«مَن بنى مسجدًا يبتغي به وجهَ اللهِ، بنى اللهُ له مثلَهُ في الجنةِ».
رواه البخاري برقم: (450)، ومسلم برقم: (533)، من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «مَن بنى مسجدًا»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «من بنى» يقتضي وجود بناء على الحقيقة؛ فيحمل على المسجد المعهود بين الناس، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة: «من بني لله بيتًا»...، وحديث عمر -رضي الله تعالى عنه- أيضًا: «من بنى لله مسجدًا يُذْكَرُ فيه اسم الله»، وكل ذلك يدل على أن المراد بالمسجد هو: المكان الْمُتَّخَذُ لا موضع السجود. عمدة القاري (4/ 213).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
«مسجدًا» التنوين فيه للشيوع؛ فيتناول من بنى مسجدًا كبيرًا أو صغيرًا. عمدة القاري (4/ 213).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وزاد الترمذي في روايته لسَمُّويه (بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم وتشديدها، واسمه: إِسْمَاعِيل بن عبد الله الْعَبْدي الْفَقِيه، ويعرف بسمويه): «من بنى لله بيتًا»، وفي رواية لابن ماجه: «من بنى الله مسجدًا يُذْكَرُ فيه اسم الله». فيض القدير (6/ 96).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«من بنى» بنفسه أو بُنِيَ له بأمرهِ، «لله مسجدًا» أي: محلًّا للصلاة بقصد وقفه لذلك؛ فخرج الباني بالأُجْرَة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 408).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
ووقع عند الترمذي: «صغيرًا أو كبيرًا»، وفي رواية: «ولو كَمِفْحَصِ قَطَاة»، والقطاة: طائر صغير، ومِفْحَصُهُ: عُشُّهُ الذي يضع فيه البيض. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 109-110).
قوله: «يبتغي به وجه الله»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«يبتغي به وجه الله» أي: يطلب به رضاه. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 408).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يبتغي» أي: يطلب ذلك الباني «به» أي: ببناء ذلك المسجد، «وجه الله» تعالى ورضاه لا الرياء والسمعة والمحمدة (قال بُكَيْرٌ: حسبتُ أنه قال) أي: حسبتُ أنه زاد هذه الجملة، وهي معترضة بين الشرط وجوابه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 400).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ومنهم من ينفق فِي بناء المساجد والقناطر؛ إلا أنه يقصد الرياء والسمعة، وبقاء الذكر، فيكتب اسمه على ما بنى، ولو كان عمله لله -عز وجل- لاكتفى بعلمه -سبحانه وتعالى-، ولو كُلِّف أن يبني حائطًا مِن غير أَن يكتب اسمه عليه لم يفعل. تلبيس إبليس (ص: 349).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يبتغي به وجه الله» أي: يطلب به رضاه، وهو بمعنى حديث الطبراني: «لا يريد به رياء ولا سمعة»، وأيًّا ما كان فالمراد: الإخلاص، وقد شدَّد الأئمة في تحريمه حتى قال ابن الجوزي: من كَتب اسمه على مسجد بناهُ فهو بعيد من الإخلاص، وقول بعض الشراح: ومعنى «يبتغي به وجه الله»: يطلب به ذات الله؛ فإن بناه بقصد الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يُقْدَحُ في إخلاص الباني، وابتغاء وجه الله أمر زائد هو أعلى وأجل من ذلك؛ فلا يلائم سياق قوله: «بنى الله له مثله في الجنة»، ولو كان المراد ذلك لقيل في الجواب: أعطاه الله مطلوبه أو تَفَضَّلَ عليه بالنظر إليه الذي وقع البناء لأجله وبقصده.
