الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إِنِّي أراكَ تُحِبُّ الغنمَ والبَادِيةَ، فإِذا كنتَ في غنمِكَ، أو بَادِيَتِكَ، فأذَّنتَ بالصَّلاةِ فارفعْ صوتَكَ بالنِّداءِ، فإِنَّهُ لا يسمعُ مدى صوتِ الْمُؤَذِّنِ، جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ، إِلَّا شهدَ له يومَ القيامةِ»


رواه البخاري برقم: (609)، وبرقم: (3296)، وبرقم: (7548) من حديث أبي سعيد الخُدْري -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أراك»:
رأى: الرؤية بالعين تتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين، ورأى يرى رأيًا، ورؤيةً ورَاءَةً، مثل: رَاعَةٍ. مختار الصحاح، للرازي (ص: 115).
وقال أبو البقاء الكفوي -رحمه الله-:
ورأى بمعنى (ظن) يتعدى إلى مفعولين. الكليات (ص: 475).

«الغَنَمَ»:
الشاء، لا واحد له من لفظه. لسان العرب (12/ 445).
والغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعًا، وإذا صغَّرتها ألحقتها الهاء فقلت: (غنيمة)؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، يقال: له خمس من الغنم ذكور، فتؤنث العدد وإن عنيت الكباش إذا كان يليه (أي: يلي العدد) الغنم؛ لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ لا على المعنى. مختار الصحاح، للرازي (ص: 230).

«البَادِيةَ»:
اسم للأرض التي لا حَضَرَ فيها، وإذا خرج الناس من الحَضَرِ إلى المراعي في الصحاري قيل: قد بدوا، والاسم: البدو. لسان العرب، لابن منظور (14/ 67).

«بالنِّداءِ»:
بكسر النون: الأذان. مجمع بحار الأنوار، للفَتَّنِي (5/ 634).

«مدى صوت»:
مدى الشيء: غايته. تهذيب اللغة، للأزهري (8/ 188).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
المدى: الغاية، أي: يستكمل مغفرة الله إذا استنفد وسعه في رفع صوته؛ فيبلغ الغاية في المغفرة إذا بلغ الغاية في الصوت. لسان العرب (15/ 273)


شرح الحديث


قوله: «إِنِّي أراك تُحِبُّ الغَنَمَ والبَادِيةَ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«إني أراك تحب الغنم و» تحب «البادية» الصحراء التي لا عمارة فيها لأجل إصلاح الغنم بالرعي، وهو في الغالب يكون فيها. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «‌تحب ‌الغنم ‌والبادية» أي: لأجل الغنم؛ لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية، وهي الصحراء التي لا عمارة فيها. فتح الباري (2/ 88).
وقال الكاندهلوي -رحمه الله-:
يُحتمل: أنه كان يحب الغنم أصالة؛ لأنه داخل في جملة الأنواع التي زُين للناس حبها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِين} آل عمران: 14، الآية، والغنم داخل في الأنواع ...، ويُحتمل: أنه يحبها واختارها عملًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنها ستكون فتن» الحديث، وفيه: «ومَن كان له غنم، فليلحق بغنمه». أوجز المسالك إلى موطأ مالك (2/20).

