«إِنَّ أسوأَ النَّاسِ سرِقةً الذِي يَسْرِقُ صلاتَهُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وكيف يسرِقُهَا؟ قال: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا ولا سُجُودَهَا».
رواه أحمد برقم: (11532)، وأبو يعلى برقم: (1311) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
وأحمد برقم: (22642)، والحاكم برقم: (835)، وابن خزيمة برقم: (663)، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.
ورواه ابن حبان برقم: (1888)، والحاكم برقم: (836)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (966)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2715).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أسوأ»:
يقال: ساء يسوء: فِعْلٌ لازم ومجاوز، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيء: إذا قبُح، والسوء: الاسم الجامع للآفات والداء. تهذيب اللغة، للأزهري (13/ 89).
«سرِقةً»:
السين والراء والقاف: أصل يدل على أخذ شيء في خفاء وستر، يقال: سرق يسرق سرقة. مقاييس اللغة، لابن فارس (3/ 154).
وقال الراغب -رحمه الله-:
السرقة: أخذ ما ليس له أخذه في خفاء، وصار ذلك في الشرع: لتناول الشيء من موضع مخصوص، وقدر مخصوص. المفردات في غريب القرآن (ص: 231).
شرح الحديث
قوله: «إِنَّ أسْوأَ النَّاسِ سرِقةً الذي يَسْرِقُ صلاتَهُ»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«أسوأ» أفعل؛ من السوء خلاف الإحسان، أي: أكثر سوءًا، قد جعل الذي لا يُتِمُّ ركوع صلاته وسجودها سارقًا؛ لأنه تارك بعضها؛ فكأنه قد أخذ منها شيئًا؛ فنقصها كما ينقص السارق المال الذي يسرقه.
وقوله: «أسوأ السرقة» (على رواية أخرى) مبتدأ، وخبره: «الذي يسرق صلاته»؛ فجعل الصفة خبرًا عن الحدث، وإنما يصح هذا على تقدير حذف مضاف، التقدير: أسوأُ السَّرِقَةِ سَرِقَةُ الذي يسرق صلاته، أو أسوأ ذوي السرقة الذي يسرق صلاته، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} البقرة:189. الشافي في شرح مسند الشافعي(1/ 612).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أسوأ الناس سرقة» شَرُّهم من حيث السرقة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 373).
وقال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-:
يريد: وشر من ذلك كُله من يسرق الصلاة؛ فلا يتم ركوعها ولا سجودها...، أما من لم يتم ركوعها ولا سجودها، فلا صلاة له، وعليه الإعادة. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 183).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«السرِقة» رواية الموطأ بكسر الراء؛ أي: سرقة الذي؛ كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} البقرة:177، أي: بر من آمن، وروي بفتح الراء، جمع: سارق؛ كفاسق وفسقة، قاله ابن عبد البر. «فأسوأ» مبتدأ خبره: «الذي» على حذف مضاف؛ أي: سرقة الذي يسرق صلاته. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 579).
وقال الباجي -رحمه الله-:
السرقة تكون في ذلك على وجهين:
أحدهما: أن يسرقها من الحفظة الموكلين بحفظه وكَتْب ما يأتي به منها، وذلك أنه إذا لم يأتِ بها على الوجه المأمور فقد تعذَّر عليهم وجود ما أرادوا أن يكتبوه من صالح عمله فيها.
والثاني: أن تكون السرقة فيها بمعنى الخيانة؛ وذلك أن يُؤتمَن عليها فيخون فيها، ولا يأتي فيها على حسب ما يلزمه من أدائها.
