عن أبي موسى -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بَعَثَهُ إلى اليمنِ، فسأَلَهُ عن أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بها، فقال: «وما هي؟» قال: البِتْعُ والمِزْرُ، فقلتُ لأبي بُرْدَةَ: ما البِتْعُ؟ قال: نَبِيذُ العَسَلِ، والمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، فقال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
رواه البخاري برقم: (4343) واللفظ له، ومسلم برقم: (1733).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«البِتْعُ»:
بكسر الموحدة وسُكون المثناة وقد تُفْتَح وهي لغة يمانية، وهو نبيذُ العسل، كان أَهل اليمن يشربونه. فتح الباري (10/42) و(1/ 84).
«الـمِزْر»:
بكسر الميم، وسكون الزاي، وبالراء. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (11/369).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
هو شراب الذُّرَة والشعير، ويُصنع من القمح أيضًا. فتح الباري (1/ 188).
«نَبِيْذُ»:
النَّبِيْذُ: وهو ما يُعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل، والحِنطة والشعير وغير ذلك. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (5/7).
شرح الحديث
قوله: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى اليمن، فسأله عن أَشْرِبَةٍ تُصنع بها»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فسأله» أي: سأل أبو موسى النبي -صلى الله عليه وسلم- «عن أشربة تُصنع بها» أي: باليمن. إرشاد الساري (6/419).
قوله: «فقال: وما هي؟ قال: البِتْعُ والـمِزْر، فقلتُ لأبي بُردة: ما البِتْعُ؟ قال: نبيذ العسل، والْمِزْرُ نبيذ الشعير»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فقال» -عليه الصلاة والسلام- له: «وما هي؟ قال: البِتْعُ». إرشاد الساري (6/419).
وقال الشيخ عبد الرحمن الدهش -حفظه الله-:
فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أشربة تصنع بها، يعني: تصنع باليمن، لم تكن معروفة عندهم في المدينة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سأل، قال: «وما هي؟» وهذا هو شأن المفتي؛ أنه إذا سُئل عن شيء لم يتبينه أن يستفسر ويستوضح أكثر. شرح الأربعين النووية (ص: 174).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قال سعيد: «فقلتُ لأبي بُردة: ما البَتع؟ قال:» هو «نبيذ العسل» بالذال المعجمة، «والمزر: نبيذ الشعير». إرشاد الساري (6/ 419).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
من الأشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعري إليه: البِتْعُ، وهو نبيذ العسل، والْمِزْرُ: وهو نبيذ الشعير، وقد سأل أبو موسى -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذين الشَّرَابَيْنِ، فأجابه بجواب جامع يشملهما، ويشمل غيرهما. فتح القوي المتين في شرح الأربعين (ص: 146).
قوله: «فقال: كُل مسكر حرام»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«فقال» -صلى الله عليه وسلم- في جواب السائل «كلُّ شرابٍ أسكرَ» وفي لفظٍ لمسلم: «كُل شرابٍ مُسكرٍ فهو حرام». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (7/ 69).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«فقال» -صلى الله عليه وسلم-: «كُل شراب أُسكر فهو حرام» عمومه شامل لما اتُّخذ من عصير العنب ومن غيره. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/ 208).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا الحديث أصل في تحريم تناوُل جميع المسكرات، المُغَطِّية للعقل، وقد ذكر الله في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أول ما حُرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لَمَّا صلى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته فخلط في قراءته، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء: 43، فكان منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي: لا يقرب الصلاة سكران، ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} المائدة: 90-91. جامع العلوم والحكم (3/ 1224).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كُل مُسْكِرٍ حرام» سواء أكان مِن عِنَبٍ أو زبيب أو غيرهما. التنوير شرح الجامع الصغير (8/197).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وهذا هو مذهبُ الجمهور: أن كلَّ مسكرٍ مائعٍ حرامٌ، قليلُه وكثيرُه سواء، خمرًا كان أو غيره، إلَّا أن أبا حنيفة وأبا يوسف ذهبا إلى حرمة الخمر مطلقًا، وفصَّلُوا في أشربة الحبوب، ولم أَجِدْ في هذه المسألة جوابًا شافيًا. فيض الباري على صحيح البخاري (5/ 127).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو مما اجتمع على القول به أهل المدينة كلهم.
وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إن الخمر إنما هو خمرُ العنبِ خاصة، وما عداها فإنما يحرم منه القَدْرُ الذي يُسْكِرُ، ولا يحرم ما دونه، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورًا لهم، وفيهم خَلْقٌ من أئمة العلم والدِّين. جامع العلوم والحكم (3/ 1227).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه وما قبله حُجَّة على أبي حنيفة في تجويزه ما لا يبلغ بشاربه السُّكْر مما عدا الخمر، وبيَّن في حديث جابر -رضي الله عنه-: «ما أسْكَرَ كثيره فقليله حرام»، وهو إجماع الصحابة كما نقله القاضي عبد الوهاب. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (21/509).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قوله: «فقال» أي: رسول الله «كل مُسْكِرٍ حرام»، وقال صاحب التوضيح: فيه رد على أبي حنيفة ومَن وافقه، قلتُ: هذا كلام ساقط سَمِجٌ، ففي أي موضع قال أبو حنيفة: إن المُسْكِرَ ليس بحرام، حتى يشنَّع هذا التشنيع الباطل؟. عمدة القاري (35/ 265).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
لا حجة عليه (يعني: أبا حنيفة) فيه؛ لأن أبا بردة قال عقيب تفسير البتع والمزر: «كل مُسْكِرٍ حرام»، يعني: إذا أسكر، ولا يخالف فيه أحد. عمدة القاري (18/3).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستُدل بمطلق قوله: «كل مُسْكِرٍ حرام» على تحريم ما يُسْكِر ولو لم يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مُسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدِّرة، وهو مكابرة؛ لأنها تُحدِث بالمشاهدة ما يُحْدِثُ الخمر من الطَّرَبِ والنشأة(كذا في الأصل ولعل الصواب: النشوة) والمداومة عليها، والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليمِ أنها ليست بِمُسْكِرَةٍ فقد ثبت في أبي داود النهي عن كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفَتِّرٍ. فتح الباري (10/45).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى الشَّراب الذي هو جِنس المشروب وجعله حرامًا، فدخل فيه قليله وكثيره، بأي اسم سُمي، وبأية صفة حُدَّ، وهو معنى قول عمر: "والخَمْر ما خامر العقل".
وفيه: إبطال قول من زعم أن الإشارة بالْمُسْكِرِ في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أَسْكَرَ كثيره فقليله حرام» إنما وقعت إلى الشَّربة الآخرة، أو إلى الجُزء الذي يظهر السُّكْر على شاربه عند شربه.
قُلتُ: ومعلوم من طريق العادة والمعقول أنَّ الإسكار لا يختص بجزء من الشَّراب دون جزء، وإنما تُوجد أجزاء السُّكر في أجزاء المشروب على سبيل التعاون، كالشبع بالمأكول والريّ بالماء المشروب، وكل أمر يؤدِّي إلى نقضِ المعارف فهو منقوض، وليس في المعارف أن يكون فعل الجُزء من الشيء أَكثر مِن فعل كُلِّه، وهذا مُحالٌ وليس يخلو الشَّراب الذي يسكر كثيره إذا كان في الإناء من أن يكون حلالًا أو حرامًا، فإن كان حرامًا لم يجز أن يشرب منه قليلٌ وإن كان حلالًا لم يجز أن يحرم منه شيءٌ. أعلام الحديث (3/2090).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
أهل الحجاز يرون أن المراد بالشراب الجنس لا العين، والكوفيون يحملونه على القَدْرِ الْمُسْكِرِ، وعلى قول الأوَّلِين: يكون المراد بقوله: «أَسْكَرَ» أنه مُسْكِرٌ بالقوة، أي: فيه صلاحية ذلك. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (2/293).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي الحديث: أن المفتي يجيب السائل بزيادة عمَّا سأل عنه إذا كان ذلك مما يحتاج إليه السائل.
وفيه: تحريم كل مُسْكِرٍ سواء كان متخَذًا من عصير العنب أو من غيره. فتح الباري (10/42-43).
وقال الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-:
يستفاد منه:
فضيلة أبي موسى الأشعري؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُوَلِّه الإمارة إلا لكونه عاملًا فطنًا حاذقًا؛ ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي، خلافًا للخوارج والروافض فإنهم طعنوا فيه.
تحريم تناول جميع أنواع المسكرات سواء كانت من عصير العنب أو غيره، وقد تواترت بذلك الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية (99).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-:
وفيه من الفوائد:
- فيه شاهد لما خُصَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من جوامع الكَلِمِ.
- حُسن تعليمه -صلى الله عليه وسلم- في جوابه للسائل بذكر القاعدة الجامعة التي تشمل المسؤول عنه وغيره...
تحريم البِتْعَ والْمِزْرَ إذا كانا يُسْكِرَان.
- تحريم قليل المسْكِر وكثيره، وأن ما أَسْكَرَ كثيره فقليله حرام، ويشهد لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم- : «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» أي: كله...
- أن من مقاصد الشريعة الضرورية حفظ العقل...
- الرد على من زعم أن اسم الخمر مختص بالْمُسْكِرِ من عصير العنب.
- أنَّ مناط التحريم هو الإسكار، وهو علة مطَّرِدَة، أي: كلما وُجِدَ الإسكار ثبت التحريم. الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية (78).