صَعِدَ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- المِنْبَرَ فنادى بصوتٍ رفيعٍ، فقال: «يا مَعْشَرَ مَن أسلم بلسانِهِ ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبِهِ، لا تُؤْذُوا المسلمينَ ولا تُعَيِّرُوهُمْ ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فإنه مَن تَتَبَّعَ عورةَ أخيه المسلمِ تَتَبَّعَ اللَّه عورَتَهُ، ومَن تَتَبَّعَ اللَّه عورته يَفْضَحْهُ ولو في جَوْفِ رَحْلِهِ»، قال: ونَظَرَ ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: «ما أَعْظَمَكِ! وأعظم حُرْمَتَكِ! والمؤْمِنُ أعظَمُ حُرْمَةً عند الله منكِ».
رواه الترمذي برقم: (2032)، وابن حبان برقم: (5763)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وفي رواية لأحمد برقم: (19776)، وأبي داود برقم: (4880)، من حديث أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- : «لا تغتابوا المسلمين...».
صحيح الجامع برقم: (7985)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2339).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رفيع»:
«رفيع» أي: عالٍ. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/3157).
«يا مَعْشَرَ»:
المعْشَرُ: كُلُّ جماعةٍ أمْرُهم واحِدٌ، فهي مَعْشَر.
والمعْشَرُ: الجماعةُ العظيمةُ، سُمِّيت به لبلوغها غاية الكَثْرَة، فإنَّ العَشْر هو العدد الكامِل الكثير الذي لا عدد بعده إلَّا بتركيبه بما فِيه من الآحَاد، فالمعْشَر مَحَل الْعَشْر الذي هو الكَثْرَة الكاملة. الكليات، الكفوي (ص: 686 ، 803).
والمعْشَر: مَفْعَل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة. معجز أحمد، المعري (ص: 119).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
وقَيَّدَه بعضُهُم بأنَّه الجماعَةُ العظيمةُ...، وقِيل: المَعْشَرُ: أهلُ الرَّجُلِ. تاج العروس (13/ 53).
«لم يُفْضِ»:
أي: لم يَصِلْ. شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 329).
يقال: أفْضَى يُفْضِي: إذا وَصَلَ إلى الشيء، قال الله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} النساء: 21. شرح ديوان المتنبي، للعكبري (1/ 192).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
(ف ض و)... أصلُهُ: الوصول للشَّيْء، أفْضى إلى كذا، وصل إليه، ومنه: «أفضوا إلى مَا قَدَّمُوا» أي: وصلوا إليه من خير أو شَرٍّ، وقوله: «أنْ يُفْضِي الرَّجُل إلى الرَّجُل دون ثوب» أي: يباشره، ويصل جِسْمه إلى جِسْمه، وقوله: «يُفْضِي بفَرْجِه إلى السَّمَاء» أي: يكشفه ويصله بجهتها دون سَاتِر لَهُ. مشارق الأنوار (2/ 161).
«تُعَيِّروهم»:
أي: لا تعيبوهم. شرح المصابيح، لابن الملك (5/329).
«جَوْف رَحْلِه»:
أي: ولو كان مخفيًّا في وسط منزله عن الناس. شرح المصابيح، لابن الملك (5/329).
شرح الحديث
قوله: «صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«صَعِد» بكسر العين، أي: طلع. مرقاة المفاتيح (8/3157).
قوله: «فنادى بصوت رفيع»:
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فنادى بصوت رفيع» أي: عالٍ. تحفة الأحوذي (6/152).
قوله: «فقال: يا معشر من أَسلم بلسانه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال» بيانٌ لقوله: «فنادى». مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «يا معشر من أَسلم بلسانه» «مَن» يستوي فيه الجمع والمفرد، والمراد هنا الجمع، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ، والإضافة بيانية، كما في يا معشر العرب، ويا معشر قريش ونحوه، فإن كان الكلام مع بعض المسلمين كما يدل عليه سياق الحديث من قوله: «مَن يَتَّبِع عورة أخيه» ففيه تَوْبِيْخ بأن ذلك من علامات النفاق وأفعال المنافقين. لمعات التنقيح (8/300).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يا معشر من أسلم بلسانه» يشترك فيه المؤمن والمنافق. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «من أسلم بلسانه» هو من قوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} الحجرات:14. الكاشف عن حقائق السنن (10/3216).
