«لما قضى اللهُ الخلقَ كَتَبَ في كتابِهِ فهو عنده فوقَ العرشِ: إِنَّ رحمتي غلبتْ غَضَبِي».
رواه البخاري برقم: (3194) واللفظ له، ومسلم برقم: (2751)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للبخاري برقم: (7453) «إنَّ رحمتي سبقت غضبي».
وفي لفظ عند أحمد برقم: (9597)، والترمذي برقم: (3543)، وابن ماجة برقم: (4295) «لمّا خلق الله الخلق، كَتب بيدهِ على نفسه..».
صحيح الجامع برقم: (1755)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: ( 1629).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«قضى»:
القاف والضاد والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فصلت:12 أي: أحكم خلقهن. مقاييس اللغة، لابن فارس (5/ 99).
«العرش»:
سرير الملك، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله -عزَّ وجلَّ- عرشًا؛ فقال عَزَّ من قائل: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} النمل:23؛ وقد يُستَعَار لغيره، وعرش الباري سبحانه لا يُحَدُّ. لسان العرب، لابن منظور (6/ 313).
شرح الحديث
قوله: «لما قضى الله الخلق»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «لما قضى الله الخلق» يريد لما خلق الله الخلق، ومنه قول الله -عزَّ وجلَّ-: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فصلت:12، أي: خلقهنَّ، وكل صنعة وقعت في شيء على سبيل إتقان وإحكام فهو: قضاء. أعلام الحديث (2/ 1471).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لما قضى الله الخلق» أي: خلق الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فصلت:12، أو المراد: أوجد جنسه، وقضى: يطلق بمعنى: حكم وأتقن، وفرغ وأمضى. فتح الباري (6/ 291).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
«لما قضى الله الخلق» أي: أكمله وأتَمَّهُ. بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص:301).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لما قضى الله الخلق» أي: لما أظهر قضاءه، وأبرز أمره لمن شاء. المفهم (7/ 82).
وقال العراقي -رحمه الله- مُعلقًا:
قلتُ: وإنما أحوجه إلى تأويل «قضى» بأظهر وأبرز- ظَنُّهُ أن القضاء هنا بمعنى: التقدير، وهو -أعني التقدير- قديم؛ فاحتاج إلى تأويله بظهوره، ويحتمل: أن المراد بالقضاء هنا: الخلق، أي: لما فرغ من خلق المخلوقات، ويدل له: قوله في رواية أخرى في الصحيح: «لما خلق الله الخلق»، والروايات يفسر بعضها بعضًا، والخلق من صفات الفعل؛ فلا يحتاج إلى تأويله بما ذُكِرَ، -والله أعلم-. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 83-84).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«لما قضى اللهُ الخلقَ» قال ابن عرفة: قضاء الشيء: إحكامُه وإمضاؤه، والفراغ منه، وبه سُمِّيَ القاضي؛ لأنه إذا حكم، فقد فرغَ مما بينَ الخصمين. مصابيح الجامع (7/ 38).
قوله: «كتب»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كتب في كتابه» أي: أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ. فتح الباري (6/ 291).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبا مَن أوَّلَها:
«كتب» أي: كتابة حقيقية لا مجازية، ودليل هذا رواية الترمذي وابن ماجه بلفظ: «كتب ربكم على نفسه بيده...» الحديث، فإنه ظاهر في أنه كتبه -سبحانه وتعالى- بيده، كما صح أنه كتب التوراة لموسى بيده، وقد قدمنا غير مرَّة أن الحق أن لله -سبحانه وتعالى- يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره.
أما ما ذكره في الفتح في كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفة المخالفة لطريق السلف فمما يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنه يفهم بالإشارة ما يفهمه الغبي بألف عبارة، ويكتفي بالقليل، والغبي لا يكفيه التطويل، ولو تُلِيَتْ عليه التوراة والإنجيل. البحر المحيط الثجاج (42/612).
قوله: «في كتابه»:
قال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «في كتابه» يحتمل: أن يُرَاد به: اللوح المحفوظ، ويحتمل: أن يُراد به غيره. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 84).
وقال أبو زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«في كتابه» هو اللوح المحفوظ.منحة الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 305).