قوله: «فإِذا كنتَ في غنمِكَ، أو بَادِيَتِكَ، فأذَّنتَ بالصَّلاة فارفع صوتكَ بالنِّداءِ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإذا كنتَ في» أي: بين «غنمك» في غير بادية أو فيها. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«في غنمك» أي: معها، فـ«في» للمصاحبة نحو: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} الأعراف:38. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 326).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فإذا كنتَ في غنمك» أي: بين غنمك، وكلمة: «في» تأتي بمعنى (بين) كما في قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} الفجر:29. عمدة القاري (5/ 114).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أو باديتك» يحتمل: أن تكون (أو) شكًّا من الراوي، ويحتمل: أن تكون للتنويع؛ لأن الغنم قد لا تكون في البادية؛ ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم. فتح الباري (2/ 88).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أو» في «باديتك» من غير غنم أو معها أو هو شك من الراوي، ولأبي ذر: «وباديتك» بالواو من غير ألف. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أو باديتك» كلمة: «أو» هنا يحتمل أن تكون للشك من الراوي، أو تكون للتنويع؛ لأنه قد يكون في غنم بلا بادية، وقد يكون في بادية بلا غنم، وقد يكون فيهما معًا، وقد لا يكون فيهما معًا، وعلى كل حال لا يترك الأذان. عمدة القاري (5/ 114).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أو باديتك» في نسخة: «وباديتك» بغير شك. «بالصلاة» في نسخة: «للصلاة». منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 326).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فأذنتَ للصلاة» أي: لأجل الصلاة، وللمصنف (أي: البخاري) في بدء الخلق «بالصلاة» أي: أَعلمتَ بوقتها. فتح الباري (2/ 88).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فأذنتَ للصلاة» أي: لأجل الصلاة، وفي رواية للبخاري في بدء الخلق: «بالصلاة» والباء للسببية، ومعناهما قريب. عمدة القاري (5/ 114).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فأذنتَ بالصلاة» أي: أَعلمتَ بوقتها، وللأربعة: «للصلاة» باللام بدل الموحدة، أي: لأجلها. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«فارفع صوتك بالنداء» أي: الأذان. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فارفع صوتك بالنداء» أمره برفع صوته بالإعادة؛ ليسمعه من بعد عنه، وتعلم بذلك حاله، وجعل له على ذلك من الأجر أن يشهد له يوم القيامة من سمع صوته من جن وإنس. المنتقى شرح الموطأ (1/ 133).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
وفيه: أنه يؤذن في البوادي والأسفار كما يؤذن في القرى والأمصار. شرح مسند الشافعي (1/ 296-297).
وقال الباجي -رحمه الله-:
ذهب مالك إلى أن النداء إنما يلزم في مساجد الجماعات والقبائل، وحيث يكون الأئمة.
وقد روي نحو ذلك عن ابن عمر، قال مالك: وأما الرجل في خاصة نفسه فإن أذن فحسن، وإن ترك الأذان فلا بأس بذلك، وكذلك الجماعات يصلي بهم رجل منهم غير الإمام المقدم لأمور الناس في غير المساجد فليس عليهم أذان.
وقد روي في هذا الحديث الأمر برفع الصوت بالأذان للرجل المنفرد في غنمه أو باديته، ووجه ذلك: أن من كان في غنمه أو باديته معتزلًا عن الحواضر التي يقام فيها الأذان في المساجد يحتاج إلى شعار المسلمين -وهو الأذان-؛ ليتحرك بشعار الإسلام، وتجتنبه سرايا المسلمين وجيوشهم.
وقد روى أنس بن مالك: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان؛ فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: خرجت من النار، فنظروا فإذا هو راعي مِعْزَىً (غنمًا)». ومن صلى وحده في حواضر المسلمين وبلادهم استغنى عن الأذان؛ لأن الأذان في المساجد وعند الإمام شعار له ولغيره ممن سكن ذلك البلد. المنتقى شرح الموطأ (1/ 133).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
واحتج به على استحباب الأذان للمنفرد؛ لأنه أراد ما إذا كان منفردًا في الغنم والبادية أو اللفظ متناول له بإطلاقه، وفيه: دليل على استحباب رفع الصوت بالأذان وهو الظاهر، وفيه: وجه أن المنفرد لا يرفع الصوت إلا إذا انتظر حضور جمع، واحتج الشافعي في (الأم) باستحباب رفع الصوت على أنه يستحب إن اتخذ مؤذنًا أن يختار صَيِّتًا، وعلى أنه يستحب ترتيل الأذان، قال: لأنه لا يقدر أَحد على أن يبلغ غايةً من صوته في كلام متتابع إلا مترسلًا؛ لأنه إذا حذف ورفع انقطع. شرح مسند الشافعي (1/ 296).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فارفع» فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية؛ بناء على أن الأذان حق الوقت، وقيل: لا يستحب؛ بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا. فتح الباري (2/ 88).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فارفع صوتك» فيه دليل لمن قال باستحباب الأذان للمنفرد، وهو الراجح عند الشافعية. نيل الأوطار (2/ 54).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وحديث الباب شاهد لمذهب المالكية؛ لأن السفر عندهم المراد به: السفر اللغويّ لا الشرعيّ، والخروج في الغنم والبادية سَفَر لُغويّ، وليس في الحديث شاهد لما استدل به الرافعيّ من الندب مطلقًا في الحضر والسفر، وظاهر كلام العينيّ أن مذهبهم كمذهب الشافعية. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (8/ 236-237).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي الأرجح: أن يؤذّن ويقيم من يصلّي وحده في بيته؛ لأن أدلّة مشروعيّة الأذان لم تشترط الجماعة، بدليل حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- المذكور؛ فتبصّر. البحر المحيط الثجاج (9/ 38).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
أما الأمر برفع الصوت في الأذان، فإنما هو من قول أبي سعيد، واستدل له بقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا يسمع صوت المؤذن» الحديث، كذا رواه ابن عيينة صريحًا، وكذا ما قبله كله من قول أبي سعيد، وقد روي نحوه عن أبي هريرة. فتح الباري (5/ 220).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «قال أبو سعيد: سمعته» قال الكرماني: أي: هذا الكلام الأخير، وهو قوله: «إنه لا يسمع...» إلخ.
قلتُ: وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم»، وساقه إلى آخره، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمامه (إمام الحرمين) والقاضي حسين، وابن داود شارح المختصر وغيرهم، وتعقبه النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم: بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد: سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائد على كل ما ذكر. ا. هـ.
ولا يخفى بعده، وقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة ولفظه: «قال أبو سعيد: إذا كنتَ في البوادي فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يسمع» فذكره، ورواه يحيى القطان أيضًا عن مالك بلفظ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا أذنت فارفع صوتك، فإنه لا يسمع» فذكره.
فالظاهر أنَّ ذكر الغنم والبادية موقوف، -والله أعلم-. فتح الباري (2/ 89).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند: قوله: «سمعته...» يعني: قوله: «أنه لا يسمع...» إلخ، وهو الصواب. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 272).