قوله: «ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولم يُفْضِ» من الإفضاء، أي: لم يَصِلْ «الإيمان» أي: أصله وكماله «إلى قلبه» فيشمل الفاسق، وهو الأظهر لما سيأتي من قوله: «تَتَبَّع عورة أخيه المسلم». مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ولم يُفْض الإيمان إلى قلبه» من قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات:14. الكاشف عن حقائق السنن (10/3216).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولم يُفْض» لم يصل، «الإيمان إلى قلبه» هذه صفات المنافقين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
قوله: «لا تؤذوا المسلمين»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا تؤذوا المسلمين» أي: الكاملين في الإسلام، وهم الذين أسلموا بلسانهم وآمنوا بقلوبهم. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا تؤذوا المسلمين» مأخوذ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الأحزاب:58. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لا تؤذوا المسلمين» صريح في أن الإسلام عبارة عن مجموع التصديق والأعمال الصالحة، كأنه قيل: يا من أفرد الإسلام ولم يَضُمَّ إليه التصديق، لا تُؤْذِ مَن جَمَعَ بينهما.
والمعنى: لا تؤذوهم فيما ظهر من المسلمين مما ترونه عيبًا عليهم بالقول والفعل، فلا تغتابوهم، ولا تشتموهم، ولا تضربوهم، ولا تُعَيِّروهم على ما تابوا عنه وندموا عليه. الكاشف عن حقائق السنن (10/3216).
قوله: «ولا تُعَيِّروهم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا تعيروهم» مِن عطف الخاص على العام، فإن التَّعيير من الأذية، ومثله: «ولا تَتَبَّعُوا عوراتهم». التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تعيروهم» من التعيير، وهو التوبيخ والتعييب على ذنب سبق لهم من قديم العهد، سواء على توبتهم منه أم لا.
وأما التعيير في حال المباشرة أو بُعَيِدَهُ قبل ظهور التوبة فواجب لمن قدر عليه، وربما يجب الحد أو التعزير، فهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مرقاة المفاتيح (8/3157).
قوله: «ولا تَتَبَّعُوا عوراتهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تتبعوا» من باب الافتعال أي: لا تجسسوا «عوراتهم» فيما تجهلونها، ولا تكشفوها فما تعرفونها. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا تتبعوا عوراتهم» جمع عورة، وهي كل ما يستحيا منه إذا ظهر، أي: لا تبحثوا عنها وتكشفوها. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ولا تتبعوا عوراتهم» فيما يُظَن، أي: لا تجسسوا ما ستروا عنكم من الأفعال والأقوال، وما ستر الله عليهم. الكاشف عن حقائق السنن (10/3216).
قوله: «فإنه من تَتَبَّع عورة أخيه المسلم تَتَبَّع الله عورته»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فإنه» أي: الشأن «مَن تَتَبَّعَ» بصيغة الماضي المعلوم من باب التَّفعل أي: مَن طَلَبَ، وفي بعض النُّسخ «يتَّبع» بصيغة المضارع المعلوم من باب الافتِعَال. تحفة الأحوذي (6/153).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنه» أي: الشأن «من يتَّبع» بتشديد التاء مجزومًا، وقيل: مرفوعًا، وفي بعض النُّسخ المقروءة على المشايخ ضُبِطَ بصيغة الماضي المعلوم من باب التَّفعل هنا، وفيما بَعْد من الموضعين أي: من يطلب «عورة أخيه» أي: ظهور عيب أخيه «المسلم» أي: الكامل بخلاف الفاسق، فإنه يجب الحذر والتحذير منه. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنه من تَتَبَّعَ عورة أخيه المسلم» ليكشفها للناس أو لِيَعْلَمَهَا. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما النُّكْتَة في ذكر «أخيه» في قوله: «عورة أخيه المسلم» فإن الكلام مع المنافقين، وهم ليسوا بإخوة المسلمين؟
قلتُ: «ومن تَتَبَّعَ...» إلى آخره، كالتَّتْمِيم للكلام السابق والمبالغة فيه، كأنه قيل: ومن يتبع من المسلمين عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ولو في جوف رَحْلِه، فكيف بالمنافق؟ الكاشف عن حقائق السنن (10/3217).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
لا أُخُوة بين المنافق والمسلم، فما اختاره الطيبي من حصر حكم الحديث على المنافق خلاف الظاهر الموافق، والحكم بالأعم هو الوجه الأتم. مرقاة المفاتيح (8/3157).