وقال الخطابي-رحمه الله-:
أراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاهُ وأوجبه، كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} المجادلة: 21، أي: قضى الله وأوجبه، ويكون معنى قوله: «فهو عنده فوق العرش»، أي: فعِلْمُ ذلك عند الله فوق العرش، لا ينساهُ، ولا ينسخه ولا يبَدِّلُه، كقوله عز وجل: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} طه: 52.
وإما أنْ يكون أراد بالكتاب: اللوح لمحفوظ، الذي فيه ذِكر أَصناف الخَلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم، والأقضية النافذة فيهم، ومآل عواقب أمورهم. أعلام الحديث (2/ 1473).
قوله: «فهو عنده»:
قال ابن فورك -رحمه الله-:
قوله: «فهو عنده» فإن لفظة: «عند» تستعمل على وجوه ومعانٍ: فمنها: أن يقال: عند الله بمعنى: أنه في علم الله تعالى.
ويقال: عند الله على معنى: أنه في حكم الله تعالى.
ويقال: عند الله على معنى النصرة والكرامة والقدرة والمنزلة؛ على قراءة من قرأ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} الزخرف: 19، والمراد: وضعهم بالقرب والكرامة.
ويحتمل: أن يكون ذلك الكتاب موضوعًا على العرش على معنى الْمُمَاسَّة له، ويكون عند الله على معنى إحاطة علمه بما فيه من حديث لا يخفى عليه منه شيء. مشكل الحديث وبيانه (ص: 455).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا مَن أوَّلَها:
«عنده» -سبحانه وتعالى- عندية حقيقية على ظاهر اللفظ، على مراد الله تعالى دون أن نُؤَوِّلَهُ. البحر المحيط الثجاج (42/612).
قوله: «فوق العرش»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فوق العرش» شبَّه حُكمه الجازم الذي لا يعتريه نسخ، ولا يتطرَّق إليه تغيير- بحكم الحاكم، إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامه، عقد عليه سجلًا، وحفظ عنده؛ ليكون ذلك حجة باقية، محفوظة من التبديل والتحريف. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1860).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
أما قوله: «فوق العرش» كان بعض أهل العلم يقول: إن معناه: دون العرش استعظامًا لأنْ يكون شيء من الخلق فوق عرش الله، وكان يُحْتَجُّ في ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة: 26، ومعناه: فما دونها...
وقال بعضهم: (فوق) يُزَادُ في الكلام ويُلْغَى، كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الأنفال: 12، وفوق العنق: عظام الرأس، إنما معناه: فاضربوا الأعناق، وكقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} النساء: 11، وأجمعوا أن الابنتين ترثان الثلثين، فلم يكن لحرف فوق فيه أثر.
قلتُ: وهذا أيضًا لا يتوجه في معنى الحديث؛ لأنك إذا نزعت منه هذا الحرف وألغيته لم يصح معنى الكلام؛ لأنه لا يجوز أن يقول: فهو عنده العرش، كما يصلح أن يقال: فإن كن نساء اثنتين. أعلام الحديث (2/1471- 1473).
وقال العيني -رحمه الله- مُعلقًا على الخطابي:
قلتُ: في كل منهما نظر، أما الأول ففيه استعمال اللفظ في غير موضعه، وأما الثاني: ففيه فساد المعنى؛ لأن معناه يكون حينئذٍ: فهو عنده العرش، وهذا لا يصح، والأحسن أن يقال: معنى قوله: «فهو عنده فوق العرش» أي: علم ذلك عند الله فوق العرش لا يُنْسَخُ ولا يُبَدَّلُ، أو ذكر ذلك عند الله فوق العرش، ولا محذور من إضمار لفظ العلم أو الذكر، على أن العرش مخلوق ولا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق، فإن الملائكة حملة العرش حاملونه على كواهلهم، وفيه المماسَّة؛ فلا محذور أن يكون كتابه فوق العرش.
فإن قلتَ: ما وجه تخصيص هذا بالذكر على ما قلت، مع أن القلم كتب كل شيء؟
قلتُ: لما فيه من الرجاء الكامل، وإظهار أن رحمته وسعت كل شيء، بخلاف غيره. عمدة القاري (15/ 111).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قوله: «فوق العرش» قيل: أراد دون العرش، كقوله تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة:26، أي: دون البعوضة، وهذا تكلُّف، والظاهر: حمله على الحقيقة؛ إذ لا صارف عنه، وتعليلهم بأن العرش أعظم من أن يكون فوقه شيء ذهول عن قوله: «في كتابه فهو عنده». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (6/ 161).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فوق العرش» قيل: معناه: دون العرش، وهو كقوله تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة:26، والحامل على هذا التأويل: استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأن العرش خَلْقٌ من خلق الله. فتح الباري (6/ 291).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
العرش سقف المخلوقات، ولا مانع من وجود شيء فوقه. الحلل الإبريزية (4/488).
