«لا تَسُبُّوا أصحابِي، لا تَسُبُّوا أصحابي، فو الذي نفسي بيدِهِ لو أنَّ أحدَكُم أَنْفَقَ مثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أَدْرَكَ مُدَّ أحدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ».
رواه البخاري برقم: (3673) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-.
ومسلم برقم: (2540) واللفظ له من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مُدَّ»:
المدُّ: (بضم الميم) رُبع الصَّاع، ويقال: إنَّه مُقَدَّر بأنْ يَمُدَّ الرجلُ يَدَيْه فيملأ كفَّيه طَعامًا؛ ولذلك سُمِّي مُدًّا، وقد قال -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- في أصحابه: «... ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ»... ورواه بعض أهل اللغة «ما بَلَغ مَدَّ أحدِهم» بفتح الميم، يُريد الغاية، يقال: فلان لا يبلغ مَدَّ فلان، أي: لا يلحقُ شَأوَه، ولا يدرك غايته. غريب الحديث، للخطابي (1/ 248).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الْمُدُّ في الأصل: رُبْعُ الصاع، وإنما قدَّره به؛ لأنه أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة. النهاية (4/ 308).
«نَصِيْفَه»:
هو النصف، كالعَشِير في العُشُر. النهاية، لابن الأثير (4/ 308).
وقال الفيروز أبادي -رحمه الله-:
النِّصْفُ مُثَلَّثَةٌ: أحَدُ شِقَّي الشيء كالنَّصِيف، جَمْعُهُ: أنصاف. القاموس المحيط (ص: 856).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
والعرب تسمي النصف النصيف. غريب الحديث (2/164).
شرح الحديث
قوله: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لا» ناهية؛ ولذا جزم الفعل بعدها «تسبوا». البحر المحيط الثجاج (40/149).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي» بالتكرار مرتين؛ لتأكيد النهي. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/ 231).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لمن الخطاب في لفظ: «لا تسبوا» والصحابة هم الحاضرون؟
قلتُ: لغيرهم من المسلمين المفروضين في العقل، جعل من سيوجد كالموجود الحاضر، ووجودهم المترقَّب كالحاضر. الكواكب الدراري (14/215).
وقال ابن حجر -رحمه الله متعقبًا-:
وغَفَلَ من قال: إن الخطاب بذلك لغير الصحابة، وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل؛ تنزيلًا لمن سيوجد منزلة الموجود للقَطْعِ بوقوعه.
ووجه التعقب عليه: وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. فتح الباري (7/34).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فإن قال قائل: لمن خاطَبَ؟ إن كان خاطَبَ أصحابه فكيف يقول: «يا أصحابي، ولا تسبوا أصحابي»، وإن كان خاطَبَ التابعين فما وُجِدوا بعد؟
فالجواب: أنه يحتمل الأمرين، فإن كان خاطب أصحابه فالخطاب للمتأخرين منهم، فأَعْلَمَهُم أنهم لن يبلغوا مرتبة المتقدمين، كما قال في حق أبي بكر: «قلتم: كذَبْتَ، وقال: صدَقْتَ، فهل أنتم تاركو صاحبي؟!» ويكشف هذا قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} الحديد: 10.
وإن كان قال لمن سيأتي فعلى معنى: بلِّغُوا من يأتي، ويوضحه قوله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} الأنعام: 19. كشف المشكل (3/151).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلو أن أحدكم» فيه إشعار بأن المراد بقوله أولًا: «أصحابي» أصحابٌ مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: «لو أن أحدكم أَنْفَقَ» وهذا كقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الحديد:10 الآية. فتح الباري (7/34).