قوله: «فإِنَّهُ لا يسمع مدى صوت المُؤَذِّنِ جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ، إِلَّا شهد له يوم القيامة»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن» أي: غايته. إرشاد الساري (2/ 6).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مدى صوت المؤذن» المدى: الغاية؛ يعني: من سمع صوت المؤذن من القريب والبعيد من الجن والإنس وغيرهما من الحيوانات والجمادات، شهدوا له بسماع صوت أذانه.
والغرض من إنطاق من سمع صوت المؤذن: أن يشهد له تشريف المؤذن وتكريمه بين أهل العرصات. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 47).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
مدى الشيء: غايته، وغاية الصوت تكون أخفى لا محالة، فإذا شهد له من بَعُد عنه، ووصل إليه همس صوته، فأن يشهد له من دنا منه، وسمع مبادئ صوته كان أولى، وإنما قال ذلك، ولم يقل: لم يسمع صوت المؤذن؛ ليكون أبلغ وأشد تحريضًا وحثًّا لهم على رفع الصوت. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 248).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
مدى الشيء: غايته، والمعنى: أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت.
وقيل: فيه وجه آخر، وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه، يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت؛ لو تَقَدَّر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة- لغفرها الله له. معالم السنن (1/ 155).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
ورد البيان على الغاية من حصول الكفاية بقوله: «لا يسمع صوت المؤذن»؛ تنبيهًا على أن آخر من يُنْتَهَى إليه صوت المؤذن يشهد له؛ كما يشهد الأولون. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194).
وقال المنذري -رحمه الله- مُعلقًا:
ويشهد لهذا القول (أي: الأول الذي ذكره الخطابي) رواية من قال: «يغفر له مد صوته» بتشديد الدال، أي: بقدر مدة صوته. الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 109).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جن ولا إنس» تنكيرهما في سياق النفي؛ لتعميم الأحياء والأموات. شرح المصابيح (1/ 399).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «جن ولا إنس» يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن؛ بل يفرون وينفرون من الأذان، فعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا نادى المنادي بالصلاة هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء»، وهي على ثلاثين ميلًا من المدينة، ويروى أن زيد بن أسلم استعمل على معدن بني سليم، وكان يصاب الناس فيه من قبل الجن، فأمرهم زيد بالأذان هناك وبرفع الصوت به، ففعلوا فانقطع ذلك عنهم. شرح مسند الشافعي (1/ 296).
وقال ابن بطال -رحمه الله- متعقبًا:
«لا يسمع مدى صوت المؤذن جن»، وليس قول من قال: إنما ينفر من الأذان؛ لأنه دعا إلى الصلاة التي فيها السجود الذي أباهُ- بشيء؛ لأنه قد أخبر -عليه السلام- أنه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التي فيها السجود أولى لو كان كما زعموا. شرح صحيح البخاري (2/ 234).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا شيء» من الجمادات. شرح المصابيح (1/ 399).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقد اختلف في قوله -عليه السلام-: «ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»؛ فقالت طائفة: الحديث على العموم في كل شيء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة وداخلة في معنى هذا الحديث.
وقالت طائفة: لا يراد بالحديث إلا من يجوز سماعه من الجن والإنس والملائكة وسائر الحيوان، قالوا: والدليل على ذلك: أنه لم يذكر إلا الجن والإنس، ثم قال: «ولا شيء»، يريد من صنف الحيوان السامع والملائكة والحشرات والدَّوابِّ، ولا يمتنع أن الله تعالى يَقْدِر يسمع الجمادات، لكنا لا نقول ذلك مع جوازه إلا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس في هذا الحديث ما يُقْطَعُ به على هذا المعنى. شرح صحيح البخاري (2/ 237-238).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حيٍّ، فهل ذلك إلا حكاية على لسان الحال؟ لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها. عمدة القاري (5/ 114).