فإن قلتَ: ما الحكمة في اقتصاره في الحديث الْمَارِّ (يقصد: الذي سبق ذكره قبل هذا في فيض القدير) على الإضافة لله (وهو حديث: «من بنى لله مسجدًا»)، واقتصاره هنا على لفظ الابتغاء (أي: «من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله»، فلم يذكر لفظ: «لله»)؟
قلتُ: قد سمعت أن المراد: النصّ على شرطية الإخلاص، وبإضافته إلى الله تعالى في الخبر الأول علم ذلك، ولَمَّا لم يذكر لفظ الجلالة في الثاني احتاج إلى إلحاق القيد. فيض القدير(6/ 96).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «يبتغي به وجه الله» أي: مخلصًا في بنائه له، ومن كتب اسمه عليه، فهو بعيد من الإخلاص كما نبَّه عليه ابن الجوزي؛ لأن المخلص يكتفي برؤية العمل المعمول معه، وقد كان حسان بن أبي حسان يشتري أهل البيت فيعتقهم ولا يخبرهم من هو؟ التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 547).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يبتغي به وجه الله» أي: رضاه، وفي لفظ الطبراني: «لا يريد به رياء ولا سمعة»، والمراد به: الإخلاص...، وهذا الشرط في كل عبادة وطاعة. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 163).
وقال العيني -رحمه الله-:
«يبتغي به وجه الله» وهذه الجملة مُدرجة معترضة وقعت في البين ولم يجزم بها بُكَير؛ فلذلك ذكرها بالحسبان، وليست هذه الجملة في رواية جميع من روى هذا الحديث؛ فإن لفظهم فيه: «من بنى لله مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة»؛ فكأن بُكَيرًا أُنْسِيَ لفظة: «لله»؛ فذكرها بالمعنى؛ فإن معنى قوله: «لله»: «يبتغي به وجه الله»؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود وهو: الإخلاص، ثم إن لفظة: «يبتغي به» على تقدير ثبوتها في كلام الرسول تكون حالًا من فاعل «بنى»، والمراد بـ: «وجه الله»: ذات الله، وابتغاء وجه الله في العمل هو الإخلاص، وهو أن تكون نيته في ذلك طلب مرضاة الله تعالى من دون رياء وسمعة...
فإن قلتَ: فعلى هذا لا يحصل الوعد المخصوص لمن يبنيه بالأُجرة؛ لعدم الإخلاص.
قلتُ: الظاهر هذا، ولكنه يُؤْجَرُ في الجملة، يدل عليه: ما رواه أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: «أن الله يُدْخِلُ بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممدَّ به»؛ فقوله: «المحتسب في صنعته» هو من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعمُّ من أن يكون متطوِّعًا بذلك، أو بأُجرة؛ لكن الإخلاص لا يكون إلا من المتطوع.
فإن قلتَ: قوله: «من بنى» حقيقته: أن يباشر البناء بنفسه؛ ليحصل له الوعد المخصوص؛ فلا يدخل فيه الأمر بذلك.
قلتُ: يتناول الأمر أيضًا بِنِيَّته: «والأعمال بالنيات».
فإن قلتَ: يلزم من ذلك: الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممتنع.
قلتُ: لا امتناع فيه عند الشافعي، وأما عند غيره فبعموم المجاز، وهو أن يُحْمَلَ الكلام على معنى مجازيٍّ يتناول الحقيقة، وهذا يُسَمَّىْ: عموم المجاز، ولا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازيٍّ يكون المعنى الحقيقي من أفراده؛ كاستعمال الدابة عُرْفًا فيما يدُبُّ على الأرض، ومثال ذلك فيمن أوصى لأبناء زيد مثلًا، وله أبناء وأبناء أبناء؛ يستحق الجميع عند أبي يوسف ومحمد؛ عملًا بعموم المجاز؛ حيث يطلق الأبناء على الفريقين. عمدة القاري (4/ 213-214).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
قوله: «يَبتَغِي» إِنْ كان من لفظ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فهو حالٌ من ضمير «بنَى».