وقال تقي الدين السبكي -رحمه الله-:
«أصحابي» الظاهر: أنَّ المراد بهم من أَسْلَمَ قبل الفتح، وأنَّه خطاب لمن أسلم بعد الفتح، ويُرْشِدُ إليه قوله: «لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» مع قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِن الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى} الحديد: 10، فلا بد لنا من تأويلٍ بهذا أو بغيره؛ ليكون المخاطَبون غير الأصحاب الموصَى بهم كبار الأصحاب، وإنْ شمل اسم الصحبة للجميع، ويشير إليه الحديث الآخر: «هل أنتم تاركون لي صاحِبَيَّ؟» يعني: أبا بكر وعمر، فاسم الصُّحبة يعم كل من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم تسليمًا-، وكبارهم الذين تقدموا قبل الفتح، فأمر المتأخرين التأدب معهم، وسمعتُ شيخنا الشيخ أبا العباس أحمد بن عطاء يذكر في مجلسه في الوعظ تأويلًا آخر يقول: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- له تجليات يَرَى فيها مَن بعده، فيكون هذا الكلام منه -صلى الله عليه وسلم- في تلك التجليات خطابًا لمن بعده في حق جميع الصحابة الذين قبل الفتح وبعده، وهذه طريقة صوفية، وهو كان متكلم الصوفية على طريقة الشاذليَّة، فإنْ ثبت ما قاله فالحديث شامل لجميع الصحابة، وإلا فهو في حق المتقدمين قبل الفتح، ويدخل من بعدهم في حكمهم، فإنهم بالنسبة إلى من بعدهم كالذين من قبلهم بالنسبة إليهم، وعلى كِلَا التقديرين فالظاهر أنَّ هذه الحرمة ثابتة لكل واحد منهم، ويحتمل على بُعْدٍ أنْ يُقال: إنَّما يثبت ذلك لمجموعهم؛ لأجل صيغة الجمع واستغراق العموم، وينبني على هذا البحث سبّ بعض الصحابة، فإنَّ سَبَّ الجميع لا شك أنه كفر، وهكذا إذا سَبَّ واحدًا من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرُّض إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا شك في كفر السَّابِّ، وعلى هذا ينبغي أن يُحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بُغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر، وأما إذا سَبَّ صحابيًا لا من حيث كونه صحابيًا، بل لأمر خاص به، وكان ذلك الصحابي مثلًا ممن أسلم مِن قَبْلِ الفتح، ونحن نتحقق فضيلته، كالروافض الذين يسبُّون الشيخين، وإنهما أفضل الصحابة، وإنهما السمع والبصر من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي رواه الترمذي روينا في كتابه بالإسناد المتقدم إليه. فتاويه (2/ 574-575).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا تسبوا أصحابي...» إلخ رواه أبو هريرة مجردًا عن سببه، وقد رواه أبو سعيد الخدري، وذَكَرَ أن سبب ذلك القول هو أنه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، أي: منازعة، فسبَّه خالدٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك القول، فأظهر ذلك السبب أن مقصود هذا الخبر زجر خالد، ومن كان على مثل حاله ممن سَبق بالإسلام، وإظهار خصوصية السابق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن السابقين لا يلحقهم أحد في درجتهم، وإن كان أكثر نفقة وعملًا منهم، وهذا نحو قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الحديد:10، ويدل على صحة هذا المقصود: أن خالدًا وإن كان من الصحابة -رضي الله عنهم- لكنه متأخر الإسلام، قيل: أسلم سنة خمس، وقيل: سنة ثمان، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لما عدَل عن غير خالد وعبد الرحمن إلى التعميم دل ذلك على أنه قصد مع ذلك تقعيد قاعدة تغليظ تحريم سب الصحابة مطلقًا، فيحرُم ذلك من صحابي وغيره؛ لأنه إذا حرم على صحابي فتحريمه على غيره أولى.
