«مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ القِبلةِ جاءَ يومَ القيامةِ تَفَلُهُ بين عينيهِ، ومَنْ أكلَ مِن هذه البَقْلَةِ الخبيثةِ فلا يَقْرَبَنَّ مسجدَنَا» ثلاثًا.
رواه أبو داود برقم: (3824)، وابن خزيمة برقم: (1663)، وابن حبان برقم: (2909)، والبيهقي في الكبرى برقم: (5055)، من حديث حُذيفة بن اليَمَان -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6160)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (222، 223).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَفَلَ»:
التَفَلَ: شبيهٌ بالبَزْقِ، وهو أقل منه، أوله البزق، ثم التَفَلَ، ثم النفث، ثم النفخ. الصحاح، للجوهري (4/ 1644).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
تَفَلَ يتَفَلَ تَفَلًا: بصق، والتَّفْلُ والتُّفَّالُ: البصاق والزَّبَد ونحوهما. المحكم والمحيط الأعظم (9/ 490).
«البَقْلَةِ»:
أي: الثوم والبصل والكراث. مجمع بحار الأنوار (2/ 3).
وقال الجوهري-رحمه الله-:
كلُّ نبات اخضرّت له الأرضُ فهو بَقْلٌ. الصحاح، للجوهري (4/ 1636).
«الخبيثة»:
أَي: الْمَكْرُوهَة الرَّائِحَة، يَعْنِي: الثوم والبصل. غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 260).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
خُبثها من جهة كراهة طعمها وريحها. النهاية (2/ 5).
شرح الحديث
قوله: «مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ القبلةِ جاءَ يومَ القيامة تَفَلُهُ بين عينيه»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قال: «من تَفَلَ تجاه القبلة» أي: جهة القبلة، «جاء» أي: يجيء، «يوم القيامة»، وإنما عبَّره بصيغة الماضي؛ لتحقق وقوعه، «تَفَلُهُ» أي: بصاقه، «بين عينيه»، واستدل بهذا على احترام جهة القبلة، والاحتراز عن البول والغائط والاستنجاء إليها مطلقًا في الصحراء كان أو في البنيان. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 552).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «من تَفَلَ تجاه القبلة جاء يوم القيامة تَفَلُه بين عينيه» هذا يدل على تحريم التَفَلَ إلى القبلة أو باتجاه القبلة، وأن على الإنسان أن يتْفَلَ إلى غير تلك الجهة، وهو عام في الصلاة وفي غير الصلاة، وفي المسجد أو في غيره. شرح سنن أبي داود (432/ 9).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«جاء» في «يوم القيامة» و«تَفَلُه» ظاهر «بين عينيه»؛ لأجل الموقف يذمه من رآه على فعله. شرح سنن أبي داود (15/ 474).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وهذا التعليل يدل على أنَّ البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أم لا، ولا سيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد، هل هي للتنزيه أو للتحريم؟ فتح الباري (1/ 508).
وقال العراقي -رحمه الله-:
يدل على تحريم البصاق في القبلة: ما رواه أبو داود بإسناد جيد من حديث السائب بن خلاد «أن رجلًا أمَّ قومًا فبصق في القبلة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه، فقال حين فرغ: لا يصلي لكم» الحديث، وفيه: أنه قال له: «إنك آذيتَ الله ورسوله». طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 381).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
إنَّ حُرمة الصلاة تتعلق بمحلين: مسجد وقبلة، ثم ثبت أن المسجد يُحترم؛ لأنه بقعة مخصوصة بالصلاة، فكذلك ينبغي أن تُحترم القبلة؛ لأنها جهة مخصوصة بالصلاة، وهذا هو مذهب مالك -رحمه الله-؛ لأنه عقَّب الباب بقوله: باب النهي عن البُصاق في القبلة، فأفهمك أنها إذا احتُرِمَتْ عن البصاق إلى جهتها، فأوْلى وأَحْرى أن تُحترم عن البول والغائط، وهما نجسان.