وأقل ما يلزمه من الركوع: أن يضع يديه في ركبتيه، ويُسَوِّيَ ظهره حتى يستقر كذلك، ومن السجود: أن يضع جبهته ويديه وسائر أعضاء سجوده على ما يسجد عليه ويستقر كذلك، فلو أخل بشيء من ذلك فقد سرق صلاته. المنتقى شرح الموطأ (1/ 298).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
جعل جنس السرقة نوعين: متعارفًا، وغير متعارف، وهو ما ينقص من هذا الركن من الطمأنينة، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، وإنما كان أسوأ؛ لأن السارق إذا أخذ مال الغير ربما ينتفع به في الدنيا، ويستحل من صاحبه، أو تقطع يده، فيتخلص من عقاب الآخرة، بخلاف هذا السارق، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في العُقبى، وليس في يده سوى الضرر والتعب. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 1020).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن قيل: قد ثبت في عدة من الأحاديث أن الذنوب ثلاثة: أحدها: يغفره الله، وهو ما بينه وبين عبده، وثانيها: ما لا يتركه، وهو ذنوب العباد فيما بينهم، وسرقة الصلاة من الأول وسرقة العباد من الثاني، فكيف جُعلت سرقة الصلاة أسوأ السرقات؟ قيل: لأنها سرقة لم ينل صاحبها منها سوى الإثم، فلا نفع له فيها ألبتة؛ بخلاف سرقة المال ففيها نفع له في الدنيا، فكأن له حامل على سرقته، بخلاف سارق الصلاة؛ ولأن سارق الصلاة قد أضاع من الأجر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وأصاب من العقوبة على سرقتها أشد من عقوبة سارق المال، فإن عقوبته قطع عضو منه في دار الزوال، فكان سارق الصلاة أسوأ من كل سارقِ سَرِقة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 373-374).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «أسوأ الناس سرقة ...إلخ» شبّه فعلَه للصلاة غير تامة الركوع والسجود بأخذ إنسانٍ مالَ غيرِه خفيةً، وهذا يأخذ حقه وينقص ثوابه، وإنما كان أسوأ لأن فيه ضررًا محضًا من غير نفع، وضررًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبقتله حدًّا، أو إطالة حبسه وسجنه وزجره وتعزيره على اختلاف بين الأئمة بخلاف سرقة المال. لمعات التنقيح (3/ 19).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي: إنما كان أسوأ؛ لأن الخيانة في الدِّين أعظم من الخيانة في المال. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 214).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «أسوأ الناس» أي: أقبحهم وأشرهم، «سرقة» بكسر الراء وتفتح أيضًا على ما في القاموس، وهو مصدر منصوب على التمييز ...، «الذي يسرق من صلاته» خبر (أسوأ). مرعاة المفاتيح (3/ 200-201)
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
الرواية في الموطأ «أسوأ السرِقة» بكسر الراء، والمعنى: أسوأ السرقة سرقة من يسرق صلاته.
وقد جاء في القرآن {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} البقرة:177 ، والمعنى: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله.
ومن روى «أسوأ السرَقة الذي يسرق صلاته» بفتح الراء يريد: أسوأ السرقة فعلًا الذي يسرق صلاته.
والسرَقة: جمع سارق، مثل: الفاسق والفسقة، والكافر والكفرة. الاستذكار (2/332).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وعلى هذا قوله: «الذي يسرق من صلاته» خبر بلا تأويل، وأما على الرواية الأولى فيحتاج إلى حذف المضاف كما بينه ابن عبد البر. مرعاة المفاتيح (3/ 202).
وقال الباجي -رحمه الله-:
لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما قصد أنْ يعلمهم أنَّ الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة من الكبائر. المنتقى شرح الموطأ (1/ 298).
قوله: «قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرِقها؟ قال: «لا يُتِمُّ رُكُوعَهَا ولا سُجُودَهَا».
قال أبو بكر ابن العربي -رحمه الله-:
قولهم: «كيف يسرق صلاته؟» سؤال عن تفسير ما أجمله، فقال مفسرًا لذلك: «لا يتم ركوعها ولا سجودها»؛ وإنما خصهما لأن الإخلال في الغالب إنما يقع بهما.
وأقل ما يجزئ من ذلك: أن يضع يديه على ركبتيه، ويعتدل قائمًا وراكعًا متمكنًا، وأقل ما يقع عليه اسم الركوع: أن تطمئن مفاصله، وكذلك لا يجزئه في السجود أقل من وضع وجهه بالأرض ويديه متمكنًا، وهو أقل ما يقع عليه اسم ساجد غير ناقر. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 183).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وهذا يدل على أنه أسوأ حالًا عند الله من سُرَّاق الأموال. إعلام الموقعين (2/ 243).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
فصرح بأنه أسوأ حالًا من سارق الأموال، ولا ريب أن لص الدِّين شرُّ من لص الدنيا. الصلاة وأحكام تاركها (ص:123-124).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«قالوا: وكيف يسرق منها يا رسول الله؟ قال لا يتم»، وفي رواية: «الذي لا يتم ركوعها ولا سجودها»؛ وأعاد «لا» في السجود دفعًا لتوهُّم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما. فيض القدير (1/ 513).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما اؤتمن على أدائه. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 579).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها» أو قال: «لا يقيم صلبه في الركوع والسجود» ...