وأيضًا فإن خطابه -صلى الله عليه وسلم- للواحد خطاب للجميع، وخطابه للحاضرين خطاب للغائبين إلى يوم القيامة. المفهم (6/494-495).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فنَهْيُ بعض من أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يقتضي زجر من لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يخاطبه عن سب مَن سبقه من باب الأَوْلى. فتح الباري (7/34).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال: إن فضيلتهم بحسب فضيلة إنفاقهم وعِظَمِ موقعه، كما قال الله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الحديد:10، {مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} أي: قبل فتح مكة، يعني قبل عِزَّ الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وقلَّة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، هذا في الإنفاق فكيف بمجاهدتهم وبذل أرواحهم ومُهَجِهِم وفراغهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك؟. الكاشف عن حقائق السنن (12/ 3841).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولا يخفى أن هذا (الإشارة إلى كلام الطيبي -رحمه الله-) إنما يتم على ما سبق من سبب الحديث المستفاد منه تخصيص الصحابة الكبار، لكن يعلم نهي سب غير الصحابي للصحابي من باب الأولى؛ لأن المقصود هو الزجر عن سب أحد ممن سبقه في الإسلام والفضل؛ إذ الواجب تعظيمهم وتكريمهم، حيث قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} الحشر: 10. مرقاة المفاتيح (9/3876).
قوله: «فو الذي نفسي بيده»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فو الذي نفسي بيده» أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا للأمر الذي نهى عنه، فإنه خطير جدًّا؛ إذ مَنْصِب الصحابة -رضي الله عنهم- أرفع وأعلى. مشارق الأنوار الوهاجة (3/423).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» و «لا ومقلب القلوب» فهذه أيمان النبي -عليه السلام-، فالسُّنة أن يُحْلَف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته تعالى.شرح صحيح البخاري (6/ 95).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» إثبات صفة اليد لله -عز وجل- على الوجه الذي يليق بجلاله، فهو كالقول في سائر الصفات، وهو -عز وجل- منزه عن مشابهة الخلق في كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائقة به -عز وجل-. البحر المحيط الثجاج (14/ 225).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
واليد ها هنا ظاهر في معنى القُدرة والْمُلك، واستعمال العرب لها في هذا الباب مشهور. إكمال المعلم (6/ 295).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا:
هذا التأويل غير صحيح، وأن الحق هو ما كان عليه السلف؛ أن اليد صفة من صفات الله -سبحانه وتعالى-، أثبتها النص، فنحن نثبتها على مراد الله تعالى، وننزهه تعالى عن مشابهة خلقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فتنبه. البحر المحيط الثجاج (32/ 359).
وقال ابن القطان الفاسي -رحمه الله-:
وأجمعوا أن لله يدين مبسوطتين، وأجمعوا أنَّ الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه من غير أن تكون جوارح، وأجمعوا أن يديه تعالى غير نعمتيه. الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 44).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف ولا ضرورة ودلائله كثيرة. شرح صحيح مسلم (3/ 137).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: الرد على من كَره أنْ يُحلف بالله مطلقًا. فتح الباري (2/ 129).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وقد حُفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحلف في أكثر من ثمانين موضعًا. زاد المعاد (3/ 269).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا القسم بهذه الصيغة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقسم به كثيرًا، ومضمونه: أنني أُقسم قسمًا إن كنتُ غير مُصيب فيه فإني أهلك وأموت، يعني: قوله: «والذي نفسي بيد الله» كأنه يقول: إن كنت كاذبًا فليأخذ الله نفسي؛ لأن النَّفْس بيد الله -عز وجل-، فيكون هذا من أَعظم القسم، والذي نفسي بيده، وهو الله -عز وجل-. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 286).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
مناسبة القسَم بهذا دون أن يقول: والله؛ ليُشعر المخاطَب بأن هذا أقسم وهو يعلم أن وراءه الموت، ومعلوم أن الإنسان الذي يقسم وهو يعلم أن وراءه الموت سيكون إقسامه عن حق؛ لأنه يخشى مَن بيده أن يهلكه عاجلًا غير آجل. فتح ذي الجلال والإكرام (5/ 332).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه القسم بيد الله -عز وجل-؛ لأن اليد صفة من صفات الله تعالى التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه الصحيحة، فهي صفة ثابتة على ما يليق بجلاله، بدون تأويلها إلى القُدرة، كما يقول به بعض الناس.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 40).