قال لنا فخر الإسلام (الشاشي): قال لنا أبو إسحاق الشيرازي: لو كانت الحرمة للقبلة لما جاز الفصد إليها، ولا الحجامة؛ لأنها نجاسة تستقبل بها، قلنا: هذه الأمور الضرورية كالفصد والحجامة والقيء والرعاف التي تأتي العبد بغير اختياره، لا يتعلق بها هذا التكليف كما لم يتعلق بالبنيان. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 394-395).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وإنما يُكره البصاق إلى القبلة في الصلاة أو المسجد، فأمّا مَن بصق إلى القبلة في غير مسجد فلا يكره له ذلك. فتح الباري (3/ 109).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وقد جزم النووي بالمنع في كُل حالة داخل الصلاة، وخارجها، سواء كان في المسجد أو غيره، وقد أفاده حديث (أنس) في حقِّ المصلي، إلا أنَّ غيرهُ من الأحاديث قد أَفادت تحريم البُصاق إلى القبلة مطلقًا في المسجد وفي غيره، وعلى المُصلي وغيره؛ ففي صحيح ابن خزيمة وابن حبان من حديث (حذيفة) مرفوعًا: «مَن تَفل تجاه القِبلة جاء يوم القيامة وتَفلته بين عينيه» ولابن خزيمة من حديث (ابن عمر) مرفوعًا: «يُبعث صاحب النُّخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه».سبل السلام (1/٢٢٤)
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
وفي الحديث دلالة على تحريم البُصاق إلى القبلة مطلقًا، سواء ذلك في المسجد أو في غيره، وعلى المصلي وغيره، كما قال الصنعاني في (سبل السلام) (1/230)، قال: "وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها وفي المسجد أو غيره".
قلت: وهو الصواب، والأحاديث الواردة في النهي عن البصق في الصلاة تجاه
القبلة كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرها، وإنما آثرت هذا دون غيره، لعزته
وقلة من أحاط علمه به. ولأن فيه أدبا رفيعا مع الكعبة المشرفة، طالما غفل عنه كثير من الخاصة، فضلا عن العامة، فكم رأيت في أئمة المساجد من يبصق إلى القبلة من نافذة المسجد! سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/٤٤٠).
قوله: «ومَنْ أكل مِن هذه البَقْلَةِ الخبيثة فلا يَقْرَبَنَّ مسجدنا» ثلاثًا:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة» كتب مولانا محمد يحيى -رحمه الله تعالى-: فيه دلالة على أن الخبيث قد يطلق ويراد: ما ليس بحرام، بل المراد به: المكروه الطبعي أو الكريه الرائحة وغيره؛ وبذلك ينحل كثير من الإشكالات، كقوله: «ثمن الكلب خبيث، وكسب الحجَّام خبيث».
«فلا يقربن مسجدنا» ثلاثًا، أي: قاله ثلاث مرات تأكيدًا، وليس المراد: أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قربان المسجد ثلاث ليال. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 552).
وقال الفتني -رحمه الله-:
وخبثها من كراهة طعمها ورائحتها؛ لأنها طاهرة، وليست من أعذار تقطع عن المسجد، وإنما أمرهم به عقوبةً ونكالًا؛ لأنه كان يتأذّى به. مجمع بحار الأنوار (2/ 3).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة» يعني: خبيثة الرائحة، وإلا فهي في الأصل من الطيبات ويستعملها الناس، لكن بإماتتها أو باستعمالها مع إزالة رائحتها.
قوله: «فلا يقربن مسجدنا»، وقد جاء في بعض الأحاديث: «مساجدنا» فليس الأمر مقصورًا على مسجده -صلى الله عليه وسلم-، وإنما المقصود من ذلك: المساجد التي هي محل اجتماع الناس وحضور الملائكة، وقد جاء في التعليل: «أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان»، وهذا يدل على أن الإنسان لا يدخل المسجد وعنده هذه الرائحة، ولو لم يكن فيه أحد من الناس؛ لأن التعليل ليس مقصورًا على الآدميين؛ بل الملائكة كذلك. شرح سنن أبي داود، للعباد (432/7).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- أيضًا:
قوله: «من أكل من هذه البقلة الخبيثة» يعني: خبث الرائحة، وهو من جنس قوله: «كسب الحجام خبيث» مع أنه مباح، وإنما هو كسب رديء، وليس معناه التحريم، وهذا ليس خاصًّا بالبصل والثوم، بل يشمل غيرهما من الأطعمة ذات الرائحة الكريهة مما يؤذي الناس، فإنه يقاس عليه، لكن هناك شيء خبيث الرائحة ومحرم، ألا وهو الدخان. شرح سنن أبي داود (432/ 9).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«الخبيثة» هو مثل قوله في الرواية الأخرى: «المنتنة»، والعرب تطلق الخبيث على كل مذموم من قول أو مال أو طعام، وليس الخبيث هنا هو الحرام، بل ما تكرهه النفس؛ «فلا يقربن» هذا النهي إنما هو عن حضور المسجد، لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذِه البقول حلال بالإجماع ممن يعتد به.
