لأخيه المسلم، فلا يعسر ذلك إلا على القلب السقيم غير المستقيم. عمدة القاري (1/ 141).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والمباحات؛ يدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير» إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها؛ وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدَّغِل. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3181).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
وهذا ‌قد ‌يُعَدُّ ‌من ‌الصعب ‌الْمُمْتَنع، وَليس كذلك، إِذْ معناه -وَالله أعلم-: لَا يكمل إِيمَان أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَام مثل مَا يحب لنَفسِهِ، وَالْقِيَام بذلك يحصل بِأَن يحب لَهُ حُصُول مثل ذلك من جِهَة لَا يزاحمه فِيهَا؛ بِحَيْثُ لَا ينقص النِّعْمَة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على الْقلب السَّلِيم، وَإِنَّمَا يعسر على الْقلب الدَّغِل (الفاسد والشر) -عَافَانَا الله وإخواننا أجمعين آمين-. صيانة صحيح مسلم (ص:203).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: ظاهره التسوية وباطنه التفضيل؛ لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل، فإذا أحب لغيره ما يحب لنفسه كان هو من المفضولين، وقد روي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض أنه قال لسفيان بن عيينة -رحمهما الله-: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك فما أديت لله الكريم نصيحة، فكيف وأنت تود أنهم دونك؟! إكمال المعلم (1/ 282).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» أي: من الخير، وقد ذُكر في بعض الروايات صريحًا، قالوا: هذا متعسر بل ممتنع، أي: غير واقع حصوله ولا يتصور فيما يعتاد الناس من مقتضيات طبائعهم، ولكن ينبغي أن يعلم أن الخير خيران: خير الآخرة، وخير الدنيا، أما خير الآخرة فهو النجاة من عذاب النار، والفوز بدرجات الجنة، وما يلزمهما من الإيمان والعمل الصالح، وخير الدنيا الأهل والأولاد والأسباب، والأمتعة مما يكون وسيلة وواسطة لخير الآخرة، والمؤمن يحب هذا لنفسه ولجميع إخوانه المؤمنين.
وأما من يريد لنفسه بتسويل الشيطان وشره من المال والجاه مما يبعثه على الظلم والفساد والوبال والنكال، ويحب ذلك؛ فلا يحبه ويريده للمؤمنين، بل ينبغي أن لا يريده ويحبه لنفسه أيضًا، أو يكون رجل يكون المال في حقه سببًا للخيرات والجاه- يكون باعثًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون رجل آخر يبعثه ذلك على الفسق والطغيان والظلم والعتو، فلا ينبغي أن يريده لذلك الرجل كما يريده لنفسه.
وبالجملة: الذي يكون في نفس الآدمي ضيق وضنّة من إرادة المال والجاه والخيرات؛ لأجل خوف لحوق منقصة ومذلة بنفسه، ولما كان المؤمنون كلهم على طريقة الخير والصلاح من جهة الدين والدنيا ارتفع ذلك الخوف، فالمؤمن يطلب أن يكون كلهم على تلك الطريقة متساويين في ذلك، وهذه الإرادة ميسرة عند أهل الدين والإنصاف، فافهم -وباللَّه التوفيق-. لمعات التنقيح (8/ 247-248).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث دليل على عظم حق الجار والأخ، وفيه نفي الإيمان عمَّن لا يحب لهما ما يحب لنفسه.
وتأوله العلماء بأن المراد منه: نفي كمال الإيمان، إذ قد علم من قواعد الشريعة أن من لم يتصف بذلك لا يخرج عن الإيمان، وأطلق المحبوب ولم يعين، وقد عيَّنه ما في رواية النسائي في هذا الحديث بلفظ: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه»، قال العلماء: والمراد: من الطاعات والأمور المباحة، قال ابن الصلاح: وهذا قد يُعَدُّ من الصعب الممتنع، وليس كذلك، إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه من الخير، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له مثل حصول ذلك من جهة لا يزاحمه فيها؛ بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدَّغِل -عافانا الله وإخواننا أجمعين-. ا. هـ.