وقال السفيري -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» في هذا دليل على جواز الحلف على الأمر المهم توكيدًا له، وإن لم يكن هناك مستحلِفًا. المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (1/ 404).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه: إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكثيرًا كان -صلى الله عليه وسلم- يقول في كلامه: «ومقلب القلوب»؛ لأن في اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له، وإنما يُكره تعمد الحِنْث (يعني: نقْضُها، وعدم الوفاء بها). شرح صحيح البخاري (5/ 16).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ففيه: دليل على أن الحلف بالألفاظ المبهمة المراد بها: اسم الله تعالى يمين جائزة، حكمها حكم الأسماء الصريحة. المفهم (4/ 160).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على جواز اليمين بالله تعالى وإن لم يُستحلف، وعلى أن ما يُفهم منه اسم الله تعالى يمين جائزة وإن لم يكن من أسمائه تعالى، فإن قوله: «والذي نفسي بيده» ليس من أسماء الله تعالى، ولكنه تنزَّل منزلة الأسماء في الدلالة، فيلحق به كل ما كان في معناه، كقوله: والذي خلق الخلق، وبسط الرزق، وما أشبه ذلك. المفهم (5/ 107).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وعلماء البلاغة يقولون: المخاطَب له ثلاث حالات: متشكك، أو خَالِي الذهن، أو منكر، فإن كان خالي الذهن فإنه لا يحسن أن تؤكد الكلام له بقسم؛ لأن خالي الذهن سوف يصدق إلا إذا كان المخبَر به أمرًا مهمًّا يحتاج إلى تثبيت فلا بأس.
والثاني: المتردِّد يحسن أن تُقْسِم له أو أن تؤكد الكلام بأي مؤكد آخر؛ من أجل زوال التردد الذي في نفسه.
والثالث: منكِر يجب أن يؤكد له حتى يزول إنكاره. فتح ذي الجلال والإكرام (5/ 334-335).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على جواز اليمين وانعقادها بقوله: «والذي نفسي بيده» ونحو هذه الصيغة من الحلف بما يدل على الذات، ولا خلاف في هذا، قال أصحابنا: اليمين تكون بأسماء الله تعالى وصفاته، أو ما دل على ذاته. شرح صحيح مسلم (13/ 21-22).
قوله: «لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُد أحدهم، ولا نصيفه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لو أن أحدكم» أيها المؤمنون «أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك» أي: ما بلغ أجر ما أنفقه من الذهب المماثل لأحد. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/231).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«أُحُد» هو جبل المدينة. الكواكب الدراري (14/215).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والمعنى: إنه لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحُدٍ ذهبًا من الفضيلة والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصفه؛ لما يقارنه من مزيد الإخلاص، وصدق النية، وكمال النفس. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/535).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
سبب الأفضلية: عظم موقع ذلك؛ لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الحديد:10، فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته؛ وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا؛ لشدة الحاجة إليه وقلَّة المعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك؛ لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا؛ فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم. فتح الباري (7/34-35).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومعناه: لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابي مُدًّا ولا نصف مد. شرح صحيح مسلم (16/93).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والمعنى: أن جُهد الـمُقِلَّ منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه، أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه مَن بعدهم. معالم السنن (4/308).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وهذا يقتضي ما قدمناه من قول جمهور الأُمّة من تفضيلهم (الصحابة) على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة، وإقامة الأمر، وبدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونفقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها مع سعة الحال، وكثرة ذات اليد؛ ولأن إنفاقهم كان في نصرة ذات النبي -عليه الصلاة والسلام- وحمايته؛ وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها، وقد قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ} الآية الحديد:10، هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل وبينهم من البَوْن (أي: المسافة بينهم)، فكيف لمن يأتي بعدهم؟ فإن فضيلة الصحبة واللقاء ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا ينال درجتها شيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} الحديد:21. إكمال المعلم (7/ 580).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث ما يدل على تشديد التحريم لنيل الصحابة بسب أو قذع أو أذى؛ ولقد أتى في هذا النطق ما يخبر أن درجاتهم لا تبلغ تقليل، وأن أحدهم لا يقال له: قليل، حتى إن أحدنا لو أنفق مثل الأرض ذهبًا لما بلغ من جنس الإنفاق ما يكون مقداره مُدًّا واحدًا من الصحابة أنفقه أحدهم ولا نصف ذلك الْمُدّ، وهذا إنما ضربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلًا في النفقات، فيُقاس عليه: الصلوات والصيام والحج والجهاد وسائر العبادات؛ فإنها في معناه. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/70-71).