وحكى القاضي (يعني: القاضي عياض اليحصبي) عن أهل الظاهر تحريمهما؛ لأنهما يمنعان من حضور الجماعة، وهي عندهم فرض عين، «مسجدنا» استدل به بعض العلماء على أن هذا النهي مخصوص بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- -كما تقدم-، «ثلاثًا» أي: قاله ثلاث مرات تأكيدًا للكلام ولقوَّة ِالنهي. شرح سنن أبي داود (15/ 474).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: «من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا -ثلاثًا-»، وبوّب عليه توقيت النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم، وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون قوله: «ثلاثًا» يتعلق بالقول، أي: قال ذلك ثلاثًا؛ بل هذا هو الظاهر؛ لأن علة المنع وجود الرائحة، وهي لا تستمر هذه المدة. فتح الباري (2/ 344).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فلا يقربن» -بفتح الراء والموحدة وتشديد النون- وليس في هذا تقييد النهي بالمسجد؛ فيستدل بعمومه على إلحاق المجَامِع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: «وليقعد في بيته»؛ لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لَعَمَّ النهي كل مجمع كالأسواق، ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: «من أكل من هذه الشجرة شيئًا فلا يقربنا في المسجد»، قال القاضي ابن العربي: ذكر الصفة في الحكم يدل على التعليل بها، ومن ثم رد على المازري حيث قال: لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ما له رائحة كريهة لم يمنعوا منه؛ بخلاف ما إذا أكل بعضهم؛ لأن المنع لم يختص بهم بل بهم وبالملائكة، وعلى هذا: يتناول المنع من تناول شيئًا من ذلك ودخل المسجد مطلقًا، ولو كان وحده، واستدل بأحاديث الباب على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: لأن اللازم من منعه أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا فتكون صلاة الجماعة ليست فرض عين.
أو حرامًا فتكون صلاة الجماعة فرضًا، وجمهور الأمة على إباحة أكلها؛ فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين، وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، ولازم الجائز جائز؛ وذلك ينافي الوجوب. فتح الباري (2/ 343).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد تعقّب هذا التقرير العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فيما علّقه على (الفتح) فقال: ليس هذا التقرير بجيّد، والصواب: أن أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين؛ كما أن حضور الطعام يُسوّغ ترك الجماعة لمن قُدِّم بين يديه مع كون ذلك مباحًا.
وخلاصة الكلام: أن اللَّه -عزَّ وجلَّ- يسّر على عباده، وجعل مثل هذه المباحات عُذرًا في ترك الجماعة لمصلحة شرعيّة، فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلةً لترك الجماعة حرُم عليه ذلك. انتهى كلامه -رحمه الله-، وهو تعقّب حسنٌ، -واللَّه تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (12/ 445-446).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ونُقل عن أهل الظاهر أو بعضهم تحريمها؛ بناء على أن الجماعة فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض عين، ولا تتم إلا بترك أكلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فترك أكل هذا واجب؛ فيكون حرامًا. ا. هـ.
وكذا نقله غيره عن أهل الظاهر؛ لكن صرح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح؛ لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النداء. فتح الباري (2/ 343).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ما قاله ابن حزم: هو الصواب؛ لموافقته للنصوص الواردة في هذا الباب.
وحاصله: أن صلاة الجماعة فرض، وأن أكل هذه الأشياء مباحٌ، وأنه يُسقط عمن أكلها فرضَ صلاة الجماعة؛ حتى تزول رائحتها. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (12/ 446).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قد توهَّم بعض الناس أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، فوضع هذا الحديث في جملة الأعذار المبيحة ترك حضور الجماعات، وإنما هذا توبيخ له، وعقوبة على فعله؛ ليُحْرَم بذلك فضيلة الجماعة. أعلام الحديث (1/ 556).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
كأنه -يعني: الخطابي -رحمه الله- يخص الرخصة بما لا سبب للمرء فيه كالمطر مثلًا؛ لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حرامًا، ولا أن الجماعة فرض عين. فتح الباري (2/343).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنه يتبيَّن أن قول الخطّابيّ -رحمه الله- غير سديد، بل الصواب: أنه عذرٌ في التخلُّف عنها؛ لظاهر النصّ؛ لأن من فعل ما أُبيح له لا يُعَاقب على فعله، فتبصّر، -واللَّه تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (12/ 446).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قد يُسْتَدَلُّ بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، ويبعد هذا من وجه: تقريبه إلى بعض أصحابه، فإن ذلك ينفي الزجر. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 303).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما: أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك؛ بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك بُنِيَ؛ فقد قدمت أن الزجر متأخر عن قصة التقريب بست سنين. فتح الباري (2/ 343).