هذا على رواية: الأخ، ورواية: الجار عامَّة للمسلم والكافر والفاسق، والصديق والعدو، والقريب والأجنبي، والأقرب جوارًا والأبعد؛ فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبة الخير له فهو في أعلى المراتب، ومن كان فيه أكثرها فهو لاحق به، وهَلُمَّ جَرًّا إلى الخصلة الواحدة؛ فيعطي كل ذي حق بحسب حاله.
وقد أخرج الطبراني من حديث جابر: «الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق: جار مسلم له رحم؛ له حق الإسلام والرحم والجوار».
وأخرج البخاري في الأدب المفرد: «أن عبد الله بن عمر ذبح شاة فأهدى منها لجاره اليهودي»؛ فإن كان الجار أخًا أحب له ما يحب لنفسه، وإن كان كافرًا أحب له الدخول في الإيمان؛ مع ما يحب لنفسه من المنافع بشرط الإيمان، قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: حفظ حق الجار من كمال الإيمان، والإضرار به من الكبائر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة إلى الجار الصالح وغيره.
والذي يشمل الجميع: إرادة الخير وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له؛ إلا في الموضع الذي يحل له الإضرار بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفُّه عن الأذى، وأمره بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكافر يعرض الإسلام عليه، والترغيب فيه برفق، والفاسق يعظه بما يناسبه بالرفق ويستر عليه زلَلِه، وينهاه بالرفق؛ فإن نفع وإلا هجره قاصدًا تأديبه بذلك؛ مع إعلامه بالسبب لِيَكُفّ.
ويقدم عند التعارض من كان أقرب إليه بابًا؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-: «قلتُ: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما بابًا» أخرجه البخاري، والحكمة فيه: أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها؛ فيتشوف له بخلاف الأبعد.
وحَدّ الجار أربعون دارًا من كل جهة، وجاء عن علي -رضي الله عنه-: «مَن سمع النداء فهو جار»، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار. سبل السلام (4/ 633-634).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
معناه: فمقصوده ائتلاف قلوب الناس وانتظام أحوالهم، وهو قاعدة الإسلام الكبرى التي أوصى الله -عزَّ وجلَّ- بها بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آل عمران: 103، وبيان ذلك: أنه إذا أحبَّ كل واحد من الناس لباقيهم ما يحب لنفسه أحسن إليهم، ولم يؤذهم؛ لأنه هو يحب لنفسه أن يُحسَنَ إليه، ولا يُؤذَى، وإذا أحسن إليهم، ولم يؤذهم أحبوه؛ فتسري بذلك المحبة بين الناس، وبسريان المحبة بينهم يسري الخير ويرتفع الشر، وبذلك ينتظم أمر المعاش والمعاد، وتصلح أحوال العباد. التعيين في شرح الأربعين (1/ 124-125).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والتعبير بالأخ على سبيل التغليب؛ فتدخل الأخت أيضًا، والتعبير بالأخوة لإثارة كوامن الشفقة والمحبة.