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أن سبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- حرام من فواحش المحرمات، سواء مَن لَابَس الفتن منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب مُتَأَوِّلُون. شرح صحيح مسلم (16/93).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
من المعلوم الذي لا يُشَكُّ فيه: أن الله تعالى اختار أصحاب نبيه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولإقامة دينه، فجميع ما نحن فيه من العلوم والأعمال، والفضائل والأحوال، والممتلكات والأموال، والعز والسلطان، والدِّين والإيمان، وغير ذلك من النِّعم التي لا يحصيها لسان، ولا يتسع لتقديرها زمان إنما كان بسببهم؛ ولَمَّا كان ذلك وجب علينا الاعتراف بحقوقهم، والشكر لهم على عظيم أياديهم؛ قيامًا بما أوجبه الله تعالى مِن شُكر المنعِم، واجتنابًا لما حرمه من كُفران حقه، هذا مع ما تحققناه من ثناء الله تعالى عليهم، وتشريفه لهم، ورضاه عنهم، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} إلى قوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} الفتح:18، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} التوبة:100، وقوله: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ} الحشر:8 إلى غير ذلك، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين» إلى غير ذلك من الأحاديث المتضمِّنة للثناء عليهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
وعلى هذا فمَن تعرَّض لسبِّهم، وجَحَدَ عظيم حقهم فقد انسلخ من الإيمان، وقابَل الشكر بالكفران، ويكفي في هذا الباب ما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبَّهم فبِحُبِّي أَحَبَّهم، ومن أبغضهم فببغضي أَبْغَضَهُم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يُوْشِك أن يأخذه»، فقال: هذا حديث غريب، وهذا الحديث وإن كان غريب السند فهو صحيح المتن؛ لأنه معضود بما قدمناه من الكتاب وصحيح السُّنة، وبالمعلوم من دِين الأُمَّة؛ إذ لا خلاف في وجوب احترامهم، وتحريم سبِّهم، ولا يختلف في أن مَن قال: إنهم كانوا على كفر أو ضلال كافر يُقتل؛ لأنه أنكر معلومًا ضروريًّا من الشرع، فقد كذَّب الله ورسوله فيما أخبرا به عنهم، وكذلك الحكم فيمن كفَّر أحد الخلفاء الأربعة أو ضَلَّلَهم، وهل حكمه حكم المرتد فيستتاب، أو حكم الزنديق فلا يستتاب، ويُقتل على كل حال؟ هذا مما يختلف فيه، فأما مَن سَبَّهم بغير ذلك فإن كان سبًّا يوجِب حدًّا كالقذف حُدَّ حدُّه، ثم يُنَكَّل التَّنْكِيل الشديد من الحبس والتخليد فيه، والإهانة ما خلا عائشة -رضي الله عنها-، فإنَّ قَاذِفَهَا يُقتل؛ لأنه مكذِّب لما جاء في الكتاب والسُّنة مِن براءتها، قاله مالك وغيره.
واختُلف في غيرها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: يُقتل قاذِفَهَا؛ لأن ذلك أذى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: يُحدُّ ويُنَكَّل، كما ذكرناه على قولين، وأما من سبهم بغير القذف فإنه يُجلد الجلد الموجع، ويُنَكَّل التَّنْكِيل الشديد.
