«ثلاثةٌ لا يُقْبَلُ منهم يومَ القيامةِ صَرْفٌ، ولا عَدْلٌ: عَاقٌّ، ومَنَّانٌ، ومُكَذِّبٌ بِقَدْرٍ».
رواه الطبراني في الكبير برقم: (7547)، والبيهقي في القضاء والقَدر برقم: (432)، وابن أبي عاصم في السنة برقم: (323)، والروياني في مسنده برقم: (1191)، وزاد : «وَمُدْمِنُ خَمْرٍ»، من حديث أبي أُمَامَة الباهلي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3065)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1785).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«صَرْفٌ ولا عَدْلٌ»:
قال الحسن: الصَّرْفُ: التَطَوُّعُ، والعَدْل: الفريضةُ. العين، للفراهيدي(7/ 110).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
الصّرْف: التَّوْبَة، وَالْعدْل: الْفِدْيَة. غريب الحديث (3/ 167).
«عَاقٌ»:
أي: الذي يعصي والديه. شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 286).
وقال الأثير -رحمه الله-:
يُقال: عقَّ والده يَعقُّه عُقُوقًا فهو عاقٌّ إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وهو ضد البِرِّ به. النهاية في غريب الحديث(3/277).
«مَنَّان»:
أي: الذي يَمُنُّ على الناس بما يعطيهم. شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 286).
يُقال: مننتُ عليه منًّا... عَدَّدتُ له ما فعلتُ له من الصنائع، مثل أن تقول: أعطيتك وفعلتُ لك، وهو تكدير وتغيير تنكسر منه القلوب. المصباح المنير، للفيومي (2/ 581).
«ومُدْمِن»:
أي: الذي يداوم على شُرب الخمر. شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 286).
شرح الحديث
قوله: «ثلاثة لا يُقبل منهم يوم القيامة صَرْفٌ ولا عَدْلٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لا يقبل الله منهم يوم القيامة» المراد به نفي كمال القبول، «صرفًا» توبة أو نافلة أو وجهًا يَصْرِف فيه عن نفسه العذاب. فيض القدير (3/ 328).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا عدلًا» أي: فريضة، وقيل: فِدية، يعني: لا يقبل الله قبولًا يكفِّر به عنه هذه الخطيئة، وإن كان قد تُكفِّرها طاعات أُخَر. التنوير شرح الجامع الصغير (5/225).
قوله: «عاق»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«عاق» لوالديه. فيض القدير (3/ 328).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أي: المقصر في أداء الحقوق إليهما. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/70).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
العقوق المحرم: كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا ليس بَالهَيِّن مع كونه ليس من الأفعال الواجبة. فتاوى ابن الصلاح (201).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
والعُقوق: عبارةٌ عن عدم البِر والإحسان للوالدين، وقد صنف العلماء في بر الوالدين؛ كالطرطوشيِّ وغيرِه ما يتعين من ذلك، وما يُندب. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 579)
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
هو (أي: ضابط العقوق) أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا من جملة الصغائر، فينتقل بالنسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر، أو يخالِف أمر والديه أو أحدهما فيما يدخل فيه الخوف على الولد؛ من فوات نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يُتَّهم الوالد في ذلك، أو أن يخالف في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد، أو يخالف في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب. الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/116).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والعقوق: ما يتأذى به من قول أو فعل غير محرم ما لم يتعنت الأصل. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 251).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وعقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما: موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما، وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدَهما بأمر وجبت طاعتهما فيه إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباحات في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوبات، وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيِّره في حق الولد مندوبًا إليه، وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدًا في ندبيَّته، والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى قد قَرَنَ طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا} الإسراء: 23، وقال: {وَوَصَّينَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ حُسنًا} العنكبوت: 8، في غير ما موضع، وكذلك جاءت في السُّنة أحاديث كثيرة تقتضي لزوم طاعتهما فيما أمرا به، فمنها: ما رواه الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأبيتُ، فذكرتُ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عبد الله بن عمر، طلق امرأتك»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، فإنْ قيل: فكيف يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارئ؟
فالجواب: أنه لم يرتفع حكم الله بحكم غيره، بل بحكمه؛ وذلك أنه لما أوجب علينا طاعتهما والإحسان إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما؛ وجب ذلك الامتثال؛ لأنَّه لا يحصل ما أمرنا الله به إلا بذلك الامتثال؛ ولأنهما إن خُولِفَا في أمرهما حصل العقوق الذي حرمه الله تعالى؛ فوجب أمرهما على كل حال بإيجاب الله تعالى. المفهم (6/ 520).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
العقوق من أكبر الكبائر، ومن أَعظم المعاصي، يجب الحذر منه. الإفهام في شرح عمدة الأحكام (ص: 745).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وإنما حرَّم الله العقوق لِما فيه من جحد النعمة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه»، فأي معروف من الآدميين غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر من معروف الوالدين؟! لا شيء؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء: 24، والكاف هنا للتعليل يعني: لأنهما ربياني صغيرًا، فلا نعمة من العباد بعد إنعام النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر من نعمة الوالدين على الولد، وكان من الأمثال العامية: إن البِرَّ أسلاف، يعني: إذا بررتَ بوالديك بَرَّ بك أولادك. فتح ذي الجلال والإكرام (6/282).