«ما يحب لنفسه» (ما) موصولة، وعائد الصلة مفعول «يحب» محذوف، والتقدير: الذي يحبه لنفسه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 168).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌لا ‌يؤمن ‌عبد ‌حتى ‌يحب ‌لجاره»، أو قال: «لأخيه ما يحب لنفسه»، «جاره» يعني: القريب منه في البيت والسكن؛ سواء كان البيت والسكن من الحجر أو المدر أو الشعر، المهم أنه مسكنه قريب من جاره، ثم هل الجار كما جاء في بعض الأحاديث أنه أربعون دارًا أو أقل؟
الصحيح: أن الجار ما عُدَّ جارًا في العُرف وأربعون دارًا اليوم بعيدة جدًّا، تسع مساحة كبيرة؛ لكبر المنازل، ربما كانت في العهد الأول، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرته التي هو ساكن فيها مع زوجته عائشة تَسعُ ثلاثةَ قبورٍ في ذلك العهد، وعليه نقول: يمكن أن يكون أربعون دارًا يمكن أن يكونوا جيرانًا، لكن في الوقت الحاضر لا، إذن فيُرْجَع فيه إلى العُرف؛ كما أن الطريق فيما سبق إذا تنازع فيه الجيران يجعل سبعة أذرع، الآن سبعة أذرع تأخذ السيارة؛ لكن مع الضيق على كل حال، هذه مسائل يذكرها الشرع مُقدرة بحسب العُرف، والحال التي كانوا عليها، وليست محددة شرعًا، كمائة جلدة للزاني؛ فإنها محددة لا تزيد ولا تنقص، لكن مثل هذه الأمور المقدرة التي يكون مرجعها العرف تبقى للعرف، إذن الجار كل من عده الناس جارًا، «حتى يحب لجاره»، وفي لفظ: «لأخيه المؤمن» لا تؤمن حتى تحب لأخيك ما تحب لنفسك، أنت تحب لنفسك الخير وتكره لها الشر، فلو أحببت الشر لأخيك فلست بمؤمن، ولو أحببت منع الخير عن أخيك فلست بمؤمن، فلا بد أن تحب الخير لأخيك كما تحبه لنفسك، إن أحببت له الشر أو لم تحب الخير له فأنت لست بمؤمن، هذا الحديث يدل على الحث والترغيب في محبة الخير لإخوانك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما أخبرنا أن الإيمان ينتفي لا لنعلم أنه ينتفي، لكن من أجل أن نحافظ على إيماننا، ونحب لإخواننا ما نحبه لأنفسنا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 286-287).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فينبغي له أن يحب له ما يحب لنفسه من حيث أنهما نفس واحدة، ومصداقه: الحديث: «المؤمنون كالجسد الواحد»، ومن أفحش الأحوال أن يرى في موطن ضانًّا على أخيه بأعمال الخير، إذا لم يوفق هو لها؛ كما جرى لابنَيْ آدم، فإنه قتله من أجل أن تقبل الله قربانه، فإنه قال له: {لَأَقْتُلَنَّكَ} المائدة:27، فلم يجبه المؤمن إلا أن أخبره بالعِلَّة التي رُدَّ قربانه هو لأجلها ما هي؟ وهي قوله: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} المائدة:27، أي: فلو اتقيت الله لتقبل منك قربانك، ثم قال له: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِيْ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} المائدة:28، يعني: إن بسطت يدك لم أبسط يدي ليثبت عندك أني من المتقين دونك، فإنك لم تقتلني إلا من أجل أن الله قَبِلَ قرباني، وعلى هذا خرج قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} المائدة:29؛ ليظهر للناس إلى يوم القيامة أن الله سبحانه لم يَرُدَّ قربانك إلا لعلمه فيك أنك مستحق للرد عليك، وقد رضيت أن أقتل أنا في إقامة عذر القدر في أنه لم يقبل قربانك لكونك أهلًا للرد. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 163-164).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على رعاية حق الأخ والجار، وقد وقع في مسلم بالشك، وكذا هو في مسند عبد بن حميد على الشك، وهو في البخاري وغيره: «لأخيه» من غير شك. البدر التمام (10/ 214).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد:
أولًا: جواز القسم بهذه الصيغة، وجه ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقسم به.
ومن فوائده: جواز الإقسام بغير استقسام، يعني: بجواز أن يقسم الإنسان بغير ما يطلب منه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطلب منه ذلك، إذا قال قائل: أليس هذا مخالف لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة:89، يعني: لا تحلفوا إلا بسبب؟ فيقال: نعم نحفظ أيماننا، وهذا لا يعارض الآية؛ لأن هذا مهمٌّ جدًّا، أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك من أجل قوَّة الحث على أن يحب لجاره ما يحب لنفسه؛ فلأهمية الموضوع أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، أليس الله تعالى أمر نبيه أن يقسم؟ بلى، في ثلاث آيات:
الأولى: الحلف على أن الناس يبعثون: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} التغابن:7.
الثانية: الحلف على أن القرآن حق: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} يونس:35.
الثالثة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} سبأ:3، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقسم في أكثر من ستين موضعًا؛ لكنه لا يقسم إلا والمقام يقتضي القسم -صلى الله عليه وسلم-.