قال ابن حبيب: ويخلد سجنه إلى أن يموت، وقد روي عن مالك: مَن سَبَّ عائشة قُتل مطلقًا، ويمكن حمله على السب بالقذف. المفهم (6/492-494).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وسبُّ أصحاب النبي -عليه السلام- وتنقصهم أو أحد منهم من الكبائر المحرمة، وقد لَعَن النبي -عليه الصلاة والسلام- فاعل ذلك، وذَكَرَ أنه من آذاه وآذى الله فإنه لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ.
واختلف العلماء: ما يجب عليه؟ فعند مالك ومشهور مذهبه إنما فيه الاجتهاد بقدر قوله، والمقول فيه، قال: وليس له في الفيء حق، وأما من قال فيهم: إنهم كانوا على ضلالة وكفر قُتل، وإن شتَمَهُم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكِّل نكالًا شديدًا، وحكي عن سحنون مثل هذا فيمن قاله في الأئمة الأربعة، قال: ويُنَكَّل في غيرهم، وحُكي عنه: يُقتل في الجميع؛ لقول مالك. إكمال المعلم (7/580-581).
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-:
قال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل يَنْتَقِصُ أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة. الكفاية في علم الرواية (ص: 49).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
في هذا الحديث دلالة واضحة على أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يلحقهم أَحد ممن بعدهم في فضلهم. المفهم (6/495).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
وهذا من فضل الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لسبقهم للدِّين، وكونهم قُدوة صالحة في الخير، وسبّهم كلهم المعروف عند أهل العلم أنه يكفر؛ لأنه بُغْضٌ لهم، بخلاف سَبِّ الواحد والاثنين. الحلل الإبريزية (3/143).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفيه أيضًا إشارة إلى أن الله تعالى أَطْلَعَ رسوله على الغيب مِن أنَّ قومًا يجيئون في آخر الزمان، وينتقصون أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا -رضي الله عنهم-، فكان تحذيرُه كافة أصحابه من ذلك في ضمن قوله: «لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا»، ولم يذكر أنه لو أن أحدكم سَبَّ واحدًا منهم لم يُكفِّر عنه ذلك كذا وكذا؛ بل رفع طبقة أصحابه من أن تجوز سب أصحابه عنهم؛ ولكن أشار إلى أن لحوق مرتبتهم وبلوغ شأنهم في الفضل ممتنع يستحيل؛ لأن أحدكم غاية أَمْرِه أن يُنفق مثل أُحُد ذهبًا في سبيل الله، ولو أنفقه لما أدرك به مُدًّا لواحد من الصحابة القدماء ولا نَصِيْفَه، فإنْ كان هذا حال من يريد أن يبلغ إلى مراتبهم، فما الظن بمن يذهب إلى تنقصهم بأن يسبهم مما جاء بعدهم؟!. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/71).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الحديث:
أن العمل الصالح الواحد يختلف أجره باختلاف الفاعل، وباختلاف المكان والزمان والظروف المحيطة.
توجيه الأحكام والتدليل عليها بما يقنع السامع والمكلف.
جواز التعليق على المستحيل العادي كإنفاق جبل من ذهب؛ للمبالغة وتقريب المعاني. المنهل الحديث في شرح الحديث (3/217).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: بيان تفاوت مراتب الصحابة في الفضل والأجر عند الله تعالى.
ومنها: بيان أن الفضل والمنزلة عند الله ليس من الأمور القياسية، بل محض فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فقد يُعطي على عمل قليل ما لا يُنال بالعمل الكثير.
ومنها: بيان أن الإنفاق في وقت الحاجة أفضل من الإنفاق في غيرها.
ومنها: بيان وجوب احترام الصحابة -رضي الله عنهم-، والنهي عن سَبِّهم.
ومنها: أن فيه دلالة واضحة على أن الصحابة -رضي الله عنهم- لا يلحقهم أحد ممن بعدهم في فضلهم، وإنْ عَمِلَ ما عَمِلَ من أفعال الخير. البحر المحيط الثجاج (40/153-154).