قوله: «تَتَبَّع الله عورته»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«تَتَبَّعَ الله عورته» أي: عاقَبَهُ بإظهار عورته للناس التي يجب كَتْمُهَا، عقوبة من جنس فعله. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يتبع الله عورته»... أي: يكشف عيوبه، ومِن أقبحها مِن تتبع عورة الأخ المسلم وهذا في الآخرة. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
المراد بقوله: «يَتَّبع الله عورته»: كَشْفُ سِتْرِه، ذَكَرَه على سبيل المشاكلة. الكاشف عن حقائق السنن (10/3216).
قوله: «ومَن تَتَبَّع الله عورته يَفْضَحه ولو في جَوْف رَحْلِه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومن تَتَبَّع الله عورته يفضحه» مِن فَضَحَ كمَنَعَ، أي: يكشف مساوئه. مرقاة المفاتيح (8/3157).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ومن تتبَّع الله عورته يفضحه» ولو فعل ما لا يجب أن يظهر ويكشف من عوراته. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 655).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولو في جوف رحله» أي: لو كان في وسط منزله مخفيًّا من الناس، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} النور: 19. مرقاة المفاتيح (8/3157).
قوله: «قال: ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة، فقال: ما أعظَمك! وأَعْظَمَ حُرْمَتَك! والمؤمن أعظم حُرمة عند الله منك»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«ما أعظمك! وأعظم حرمتك!» هما صيغتا التعجب، والحُرْمَة بالضم وبضمتين وكَهَمْزِة ما لا يحل انتهاكه... «والمؤمن» أي: الكامل. تحفة الأحوذي (6/153).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ما أعظمكِ!» أي: أَعْظَمَ قَدْرَكِ حيث كنتِ مَعْبَدًا للناس، «و» ما «أعظم حرمتكِ!» حيث يُطافُ بكِ ليلًا ونهارًا، أو بعدم مرور الطير عليك...
«المؤمن أعظم» وأرفع «عند الله حرمةً» وقدرًا «منكِ» أي: من حرمتك وقدرك. مرشد ذوي الحجا والحاجة (23/278).
وقال السندي -رحمه الله-:
«المؤمن أَعظم عند الله حُرمة منكِ» أي: مِن حُرمتكِ؛ فإن حرمة البيت إنما هي للمؤمنين قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} آل عمران: 96 إلى قوله: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} آل عمران: 96. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 460).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما مَن فُتِنَ -والعياذ بالله- وصار يتَتَبَّع عورات الناس، ويبحث عنها، وإذا رأى شيئًا يحتمل الشرَّ ولو من وجه بعيد طَارَ به فرحًا ونَشَرَهُ فليبشر بأنَّ مَن تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته، ومن تَتَبَّع الله عورته فضَحَهُ ولو في جُحْرِ بيته. الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 301).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
تتبُّع عورات المسلمين محرَّم، حتى إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يُذكر عنه حذَّر من ذلك أشد التَّحذير فقال: «يا مَعشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّ من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جُحْرِ بيته».
والواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عوراته، فإنَّ مَن سَتَرَ عورة أخيه ستر الله عورته، وأن يَعْلَمَ أنه لا يخلو أحد من نقص، ولا يخلو أحد من تقصير، ولا يخلو أحد من عورة، فالواجب ستر العورات، ثم نصيحة من وُجِدت منه هذه العورة، فإنَّ الدين النصيحة، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم». فتاوى نور على الدرب (24/2).
وقال -رحمه الله- أيضًا:
أما مَن فُتن -والعياذ بالله- وصار يتتبع عَورات الناس، ويبحث عنها، وإِذا رأى شيئًا يحتمل الشَرِّ ولو من وجه بعيدٍ طار به فرحًا ونشرهُ، فليبشر بأَن مِن تتبع عورة أَخيه تتبع الله عَورته، ومَن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر بيته.الشرح الممتع(5/٣٠١)