وسُئل الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش» هل نفهم منه: أن الكتاب أعلى المخلوقات أم ماذا نفهم منه؟
فأجاب: ثبت في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي»، وفي لفظ: «تغلب غضبي»، هذا الحديث مستثنى من الحديث العام: «أن العرش هو سقف المخلوقات»، والقاعدة عند أهل العلم: أن الخاصَّ إذا تعارض مع العام فيحمل العام على الخاصِّ، فهذا الحديث يخصص به عموم أن «العرش سقف المخلوقات». فتاوى منوعة (2/24).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويحتمل: أن يكون المراد بقوله: «فهو عنده» أي: ذِكْرُهُ أو عِلْمُهُ فلا تكون العِنْدِيَّةُ مكانية؛ بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيًّا عن الخلق مرفوعًا عن حَيِّزِ إدراكهم. فتح الباري (6/ 291).
وقال الشيخ عبد الله الدويش -رحمه الله- معلقًا على كلام ابن حجر:
هذا خلاف ظاهر الحديث، والصواب: إجراؤه على ظاهره؛ كما هو قول أهل السنة والجماعة، وهذا مما استدلوا به على إثبات علو الله على خلقه. التعليق على فتح الباري (ص: 17).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله- متعقبًا:
ولا موجب لتأويله (أي: أن يكون الكتاب فوق العرش) بصرفه عن ظاهره كما صنع ذلك الخطابي عندما قال: المراد بالكتاب: أحد الشيئين ... إلخ، فنفى على كل من التقديرين أن يكون فوق العرش كتاب، إذْ تأوَّلَ الكتاب بعلم الله تعالى بما كتب على نفسه، أو أن الذي عنده ذكر الكتاب وعلمه.
والحامل له على هذا التأويل: إما اعتقاد أن الله ليس بذاته فوق العرش، فلا يكون شيء من المخلوقات عنده فوق العرش، وإما اعتقاد امتناع أن يكون شيء غير الله فوق العرش.
والأول باطل بأدلة العلو والاستواء، والثاني لا دليل عليه.
بل هذا الحديث بمجموع ألفاظه يدل على بطلانه؛ فقد دلّ الحديث على أن هذا الكتاب عند الله فوق العرش، والله تعالى أعلم بنفسه، والرسول الذي أخبر بذلك أعلم بربه، فليس لأحد أن يعارض خبره -صلى الله عليه وسلم-. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (13/413).
وقال ابن حيان -رحمه الله-:
«فوق العرش» من ألفاظ الأضداد التي تستعمل العرب في لغتها، يريد به: تحت العرش لا فوقه، كقوله -جلا وعلا-: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الكهف: 79 يريد به: أمامهم، إذ لو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ونظير هذا قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البقرة:26 أراد به: فما دونها. صحيح ابن حبان (14/13).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا:
تفسير «فوق» في هذا الحديث بـ(دون) غير صحيح، وكذا تفسير ابن حبان في صحيحه له بـ(تحت)... غير صحيح أيضًا، فالأسلم: ما ذهب إليه السلف، فإنهم يثبتون ما صح في الحديث على ظاهره، على مراد الله تعالى دون تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى:11، فاسلك سبيلهم تسلم، وتغنم. البحر المحيط الثجاج (42/612).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فوق العرش» تنبيه على تعظيم الأمر، وجلالة القَدر، فإن اللوح المحفوظ تحت العرش، والكتاب المشتمل على هذا الحكم فوق العرش، ولعل السبب في ذلك -والعلم عن الله تعالى-: أن ما تحت العرش عالم الأسباب والمسببات، واللوح يشتمل على تفاصيل ذلك، وقضية هذا العالم وهو عالم العدل، وإليه أشار بقوله: «وبالعدل قامت السماوات والأرض» إثابة المطيع، وعقاب العاصي، حسب ما يقتضيه العمل، من خير أو شرٍّ؛ وذلك يستدعي غلبة الغضب على الرحمة؛ لكثرة موجبه ومقتضيه، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} فاطر: 45، فتكون سعة الرحمة وشمولها على البرية، وقبول إنابة التائب والعفو عن المشتغل بذنبه المنهمك به، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} الرعد: 6، أمرًا خارجًا عنه، مترقيًّا منه إلى عالم الفضل الذي هو فوق العرش. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1860).