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«لا يسمع مدى صوته جنٌّ ولا أنسٌ ولا شيء إِلا شهد له يوم القيامة»، قيل: هذا عمومٌ المراد به الخصوص، وأن ذلك في المؤمنين من الجن والإنس، وأما الكافِر فلا شهادة له، وهذا ‌لا ‌يُسلَّمُ ‌لقائله؛ ‌لما ‌جاء ‌في ‌الآثار ‌من ‌خلافِه، وقيل أيضًا: إن هذا ممن يصحّ منه الشهادة ممن يسمع، وقيل: هي عامةٌ فيمن يسمع وفيمن لا يسمع من جماد، وأن الله تعالى يخلق لها حينئذ ولمن لا يسمع ممن لا يعقل من الحيوانات إدراكًا لأذانه، وعقلاً ومعرفةً لما يشهدُ به، فهو على كل شيء قدير، وإلى معنى هذا ذهب ابنُ عمر؛ لقوله للمؤذن: «يشهد لك كل رطبٍ ويابسٍ». إكمال المعلم (2/ 257).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فأما فهم الجماد والموات فلا يدرك كيفية ذلك إلا الله، وفي قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} سبأ:10، أي: سبِّحيْ معه، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الإسراء:44، وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} الدخان:29- ما يشهد لهذا المعنى. الاستذكار (1/ 385-386).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «ولا شيء» قيل: إنه مخصوص بمن تصح منه الشهادة، ممن يسمع كالملائكة، وقيل: عام حتى في الجمادات أيضًا، والله -سبحانه وتعالى- يخلق لها إدراكًا للأذان، وعقلًا؛ فهو تعميم بعد تخصيص. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 9).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «جنٌّ ولا إنس ولا شيء» ظاهره: يشمل الحيوانات والجمادات؛ فهو من العامِّ بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة: «لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جنّ ولا إنس»، ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: «المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس»، ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء، وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: «ولا شيء»، وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره. فتح الباري (2/ 88).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «جن ولا إنس ولا شيء» ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات؛ فهو من العامِّ بعد الخاصِّ، والحديث الأول يبين معنى الشيء المذكور هنا؛ لأن الرطب واليابس لا يخرج عن الاتصاف بأحدهما شيء من الموجودات.
وفي رواية لابن خزيمة: «لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس»، وبهذا يظهر أن التخصيص بالملائكة كما قال القرطبي، أو بالحيوان كما قال غيره- غير ظاهر، وغير ممتنع عقلًا ولا شرعًا أن يخلق الله في الجمادات القدرة على السماع والشهادة، ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الإسراء:44، وفي صحيح مسلم: «إني لأعرف حجرًا كان يسلم عَلَيَّ»، ومنه: ما ثبت في البخاري وغيره من قول النار: «أكل بعضي بعضًا». نيل الأوطار (2/ 54).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«جنٌّ ولا وإنس ولا شيء» من حيوان أو جماد بأن يخلق الله تعالى له إدراكًا، وهو من عطف العامّ على الخاصّ، ولأبي داود والنسائي: «المؤذِّن يغفر له مدّ صوته، ويشهد له كل رطب ويابس»، ولابن خزيمة: «لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جنّ ولا إنس إلَّا شهد له» بلفظ الماضي، وللكشميهني: «إلا يشهد له يوم القيامة». إرشاد الساري (2/ 6).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا شيء» هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ لأن الجن والإنس يدخلان في «شيء»، وهو يشمل الحيوانات والجمادات.
قيل: إنه مخصوص بمن تصح منه الشهادة ممن يسمع: كالملائكة، نقله الكرماني.
وقيل: المراد به: كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات.
وقيل: عامٌّ حتى في الجمادات أيضًا، والله تعالى يخلق لها إدراكًا وعقلًا، وهو غير ممتنع عقلًا ولا شرعًا. عمدة القاري (5/ 114).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«إلا شهد له يوم القيامة» الشهادة محمولة على الحقيقة؛ لشمول القدرة لكلِّ ممكن، والحكمة في هذا: إظهار كرامة المؤذن في ذلك المحشر. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 273).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