«وجه» أي: ذات (هذا فيه صرف للفظ عن ظاهره)، والحديث عامٌّ فيمن باشر البِناءَ، ومن أمر به، ففيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وهو شائعٌ عند الشَّافعي، وعلى المنعْ يُحمل على معنى مجازيٍّ يتناولهما، ويُسمَّى عُموم المجاز، أما إسناد البناء إلى الله، فمجاز قطعًا. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 218-219).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
الحديث يدعو إلى إخلاص النية لله، ومعنى ذلك: توقف هذا الجزاء على الإخلاص، أما من يقصد ببناء المسجد المباهاة والْمُراءاة فإن عمله مُحْبَط. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 111).
قوله: «بنى الله له مثله في الجنة»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «بنى الله له» إسناد البناء إلى الله مجازًا اتفاقًا قطعًا.
فإن قلتَ: إظهار الفاعل فيه لماذا؟ قلتُ: لأن في تكرار اسمه تعظيمًا وتلذُّذًا للذاكر، قال الشاعر:
أَعِدْ ذِكْرَ نعمان لنا إنَّ ذكره *** هو المسك ما كرَّرْته يَتَضَوَّع.
وقال بعضهم: لئلا تتنافر الضمائر، أو يُتَوَهَّم عَوْدُهُ على باني المسجد، قلتُ: كلا الوجهين غير صحيح، أما الأول: فلأن التنافر إنما يكون إذا كانت الضمائر كثيرة، وأما الثاني: فممنوع قطعًا؛ للقرينة الحالية والمقالية. عمدة القاري (4/ 214).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بنى الله له مثله في الجنة» أي: مثله في الشرف ولا يلزم اتحاد جهة الشرف؛ فإن شرف المساجد في الدنيا بالتعبد فيها وشرف ذلك البناء من جهة الحسن الحسي. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 408).
وقال النووي -رحمه الله-:
يحتمل مثله في القَدر والمساحة، ولكنه أَنفس منه بزيادات كثيرة، ويحتمل: مثله في مسمى البيت، وإن كان أكبر مساحة وأشرف. شرح صحيح مسلم (18/ 113).
وقال العيني -رحمه الله- متعقبًا للنووي:
قلتُ: الوجه الثاني لا يخلو عن بُعد. عمدة القاري (4/ 214).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «بنى الله له مثله» أي: في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد؛ فيكون مثلًا له في صفات الشرف. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 249).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«مثله» أي: في مسمَّى المسجد لا في صفته، فوجه المماثلة مع أن الحسنة بعشر أمثالها: أن ذلك إما قبل نزول آية: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} الأنعام:160، أو المثلية بحسب الكَمِّيَّة، والزيادة بحسب الكيفية، أو أن التقييد بها لا يدل على نفي الزيادة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/ 159).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ومعنى قوله في حديث عثمان: «بنى الله له مثله» يعني: في القدر والمساحة، وقيل: مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء. عارضة الأحوذي (1/100-101).
وقال العيني -رحمه الله- متعقبًا:
قلتُ: يَرُدُّ هذا: حديث عبد الله بن عمرو: «بيتًا أوسع منه»، وقال قوم: مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء. قلتُ: هذا ليس بشيء على ما لا يخفى؛ مع أنه ورد في حديث واثلة عند أحمد والطبراني: «بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه». عمدة القاري (4/ 214).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا البيت هو -والله أعلم- مثل بيت خديجة الذي قال فيه: إنه من قَصَب، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب؛ يريد: من قصب الزُمَرَّد والياقوت. المفهم (2/131).