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى قوله: «فهو عنده فوق العرش» أي: فذكره عنده فوق العرش، وتضمن فيه الذكر أو العلم، وكل ذلك جائز في الكلام، سهل في التخريج على أن العرش خلق الله -عزَّ وجلَّ- مخلوق، ولا يستحيل أن يمسَّه كتاب مخلوق، فإن الملائكة الذين هم حملة العرش، قد روي أن العرش على كواهلهم، وليس يستحيل أن يماسُّوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش، وحامل حملته في الحقيقة هو الله -جلّ وعز- وليس معنى قول المسلمين: إن الله على العرش: هو أنه تعالى مماس له أو متمكن فيه، أو متحيِّز في جهة من جهاته، لكنه بائن من جميع خلقه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به، ونفينا عنه التكييف إذ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى:11. أعلام الحديث (2/ 1473-1474).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- متعقبًا للخطابي:
قلتُ: هي خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف؛ إذ ليس كمثله شيء؛ فالأولى بل الْمُتَعَيِّن إمراره على ظاهره كما جاء من غير تصرُّف فيه. مرعاة المفاتيح (8/76).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
مضمون كلام الخطابي المذكور: أنه ينفي أن يكون فوق العرش كتاب؛ حيث تأول الكتاب بعلم الله تعالى، وهذا غير صحيح، بل الحق أن الله تعالى كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش. البحر المحيط الثجاج (42/613).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال ابن أبي جمرة: يؤخذ من كون الكتاب المذكور فوق العرش أن الحكمة اقتضت أن يكون العرش حاملًا لما شاء الله من أثر حكمة الله وقدرته، وغامض غيبه؛ ليستأثر هو بذلك من طريق العلم والإحاطة، فيكون من أكبر الأدلة على انفراده بعلم الغيب.
قال: وقد يكون ذلك تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5، أي: ما شاءه من قدرته، وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش. فتح الباري (13/413).
وقال الشيخ البراك -حفظه الله- متعقبًا:
وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطابي؛ فإنه يثبت أن فوق العرش كتابًا، وهو مما اقتضته حكمته وقدرته، ولكن من المنكر في كلامه قوله: وقد يكون تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5... إلخ، فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى الله -عزَّ وجلَّ- مجاز، وأن المراد به: كون ذلك الكتاب فوق العرش، فيؤول معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5 إلى معنى: كتابه على العرش استوى، وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه تحريف للكلم عن مواضعه. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (13/413).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا:
أول كلام ابن أبي جمرة حق، فقد أثبت الكتاب المذكور، وأنه فوق عرشه، ثم أفسده بما ذكره في آخر كلامه، حيث فسر قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5 بأن المراد: هو الكتاب المذكور، وهذا نفي لنصٍّ صريح بأنه تعالى قد استوى على عرشه استواء ظاهرًا كما يليق بجلاله، بأن المراد: استواء هذا الكتاب، وهذا تأويل باطل بلا شك، وقد تعقبه الشيخ البراك، فأجاد، وأفاد. البحر المحيط الثجاج (42/614).
قوله: «إِنَّ رحمتي غلبتْ غَضَبِي»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أن رحمتي» بفتح (أن) على أنها بدل من «كتب»، وبكسرها: ابتداء كلام يحمل مضمون الكتاب. عمدة القاري (15/ 111).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «غلبت» في رواية شعيب عن أبي الزناد في التوحيد: «سبقت» بدل: «غلبت»، والمراد من الغضب: لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب؛ لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق، أي: تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن؛ كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة، وغيرها.
وقيل: معنى الغلبة: الكثرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم، أي: أكثر أفعاله، وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات. فتح الباري (6/ 292).
