«مَن تَعَظَّمَ في نفسِهِ، أو اخْتالَ في مِشيتِهِ لقيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ».
رواه أحمد برقم: (5995)، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (549)، والطبراني في الكبير برقم: (13692)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (6157)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (543).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تعظَّم»:
أي: تكبَّر في اعتقاده بأنْ رأى نفسه كبيرًا عظيمًا. حاشية السندي على مسند أحمد (2/167).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
التَّعَطُّمُ في النفس: هو الكبر والزهو والنخوة، والعظمة، والعظموت: الكبر، وعظمة اللسان: ما عظم منه وغَلُظَ فوق العَكَدَةِ، وعَكَدَتُهُ: أصله. لسان العرب(12/ 409).
«اخْتالَ»:
أي: أظهر التكبُّر. حاشية السندي على مسند أحمد (2/167).
وقال الجوهري -رحمه الله -:
والخال والخُيلاء والخِيلاء: الكبر، تقول منه: اخْتالَ؛ فهو ذو خُيَلاءَ، وذو خالٍ، وذو مَخْيَلَةٍ، أي: ذو كِبر. الصحاح (4/ 1691).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الخُيَلَاء والخِيَلَاء -بالضم والكسر-: الكبر والعجب، يقال: اختال فهو مختال، وفيه خيلاء ومخيلة، أي: كبر. النهاية (2/ 93).
شرح الحديث
قوله: «من تعظَّم في نفسه، أو اختال في مشيته»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«من تعظَّم في نفسه» أي: تكبر، «واختال في مشيته» -بكسر الميم- أي: تبختر وأُعْجِبَ بنفسه فيها. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 410-411).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من تعظَّم في نفسه» اعتقد نفسه عظيمة تستحق من غيره التبجيل والتكريم.
«واختال في مشيته» فاض ما في نفسه إلى جوارحه فاختال في مشيته. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 181).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله (في رواية): «تعاظم في نفسه» صيغة تفاعل تأتي لمعانٍ؛ ومن معانيه: أنه يأتي بمعنى فعل، نحو: توانيت، بمعنى: وَنَيْت، مع البالغة، وهو المقصود هنا؛ فـ«تعاظم» بمعنى: عظم في نفسه؛ إما بمعنى: أنه اعتقد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة، أو يكون «تعاظم» بمعنى: تعظَّم، وهو وإن لم يكن قياسيًّا، فقد جاء تفاعل بمعنى: يفعل. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 330).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
تفاعل يأتي بمعنى فعل مثل: توانيت بمعنى: ونيت، وفيه مبالغة، وهو المراد هنا، أي: من عظَّم نفسه إما باعتقاد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة.
ويحتمل هنا: أن تعاظم بمعنى: تعظَّم مشددة، أي: اعتقد في نفسه أنه عظيم؛ كتكبر، اعتقد أنه كبير، أو يكون تفاعل بمعنى: استفعل، أي: طلب أن يكون عظيمًا، وهذا يلاقي معنى تكبر.
والكبر كما قال المهدي (هو أحمد بن يحيى المرتضى) في كتاب (تكملة الأحكام): هو اعتقاد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة.
وقد أخرج مسلم والحاكم والترمذي من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس»، قيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يراه حقًّا، وقيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله، وقال النووي: معناه: الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق، وإنكاره ترفعًا وتجبرًا.
وجاء في رواية الحاكم: «ولكن الكبر من بَطَرُ الحق وازدراء الناس»؛ فبَطَرُ الحق: دفعه ورده، وغَمط الناس -بفتح المعجمة وسكون الميم والطاء المهملة- هو: احتقارهم وازدراؤهم، هكذا جاء مفسرًا عند الحاكم قاله المنذري، ولفظة: «من» رويت بالكسر لميمها على أنها حرف جر، وبفتحها على أنها موصولة، والتفسير النبوي دل على أنه ليس من قبيل الاعتقاد، وإنما هو بمعنى عدم الامتثال تعزُّزًا وترفُّعًا واحتقارًا للناس. سبل السلام (2/ 680-681).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «اختال في مشيته» الاختيال: التكبر، وعطفه على «تعاظم في نفسه» ...، ويحتمل: أنه من عَطْفِ أحد نوعي الكبر على الآخر، كأنه قال: من جمع بين نوعين من أنواع الكبر استحق هذا الوعيد، ولا يلزم منه أن أحدهما لا يكون بهذه المثابة؛ لأنها قد وردت الأحاديث في ذمِّ الكبر مطلقًا. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 333).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث وغيره: دال على تحريم الكبر وإيجابه لغضب الله تعالى. سبل السلام (2/ 681).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«تعاظم» أي: نزل نفسه منزلة العظيم، وهدا كبر ظاهر «واختال في مشيته» أي: مشى مشية المختال المفتخر، وهذا كبر ظاهر، فقوله: «تعاظم» هذا الكبرياء في القلب، «واختال في مشيته» هذا الكبرياء في العمل في الظاهر. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 409).
قوله: «لقي الله وهو عليه غضبان»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لقي الله هو عليه غضبان» فإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، والكلام في الاختيال في غير الحرب أما فيها فمطلوب. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 411).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لقي الله وهو عليه غضبان» يفعل به ما يفعله بالمغضوب عليهم لمنازعته لله في إزاره وردائه. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 181).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء، فمن أين يليق بحاله الكبر، فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله، ومثاله: أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه، ويجلس على سريره، فما أعظم استحقاقه للمقت! وما أعظم تهدفه للخزي والنكال! وما أشد ستجرائه على مولاه! وما أقبح ما تعاطاه!
وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته» أي: إنه خاص صفتي، ولا يليق إلا بي، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي، وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه؛ إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم، ويترفع عليهم، ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم، فهو منازع له في بعض أمره، وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره، والاستبداد بملكه، فالخلق كلهم عباد الله، وله العظمة والكبرياء عليهم، فمن تكبر على عبد من عباد الله، فقد نازع الله في حقه. إحياء علوم الدين (3/ 346).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لقي الله» يعني: يوم القيامة «وهو» أي: الله -عزَّ وجلَّ-، «عليه» أي: على هذا المتعاظم المختال، «غضبان» الجملة في قوله: «وهو عليه غضبان» حال من لفظ الجلالة، فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إن التعاظم في النفس والاختيال في المشية إذا اجتمعا استحق فاعلهما هذا الوعيد وهو غضب الله -عزَّ وجلَّ-. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 409).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحديث يدل على أن التكبر محرم، وأنه يوجب الغضب من الرب -جلَّ وعلا-، فيكون من الكبائر المهلكة، وفي التحذير منه أحاديث كثيرة مصرحة بوعيد المتكبر بالنار، -والله سبحانه أعلم-. البدر التمام (10/ 333).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فيه فوائد؛ منها: تحريم التعاظم في النفس؛ وليعلم أن الإنسان كلّما تعاظم في نفسه ازداد ضعفًا عند الله وعند الناس، وهذا من الجزاء الذي يكون من جنس العمل، وكلّما ذل الإنسان في نفسه وتواضع ازداد رفعةً؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من تواضع لله رفعه».
وجاء في الحديث الصحيح: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» إذن فالواجب أن يذل الإنسان في نفسه، لكن هل يجوز أن يُذل نفسه أمام الناس؟
لا، يذل في نفسه ولا يذل نفسه، بمعنى: لا يكون أمام الناس ذليلًا فيتعرض لما لا يمكنه دفعه، يعني: من أسباب الذل أن يتعرض الإنسان لشيء لا يمكنه دفعه، فليكن عزيزًا يبتعد عن أماكن الذل، أما أن يعلو في نفسه فلا.
من فوائد الحديث أيضًا: تحريم الاختيال في المشية كأن يمشي مثلًا متعكسًا مرة يكون على رجل ومرة يكون على رجل ومرة يكون على رجل، وتجده ينظر في كتفيه في عطفيه، وما أشبه ذلك، ففيه: تحريم الاختيال في المشية، والاختيال في المشية واللباس والصوت والهيئة كله حرام {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لقمان:18.
من فوائد الحديث: إثبات لقاء الله -عزَّ وجلَّ- وهو لكل أحد؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الانشقاق:6، ويقول -عزَّ وجلَّ-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} البقرة:223.
ومن فوائد الحديث: إثبات الغضب لله -عزَّ وجلَّ-؛ لقوله: «وهو عليه غضبان» والغضب: صفة تحمل الغاضب على الانتقام من خصمه، فهي صفة قوة وليست صفة نقص.
واعلم أن أهل السنة والجماعة طريقتهم في هذه الصفة وأمثالها أن يثبتوها لله على وجه الحقيقة دون المماثلة، وأن أهل التعطيل كالأشعرية والمعتزلة والجهمية ينكرونها، لكن إنكار جحد بل إنكار تأويل؛ لأنهم لا يجحدون أن الله يغضب، لو جحدوا ذلك لكفروا، لكنهم يثبتون الغضب إلا أنهم يؤولونه، وحقيقة تأويلهم أنه تحريف للكلم عن مواضعه.
يقولون: الغضب هو الانتقام أو إرادة الانتقام، انظر التفسير العجيب! فعندنا: غضب وإرادة وانتقام، هم ينكرون الأول يقولون: لا يوجد غضب، فيفسرون غضب الله إما بالانتقام وإما بإرادة الانتقام، أتدرون لماذا؟
لأن الانتقام فعل بائن من الله ينزل بالمنتقم منه، فهو كالخلق فلا ينكرونه، أو إرادة الانتقام؛ لأنهم كانوا يثبتون الإرادة كما قال السفاريني في عقيدته: يثبتون الكلام والحياة والبصر والسمع، والإرادة، يثبتون الإرادة.
ونحن نقول: أخطأتم، بل الإرادة والانتقام من أثر الغضب، ودليل ذلك: قوله -تبارك وتعالى-: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الزخرف:55، فجعل الانتقام غير الغضب، والأسف لا يمكن أن يراد به الحزن بل هو الغضب؛ لأن الأسف يطلق على الغضب يقال: فلان آسف، أي: غاضب.
إذن القول الحق: أن الله موصوف بالغضب، قالوا: لا يمكن أن يوصف بالغضب؛ لأن الغضب غليان دم القلب لإرادة الانتقام.
وجوابنا على هذا أن نقول: هذا الغضب هو غضب المخلوق، أما الخالق فهو وصف يليق بجلاله وعظمته لا نعلم كيفيته. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 409-410).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1. تحريم الكبر.
2. وأنه من الكبائر. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (10/ 274).