وقال العيني -رحمه الله- متعقبًا:
قد ذكرنا حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان: «بنى الله له بيتًا في الجنة من دُرٍّ وياقوت». عمدة القاري (4/ 214).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «بنى الله له في الجنة مثله» هذه المثلية ليست على ظاهرها، ولا من كل الوجوه، وإنما يعني: أنه بنى له بثوابه بناء أشرف وأعظم وأرفع، وكذلك في الرواية الأخرى: «بنى الله له بيتًا في الجنة»، ولم يُسَمِّه مسجدًا. المفهم (2/131).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مثلَه» منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: بناء مثله، والمثْل في اللغة: الشبه، يقال: هذا الشيء مثل هذا، أي: شبهه، قال الجوهري: مثل: كلمةُ تسوية، يقال: هذا مِثْلُهُ ومَثَلُهُ، كما تقول: شِبْهُهُ وشَبَهُهُ، وعند أهل المعقول المماثلة بين الشيئين هو: الاتحاد في النوع؛ كاتحاد زيد وعمرو في الإنسانية، وإذا كان في الجنس يسمى: مجانسة؛ كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية.
وقد اختلفوا في المراد بالمثلية ههنا، فقال قوم -منهم ابن العربي-: يعني: مثله في المقدار والمساحة...
وقال بعض شراح الترمذي: ويحتمل أنه أراد أن يُنَبِّه بقوله: «مثله» على الحضِّ على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا في كونه ينفع المصلين، ويُكِنُّهُم عن الحرِّ والبرد، ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به؛ ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة...
فإن قلتَ: قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام:160، فما معنى التقييد بمثله؟
قلتُ: أجابوا عن هذا بأجوبة:
الأول: ما قاله بعضهم: أنه -صلى الله عليه وسلم- قاله قبل نزول هذه الآية، قلتُ: هذا بعيد، ولا يعلم ذلك إلا بالتاريخ.
الثاني: أن المثلية إنما هي بحسب الكَمِّيَّة والزيادة بحسب الكيفية، قلتُ: المثلية بحسب الكَمِّيَّة تسمى: مساواة؛ كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، وفي الكيفية تسمى: مشابهة.
الثالث: أن التقييد به لا ينفي الزيادة، واستبعده بعضهم، وليس ببعيد.
الرابع: أن المقصود منه: بيان المماثلة في أن أجزاء هذه الحسنة من جنس العمل لا من غيره، وعندي جواب فُتِحَ لي به من الأنوار الإلهية، وهو أن المجازاة بالمثل عدل منه، والزيادة عليه بحسب الكيفية والكَمِّيَّة فضل منه.
قوله: «في الجنة» قال بعضهم: هو مُتَعَلِّق بـ«بنى»، أو هو حال من قوله: «مثله».
قلتُ: ليس كذلك، وإنما هو متعلق بمحذوف وقع صفة لمثله، والتقدير: بنى الله له مثله كائنًا في الجنة، وكيف يكون حالًا من مثله، وشرط الحال أن يكون من معرفة كما عرف في موضعه، ولفظ مثل: لا يتعرف وإن أُضِيْفَ. عمدة القاري (4/ 214).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
قال (ط) (يعني: ابن بطال): يَكفي في شرَفها إضافتُها إليه بقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} الجن:18، وأجر المسجد جار بعد مَوت الباني ما دام يذكر الله -عز وجل- فيه. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 219).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «مثله» فليس المراد: أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد -والله أعلم-: أنه يوسع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة، ويكمل انتفاعه بما يبنى له في الجنة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان، وإن كان لا نسبة لما في الدنيا إلى ما في الآخرة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في الْيَمِّ، فلينظر بِمَ ترجع».