وقال الشيخ عبد الله الدويش -رحمه الله-:
قال -يعني: ابن حجر- في (ص 6/292)، على قوله: «إن رحمتي غلبت غضبي»: والمراد من الغضب: لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب.
والصواب: إثبات هذه الصفة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا قول أهل السنة والجماعة؛ خلافًا لأهل البدع. التعليق على فتح الباري (ص: 17).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الغضب من صفات الله الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
قال الله تعالى -فيمن قتل مؤمنا متعمدًا-: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} النساء: 93.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله كتب كتابًا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه.
وأجمع السلف على ثبوت الغضب لله؛ فيجب إثباته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهو غضب حقيقي يليق بالله، وفسَّره أهل التعطيل بالانتقام، ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة (فيما نردُّ به على المُعطلة: المُعطلة هُم الذين ينكرون شيئًا مِن أسماء الله أو صفاته ويحرفون النصوص عن ظاهرها، ويقال لهم المؤولة. والقاعدة العامة فيما نردُّ به عليهم أن نقول: إنَّ قولهم خلاف ظاهر النصوص وخلاف طريقة السلف وليس عليه دليل صحيح ورُبما يكون في بعض الصفات وجه رابع أو أكثر)، وبوجه رابع: أن الله تعالى غاير بين الغضب والانتقام؛ فقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} الزخرف:55، أي: أغضبونا، {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الزخرف: 55، فجعل الانتقام نتيجة للغضب؛ فدل على أنه غيره. تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد (ص: 56).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
دل على ثبوت رحمة الله تعالى: الكتاب والسنة والإجماع والعقل:
فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة، تارة بالاسم، كقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يونس: 107، وتارة بالصفة، كقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} الكهف: 58، وتارة بالفعل، كقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} العنكبوت: 21، وتارة باسم التفضيل، كقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يوسف: 92.
وبمثل هذه الوجوه جاءت السنة، وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله -عز وجل-، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله وكله دال على إثبات الرحمة عقلًا.
فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس؛ حتى العامِّيُّ الذي لم يدرس، لو سألته وقلت: هذا من أي شيء؟ فسيقول: هذا من رحمة الله، ولا يشك أحد في هذا أبدًا.
فرحمة الله -عز وجل- ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي، وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفًا بالرحمة، قالوا: لأن العقل لم يدل عليها.
وثانيًا: لأن الرحمة رقَّة وضعف وتطامُنٌ للمرحوم، وهذا لا يليق بالله -عز وجل-؛ لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة، وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو: الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم.
فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة، التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف:56، أنكروا هذا، قالوا: لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة. ونحن نَرُدُّ عليهم قولهم من وجهين: بالتسليم، والمنع.
التسليم أن نقول: هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء: أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر، فَهَبْ أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة.
أما المنع، فنقول: إن قولكم: إن العقل لا يدل على الرحمة: قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها؟ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا يرحم العباد، ما أعطاهم النعم، ولا دفع عنهم النقم!
وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاصُّ والعامُّ، العامِّي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة. شرح العقيدة الواسطية (1/ 256-258).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الغلبة هُنا والسبق بمعنىً، والمراد بهما: الكَثرة والشّمول، كما يُقال: غلب على فلان حُبّ المال أو الكرم أو الشجاعة: إذا كان أكثر خصاله. إكمال المعلم (8/ 252).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال بعض العلماء: الرحمة والغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خُلِقَ مثلًا، ومقابلها ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرَّت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسع عليهم من الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم، وأما ما أشكل من أمر من يُعَذَّب من الموحدين فالرحمة سابقة في حقهم أيضًا، ولولا وجودها لخلدوا أبدًا. فتح الباري (6/ 292).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وإذا ظهر هذا (يعني: أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه)، فمعنى غَلبة الرحمة أو سبقها على ما جاء في الرواية الأخرى: أنَّ رِفقه بالخلق، وإنعامه عليهم، ولُطفه بهم- أكثر من انتقامه وأخذه، كيف لا، وابتداؤه الخلق وتكميله وإتقانه وترتيبه، وخلق أول نوع الإنسان في الجنة، كل ذلك رحمته السابقة، وكذلك ما رتب على ذلك من النعم والألطاف في الدنيا والآخرة، وكل ذلك رحمات متلاحقات، ولو بدأ بالانتقام لما كمل لهذا العالم نظام، ثم العجب أن الانتقام به كمُلَتِ الرحمة والإنعام؛ وذلك أن بانتقامه من الكافرين كمُلَتْ رحمته على المؤمنين؛ وبذلك حصل صلاحهم وإصلاحهم، وتم لهم دينهم وفلاحهم، وظهر لهم قدر نعمة الله عليهم في صرف ذلك الانتقام عنهم، فقد ظهر أن رحمته سبقت غضبه، وإنعامه غلب انتقامه. المفهم (7/ 82).