ومن فوائد الحديث: انتفاء الإيمان عمن لا يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه.
وهل هذا يعني الكفر؟ لا، لكنه ينتفي عنه كمال الإيمان؛ لأن أهل السنة أجمعوا على أنَّ مَن لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ليس بكافر؛ لكن انتفى عنه كمال الإيمان.
ومن فوائده: أنه يجوز نفي الشيء لنفي كماله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة بحضرة طعام» هذا نفي للكمال، الصلاة لا تكون كاملة بحضرة الطعام، «ولا وهو يدافعه الأخبثان»؛ لكن لا ينفي شيء إلا لانتفاء واجب فيه، ومن ثم نأخذ أنه يجب علينا أن نحب لإخواننا ما نحبه لأنفسنا.
ومن فوائد الحديث: أنه يصح أن ينفى الإيمان المطلق عمن عنده مطلق إيمان؛ لأن هذا الحديث نفى الإيمان المطلق الذي هو الكمال، واستمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الأنفال:2-3، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ} يعني: ما المؤمنون إلا هؤلاء، لو قلنا: إن المراد بهذه الآية: مطلق الإيمان- لانتفى الإيمان عن كثير من الناس اليوم، مَن الذين إذا ذكر الله تَوْجَلُ قلوبهم؟ قليل، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الأنفال: 2، هذه أيضًا قليل؛ لكن المراد هنا: المؤمنون الكُمَّل الذين كَمُل إيمانهم، أما قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} النساء:92، فالمراد: مطلق الإيمان؛ ولهذا يصح أن يعتق الإنسان عبدًا فاسقًا ليس بكافر؛ إذن نفي الإيمان هنا الإيمان المطلق، يعني: الكامل. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 287-288).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
1 - حق الجار على جاره كبير جدًّا؛ قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} النساء:36.
وجاء في البخاري (6015)، ومسلم (2625) من حديث عائشة: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا زَالَ جبريل يوصيني بالجار، حتَّى ظننت أنَّه سيورِّثه».
وجاء في مسلم (48) من حديث أبي شريح الخزاعي؛ أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره»، والنصوص في الباب كثيرة.
2 - حديث الباب صريحٌ في نفي الإيمان عن العبد الَّذي لا يحب لجاره من حصول الخير وبُعْدِ الشر، ما يحب لنفسه.
3 - أوَّلَ العلماء نفي الإيمان هنا بأنَّ المراد به: نفي كماله الواجب؛ إذ قد علم من قواعد الشريعة: أنَّ من لم يتصف بذلك لا يخرج من الإيمان.
4 - المحبوب المذكور لم يُعيَّن، وقد عيَّنه في رواية النسائي (5017) بلفظ: «حتَّى يحب لأَخيه من الخير ما يحب لنفسه»، قال العلماء: المراد: من الطاعات وأعمال الخير والأمور المباحة، وهذا فيه صعوبةٌ على النفوس الشحيحة، ولكنَّه سهل على ذوي القلوب السليمة.
5 - قال الشيخ العساف في مختصر الإحياء: وأمَّا حقوق الجار: فالجوار يقتضي حقًّا وراء كفِّ الأذى فقط، بل احتمال الأذى، والرِّفق، وابتداء الخير، فيبدؤه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزِّيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلَّاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع على كلامه، ويغض طَرْفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب.
6 - وقال في شرح البلوغ (أي: الصنعاني): الجار عامٌّ للمسلم، والكافر، والفاسق، والصديق، والعدو، والقريب، والأجنبي، فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبَّة الخير له، فهو في أعلى المراتب، ومن كان فيه أكثرها، فهو لاحق به، وهلمَّ جَرًّا إلى الخصلة الواحدة، فيعطي كلَّ ذي حقٍّ بحسب حاله.
وجاء في الطبراني من حديث جابر: «الجار الكافر له حق الجوار، والجار المسلم له مع الجوار حق الإسلام، والجار المسلم القريب له ثلاثة حقوق». توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/ 333-334).


ابلاغ عن خطا