وقد دل على ما قلناه: ما خرَّجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «من بنى لله مسجدًا في الدنيا فإن الله -عز وجل- يبني له بيتًا أوسع منه في الجنة». فتح الباري (3/ 320-321).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذه المثلية (بنى اللهُ له مثلَهُ في الجنةِ) ليست على ظاهرها، ولا من كل الوجوه، وإنما يعني: أنه بنى له بثوابه بناءً أشرف وأعظم وأرفع، وكذلك في الرواية الأخرى: «بنى الله له بيتًا في الجنة»، ولم يُسَمِّهِ مسجدًا، وهذا البيت هو -والله أعلم- مثل بيت خديجة الذي قال فيه: «إنه من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»، يريد: من قصب الزمرد والياقوت، ويعتضد هذا بأن أجور الأعمال مضاعفة، وأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذا كما قال في المتصدق بالثمرة: «إنها تربى حتى تصير مثل الجبل»، ولكن هذا التضعيف هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص والإتقان والإحسان، وَلَمَّا فهم عثمان هذا المعنى تأنَّق (أي: طلب آنق الأشياء وأحسنها) في بناء المسجد وحسَّنه وأتقنه، وأخلص لله فيه؛ رجاء أن يُبنى له في الجنة قصر متقن مشرف مرفع، وقد فعل الله تعالى له ذلك وزيادة -رضي الله عنه-. المفهم (2/ 130-131).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «بنى الله له مثله في الجنة» يحتمل أن يكون مثله في المسمى، وأما السعة فمعلوم فضلها أو فضله على بيوت الجنة؛ كفضل المسجد على بيوت الدنيا؛ بسبب إضافته إلى الرب تعالى، وقد بشَّر الشارع خديجة -رضي الله عنها- «ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»، والآخر يضاعف بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص، وَلَمَّا فهم عثمان هذا المعنى سابق في بناء المسجد، وحسَّنه وأخلص فيه وتابعوه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/ 547).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «مثله» أي: بنى مثل المسجد في الشرف، ولا يلزم كون جهة الشرف متَّحدة، فإن شرف المساجد في الدنيا بالتعبد فيها، وشرف ذلك البناء في جهة الحسن الحسنى، أو المراد: بيان وصف ذلك البيت، ويكون له عشر بيوت في الجنة، أو لفظ المثل يراد به: الإفراد؛ فلا يمتنع كون الجزاء أبنية متعدِّدة، هي عشر مثله، فلا وجه للاستشغاب بأن الحسنة بعشرة أمثالها على أن المثلية هنا بحسب الكَمِّيَّة، والزيادة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشر بل مائة بل ألف، أما سمعتَ خبر: «موضع شبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها»؟ فيض القدير (6/ 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«بنى الله له مثله في الجنة» والمراد بالمثلية: أنه يكون له، أتى لتثبيته في الجنة: شرفٌ وسموٌّ وذكرٌ؛ كشرف المساجد في الدنيا، وإلا فالحسنة بعشر أمثالها، وإنما أريد بيان أنه يكون له بيت في الجنة له شرف وذكر عند أهلها. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 163).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«بنى الله له مثله في الجنة» المقصود من المثلية: أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره، فلا يقال: إن الحسنة بعشر أمثالها. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 280).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «بنى الله له مثله في الجنة» جواب الشرط، وفي رواية هارون بن سعيد لفظه: «بنى الله له بيتًا في الجنة» بدل قول أحمد بن عيسى: «مثله»، قال الأُبِّيُّ: قلتُ: احتجاج عثمان بالحديث وهو إنما زاد في المسجد- هو بناءً على أن الزيادة في المسجد عند الحاجة إليها كبناء المسجد ابتداء. ا. هـ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (26/ 400).
وقال السهيلي -رحمه الله-:
لم يُرِدْ مثله في كونه مسجدًا، ولا في صفته، ولكن قابل البنيان بالبنيان، أي: كما بنى يُبنى له. الروض الأنف (2/ 427).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«بنى الله له مثله في الجنة» أي: بُنِيَ له مثل عدد ما بناه، فإنْ بنى واحدًا بني له واحدٌ وإن بنى اثنين بني له اثنان، فالتشبيه في العدد لا في الشكل. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 26).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الباني للمسجد قد أثَّر أثرًا يُعْبَدُ لله فيه؛ فَكَأَنَّهُ قد شهد بفعله ذلك لربه -سبحانه وتعالى- أنه لا إله إلا هو قائمًا بالقسط، وبأنه مستحق للعبادة؛ فلذلك بنى الله له بيتًا في الجنة. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 232).