والحديث يدل على افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- جعل ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود، وعدم إتمامهما أقبح أنواع السرق، وجعل الفاعل لذلك أسوأ من تلبَّس بهذه الوظيفة الخسيسة التي لا أوضع ولا أخبث منها، تنفيرًا عن ذلك، وتنبيهًا على تحريمه، وقد صرَّح -صلى الله عليه وسلم- بعدم إجزاء صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ونفي حقيقة الصلاة عمن لم يتم ركوعه وسجوده، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، كلها ترد على من لم يقل بافتراض الطمأنينة فيهما. مرعاة المفاتيح (3/201).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وهذا إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين، وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه، ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك، وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولًا وفعلًا، ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانًا؛ كما كانوا يتركون ما ليس بواجب.
وأيضًا فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه، وحين وضع وجهه على الأرض، فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يُسمى ذلك ركوعًا، ولا سجودًا، ومن سماه ركوعًا وسجودًا فقد غلط على اللغة، فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يُسمى راكعًا وساجدًا، حتى يكون فاعله ممتثلًا للأمر، وحتى يقال: إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم، فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعًا وسجودًا، وهذا مما لا سبيل إليه، ولا دليل عليه، فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله، وفي لغة العرب، وإذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد لم يكن ممتثلًا بالاتفاق؛ لأن الوجوب معلوم وفعل الواجب ليس بمعلوم، كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك في فعلها. القواعد النوارنية (ص: 53).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- أيضًا:
«وكيف يسرق» أحد «من صلاته»، وفي بعض النسخ «صلاته» بالنصب. مرعاة المفاتيح (3/ 202).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
المشروع للمؤمن أن يأتي الصلاة بقلب حاضر خاشع، وأن يقبل عليها حتى يؤديها في غاية العناية، والإقبال عليها والإخلاص لله والخشوع فيها، كما قال الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون:1-2، وفي الحديث الصحيح يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها»؛ فالواجب على المؤمن والمؤمنة العناية بالصلاة، وأن يكملها ويتم ركوعها وسجودها، لكن إذا كان في أول الوقت عنده تعب فإنه لا بأس أن يستريح، بل الأفضل له أن يستريح ولو صلاها في أثناء الوقت؛ لأنه إذا صلاها في أثناء الوقت، ولو في آخره مع الراحة والطمأنينة والخشوع- كان أفضل من صلاتها في غير خشوع ولا طمأنينة، لكن لا يؤجلها إلى خروج الوقت، لا بد أن تفعل في الوقت، فالتأخير إلى نصف الوقت، ثلث الوقت للحاجة الشرعية من التعب أو شدة المرض ونحو هذا- لا بأس بذلك والحمد لله، لكن يعتني في إكمالها وإتمامها والطمأنينة فيها، في أي وقت فعلها، لا بد من الطمأنينة؛ لأن الطمأنينة ركن فيها لا بد منه، أما كمال الخشوع كمال العناية فهذا أفضل، ولكن الطمأنينة أن يركع مطمئنًا، ويسجد مطمئنًا، ويجلس بين السجدتين مطمئنًا، يعتدل بعد الركوع مطمئنًا، هذا لا بد منه، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسيء في صلاته أن يعيد ما أخل فيه بهذه الطمأنينة، وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخل بهذا سارقًا، قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها». فتاوى نور على الدرب (8/ 38-39).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- أيضًا:
فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي أعظم أركانه بعد الشهادتين، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها ضيع دينه -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، ومن المحافظة عليها ومن إقامتها: الخشوع فيها، وعدم مسابقة الإمام، يقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون:1-2، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها»، ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا قد أساء في صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها أمره أن يعيد الصلاة، وقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها». مجموع الفتاوى (4/ 52-53).