قوله: «ومنَّانٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ومنان» بما يعطيه... وأخذ الذهبي وغيره من هذا الحديث ونحوه أن المنَّ كبيرة فعدُّوه منها. فيض القدير (3/ 328).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «المنان» وهو مَن يعدِّد نعمه على مَن أنعم عليه، فالمنّ بهذا المعنى صفة ذم في حق العبد؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا عن البخل والكِبْرِ والعُجْبِ، ونسيان مِنة الله تعالى بما أنعم به عليه، أما المنّ في حق الله تعالى فصفة مدح، ومن أسمائه تعالى: المنان، أي: المنعم المعطي. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 516).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«المنان»: فعَّال من المنِّ، وقد فسره في الحديث، فقال: «هو الذي لا يعطي شيئًا إلا منةً» أي: إلا امْتَنَّ به على المعطى له، ولا شك في أن الامتنان بالعطاء مُبْطِلٌ لأجر الصدقة والعطاء، مؤذٍ للمعطى له؛ ولذلك قال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} البقرة: 264.
وإنما كان المنُّ كذلك لأنه لا يكون غالبًا إلا عن البخل والعجب والكِبْرِ ونسيان منَّة الله تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل تَعْظُمُ في نفسه العطية، وإن كانت حقيرة في نفسها، والعُجب يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه مُنْعِم بماله على المعطى له، ومتفضل عليه، وإن كان له عليه حق يجب عليه مراعاته، والكِبْرُ يحمله على أن يحتقر المعطى له، وإن كان في نفسه فاضلًا، وموجِبُ ذلك كله الجهل، ونسيان منَّة الله تعالى فيما أنعم به عليه؛ إذ قد أنعم عليه مما يعطي ولم يحرمه ذلك، وجعله ممن يعطي، ولم يجعله ممن يَسأل، ولو نظر ببصيرته لعَلِمَ أن المنَّة للآخذ؛ لما يُزيل عن المعطي من إثم المنع، وذم المانع، ومن الذنوب؛ ولما يحصل له من الأجر الجزيل، والثناء الجميل. المفهم (1/304).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المنّ والأذى بالصدقة منافٍ لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} البقرة:264، كأنه يقول: إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك، وإذا فعلتموه صار منافيًا لهذا الوصف، ومنافيًا لكماله. تفسير الفاتحة والبقرة (3/ 322).
قوله: «ومُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ومُكَذِّب بالقَدَر» بالتَّحريك، أي: بأن الأشياء كلها بتقدير الله وإرادته. فيض القدير (3/ 328).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«ومكذِّب بالقَدَرِ»... بأنْ أسند أفعال العباد إلى قدرتهم، وأنكر كونها بتقدير الله تعالى. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 278).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-:
فالمكذِّب بالقدَر لم يحقق توحيدَ الربوبية، فإن كان من الغُلاة جحد علم الله وتقديره السابق، ونفى عموم المشيئة وعموم الخلق، وإن كان من مقتصدي النفاة القدرية فهو يُخرِج أفعال العباد عن مشيئة الله وعن قدرته وخلقه وملكه. شرح العقيدة الطحاوية (185).
وقال حسن الزهيري -حفظه الله-:
والمكذِّب بالقدَر إذا كان من الغلاة، وكان من علماء القدرية فإنه يكفر بهذا خاصة إذا أنكر مرتبة العلم والكتابة، فإن من أنكر مرتبة العلم الأزلي لله -عزَّ وجلَّ، وأن الله لم يكتب ذلك في اللوح المحفوظ فقد كفر بذلك، وأما من أنكر المرتَبتين التاليتين وهما: مرتبة الإرادة ومرتبة الخلق ففيه نزاع كبير جدًّا بين أهل العلم في تكفيره خلافًا للمرتبتين السابقتين: العلم والكتابة، فقد اتفقت كلمة الأُمَّة على تكفير من أنكرهما؛ لأنه ينفي العلم عن الله -عزَّ وجلَّ-، ويصفه بالجهل، وأن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد أن يقع، وأنه لا قَدَر، وأن الأمر أُنُف. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة (55/4).
وقال المناوي -رحمه الله-:
كون العقوق والمنة في كل منهما حق للآدمي وحق لله قدَّمَهما على ما بعدهما؛ لأنهما محض حق الله. فيض القدير (3/ 328).
قوله: «ومُدْمِن خمر»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ومدمن خمر» أي: مُعَاقِرٌ لها، مُلازِم على شربها. فيض القدير(1/ 470).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الأربعة المذكورة من الكبائر لهذا الوعيد. فيض القدير (1/ 470).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ويَلحق بذلك شُرب المُسكر مِن غيرها، وفي إِلحاق غِير المُسكر خلاف، والأصح إلحاقه إِن كان شافعيًا، وقد جاء تسمية الخمر أكبر الكبائر. وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سأَلتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر فقال: «هي أكبر الكبائر وأُمُّ الفواحش، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته» الزواجر عن اقتراف الكبائر(2/٢٥٧).