والمراد من شهادة الشاهدين له -وكفي بالله شهيدًا-: اشتهاره يوم القيامة فيما بينهم بالفضل وعلو الدرجة، ثم إن الله سبحانه كما يهين قومًا بشهادة الشاهدين عليهم؛ تحقيقًا لفضوحهم على رؤوس الأشهاد، وتسويدًا لوجوههم، فكذلك يكرم قومًا بشهادة الشاهدين؛ تكميلًا لسرورهم، وتطييبًا لقلوبهم، وبكثرة الشهود تزداد قرة عيونهم؛ فأخبر أنَّ المؤذنين كلما كانت أصواتهم أجهر، كانت شهودهم أكثر. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والسر في هذه الشهادة {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} النساء:79، اشتهار المشهود له بالفضل وعلوّ الدرجة، وكما أن الله تعالى يفضح بالشهادة قومًا يكرم بها آخرين، ولأحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «المؤذن يغفر له مدى صوته، ويصدقه كل رطب ويابس». إرشاد الساري (2/ 6).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قال الزين ابن المنير: والسِّر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة: أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى، والجواب والشهادة.
وقيل: المراد بهذه الشهادة: إشهار المشهود له بالفضل وعلو الدرجة، كما أن الله يفضح بالشهادة قومًا كذلك يكرم بالشهادة آخرين. نيل الأوطار (2/ 54).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فيه: الأذان للمنفرد والمسافر، وذلك عند مالك حسن إلا أن الأذان عنده في مساجد الجماعات، وحيث يجتمع الناس، فقد ورد في فضائل الأذان للمنفرد والمعتزل آثار حسان...
وفيه: إباحة لزوم البادية واكتساب الغنم، وأنه ينبغي للمرء أن يحب الغنم والبادية اقتداء بالسلف، وفرارًا من شر الناس واعتزالًا عنهم، ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل؛ إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة- طابت العزلة، والجليس الصالح -إذا وجد- خير من العزلة والوحدة.
وقد روى مالك بهذا الإسناد عن النبي -عليه السلام-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال (يريد به رأس جبل من الجبال)، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». الاستذكار (1/ 385-386).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنما أمره برفع صوته بالنداء ليسمعه من بَعُدَ منه؛ فيكثر الشهداء له يوم القيامة. شرح صحيح البخاري (2/ 238).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفيه: حث على استفراغ الجهد في رفع الصوت بالأذان. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 194)
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه: أن الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذي ينبغي لنا الاقتداء بهم، وإن كان في ذلك ترك للجماعات ففيه عزلة عن الناس، وبُعدٌ عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أن الاعتزال للناس عند تغير الزمان وفساد الأحوال مرغَّبٌ فيه، وروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال (يريد به رأس جبل من الجبال)، ومواضع القطر، يفر بدينه من الفتن». شرح صحيح البخاري (2/ 237-238).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
فيه دليل على أن الأذان لا يدعه حاضر ولا مسافر، وهو موضع اختلف العلماء فيه مع إجماعهم على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤذن له في حياته كلها لكل سفر وحضر، وأنه نَدَبَ المسلمين إلى ذلك، وكان -صلى الله عليه وسلم- في غزواته إذا سمع أذانًا كفَّ، وعلم أنها دار إيمان، وإذا لم يسمعه أغار، وكان يأمر بذلك. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/ 103).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وفي الحديث: نَدْبُ الأذان للمنفرد، وأن يؤذِّنَ على مكان مرتفع؛ ليكون أبعد لذهاب الصوت، وأنَّ اتخاذ الغنم والمقام بالبادية من فعل السلفِ الصالح، وأنَّ الجنَ يسمعون أصوات بني آدم، وأن بعض الخلق يشهد لبعض يوم القيامة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 326).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفي الحديث: استحباب رفع الصوت بالأذان.
وفيه: أن حب الغنم والبادية لا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح. نيل الأوطار (2/ 54).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وفيه استحبابُ الأذان للمُنفرِد، وأن يؤذِّن على مكانٍ مرتفعٍ؛ ليكون أبعدَ لذهاب الصَّوت، وكان بلالٌ يؤذِّن على بيت امرأةٍ من بني النَّجَّار بيتُها أطولُ بيتٍ حَوْلَ الْمَسجِد.
وفيه العُزلةُ عن النَّاس، واتخاذُ الغنَم، والْمُقامُ بالبادية من فعل السَّلَف، وفضْلُ الإعلان بالسُّنَن، وكثْرةُ الشُّهداء عليه يوم القيامة. اللامع الصبيح (3/ 446).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وفيه حثٌّ على رفع المؤذن صوته؛ لتكثر شهداؤه، ودلالة على أنه يشهد له ذوو العلم وغيرهم. شرح المصابيح (1/ 399).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلالة ظاهرة على فضل التأذين، ورجحه النووي على الإمامة، وأنه مشروع للرجل المنفرد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/ 273).


ابلاغ عن خطا