وقال العراقي -رحمه الله- مُعلقًا:
قلتُ: ولا بد من حمل ذلك على المؤمنين؛ فإن الكُفَّار أكثر منهم، وليس لهم في الآخرة إلا الغضب المحض؛ فبِاعْتِبَارهم يكون الغضب أغلب من الرّحمة؛ فإذا حملنا ذلك على المؤمنين لم يكن عليه إشكال، وقد يقال: إذا ضُمَّ إلى رحمة الله للمؤمنين رحمته الدنيوية للكفار صارت الرحمة أغلب من الغضب، والأول أظهر، ويدل له أن الحديث إنما سيق للمؤمنين في معرض الرجاء والترغيب فيما عند الله والوعد برحمته، وأيضًا فإنما تقع الْمُقَايسة بين الرحمة والغضب في حق من يحتملها، وهو المؤمن، أما الكافر فلا حظَّ له في دار البقاء الأبدي في الرحمة؛ فلا يدخل في المقايسة؛ لعدم إمكانها في حقه، -والله أعلم-. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 84-85).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«إن رحمتي غلبتْ غضبي» أشار لسَعَةِ الرحمةِ وشمولها الخلقَ، فكأنها الغالبة؛ يقال: غلبَ على فلانٍ الكرمُ؛ أي: هو أكثرُ أفعاله. مصابيح الجامع (7/ 38-39).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله «رحمتي سبقت غضبي» مفعول (كتب)، وقوله: «كتب على نفسه» يدل على أنه ساق هذا الكلام على أنه وعد بأنه سيعامل بالرحمة ما لا يعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرحمة والغضب بأن الأولى دون الثانية؛ لأن صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فعل من آثار الأولى، فيما سبق أكثر مما فعل من آثار الثانية، ولا يشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجنة والبقية (إلى) النار؛ إما لأنه يُعَامَلُ بمقتضى الرحمة ولا يعامل بمقتضى الغضب، كما قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} الأنعام: 160، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} البقرة: 261 الآية، وقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} الزمر: 10 الآية، وإما لأن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، فإن الملائكة كلهم مظاهر الرحمة، وهم أكثر خلق الله، وكذا ما خلق الله في الجنة من الحور والولدان وغير ذلك. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/82).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا:
هكذا قرر السندي، لكن ما المانع من كون الأولى دون الثانية، كما دل عليه ظاهر السياق، فتبصَّر، -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (42/616).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «إن رحمتي سبقت غضبي»؛ وذلك لأن آثار رحمة الله وجوده وإنعامه عمَّت المخلوقات كلها، وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب فإنه ظاهر في بعض بني آدم ببعض الوجوه، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} النحل: 18، وقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الأعراف: 156، وأيضًا تهاون العباد وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يُعَدَّ ويُحْصَى، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} النحل: 61، فمن رحمته أن يبقيهم ويرزقهم وينعمهم بالظاهر ولا يؤاخذهم، هذا في الدنيا، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفَّل ببيانه الحديث الآتي (يعني حديث: «إن لله مائة رحمة»)، فإذًا لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه. لمعات التنقيح (5/174-175).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
«إن رحمتي غلبت غضبي»، وفي لفظ: «سبقت غضبي»، وتمسَّك به الشيخُ الأكبرُ (ابن عربي الصوفي) على أن عذاب الجحيم لا يَدُومُ لأحدٍ؛ لأن الحديث يُخْبِرُ أن الرحمة والغضب تسابقا، فسبقت رحمته غضبه، فإذا سبقت لزم أن لا يبقى أحد تحت غضبه تعالى، ويدخل كلهم في رحمته تعالى، ويخلص من عذاب الله -عزَّ وجلَّ-، ولو آخرًا؛ وذلك لأن النار تكون طبيعة لهم، فيعيشون فيها غير معذبين؛ لكونهم ناريي الطبع، كمائي المولد، يسكن في الماء، ولا يكون عليه ضيق، وغيره لو سكن فيه مات من ساعته.
قلتُ: ومذهب الجمهور: أن جهنم عذاب سرمدي لمن فيها، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} النساء:56، وأما السبقيَّة، فهي عندي في جانب المبدأ دون المنتهى، ومعناه: أن الرحمة والغضب تسابقا عند ربك، فسبقت الرحمة قبل سبق الغضب، فتقدمت عليه من هذا الجانب؛ وذلك لأن الغضب يحل بالمعاصي، والرحمة منشؤها الجود، فتأتي من غير سبب ولا استحقاق بخلاف الغضب، فإنه ينتظر اقتراف السيئات، واقتحام الموبقات، والرغبة عن التوبة، ثم التمادي في الغي، فلا يأتي حين يأتي إلا على مهل، فتقدمها يظهر في جانب المبدأ.
وأخذه الشيخ الأكبر في الجهة الأخرى، فاضطر إلى مخالفة الجمهور، ثم إن تلك القاعدة فوق القواعد كلها، فهي كاختيارات الملك؛ ولهذا وضعها على العرش، على نحو ما قالوا في استواء الحضرة الرحمانية على العرش، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5، قالوا: إنه فوق العوالم كلها، فدخلت كلها تحت الرحمة، ولو استوى القهار على العرش -والعياذ بالله من قهره وجلاله- لدخلت كلها تحت القهر، فلم تمش على ظهر الأرض دابة. فيض الباري على صحيح البخاري (4/ 300-301).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
فجوده وكرامته أن رحمته أوسع، فينبغي الاستفادة من ذلك: أن يسلك أسباب الرحمة حتى تدركه الرحمة. الحلل الإبريزية (3/ 42).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في سجوده: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك». مجموع الفتاوى (17/ 91).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وفي سبق الرحمة بيان أنَّ قسط الخلق منها أكبر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأنَّ الغضب لا ينالهم إلا بالاستحقاق، ألا ترى أنها تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن تصدر منه طاعة استوجب بها ذلك، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود: 118، 119. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3601).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
في هذا الحديث: تَقَدُّم خلق العرش على القلم الذي كتب المقادير وهو مذهب الجمهور، ويؤيده قول أهل اليمن في الحديث السابق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جئنا نسألك عن هذا الأمر؛ فقال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء».
وقد روى الطبراني في صفة اللوح من حديث ابن عباس مرفوعًا: «إن الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّة بيضاء؛ صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابته نور، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل ما شاء». إرشاد الساري (5/251-252).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-:
هذا الحديث: من أدلة أهل السنة على علو الله فوق خلقه، واستوائه على عرشه، وهو يدل كذلك على أن الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه عنده فوق العرش، وهذه العِنْدِيَّة عِنْدِيَّة مكان؛ لقوله: «فوق العرش»، وهذا الكتاب يحتمل: أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أُمّ الكتاب -وهو كتاب المقادير-، ويحتمل: أنه غيره فهو كتاب خاص، -والله أعلم-.
وعلى كلٍّ: فلا يمتنع أن يكون الكتاب المذكور عند الله تعالى فوق العرش؛ كما هو ظاهر الحديث. تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (13/413).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
منها: بيان سعة رحمة الله تعالى، وهو كقوله -عز وجل-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية الأعراف: 156.
ومنها: بيان إثبات صفة الكتابة، واليد، والرحمة، والغضب، على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، ولا التفات إلى من فسر الغضب باللازم، فقال: هو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، كما مشى عليه في الفتح وغيره؛ لأن ذلك من التأويلات التي مشى عليها المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، وهو مخالف لهدي السلف، فإن مذهبهم التمسك بظواهر الكتاب والسنة، فصفة الغضب ثابتة لله تعالى كسائر صفاته، من المحبة، والرضا، والضحك، وغير ذلك على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، فعليك بمذهب السلف تسلم، وتغنم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
ومنها: بيان إثبات كتابة الأمور في الأزل، وأن الله -سبحانه وتعالى- علم الأشياء وكتبها قبل أن يخلقها، فهي تكون على مقتضى ذلك، دون زيادة أو نقص. البحر المحيط الثجاج (42/617).