«ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ الله يومَ القيامةِ، ولا يُزَكِّيهِمْ، ولهم عذابٌ أليمٌ: أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، ورجلٌ جَعل الله له بِضَاعَةً فلا يَبِيعُ إلَّا بِيَمِينِهِ ولا يشتري إلَّا بيمينه».
رواه الطبراني في الصغير برقم: (821)، والأوسط برقم: (5577)، والكبير برقم: (6111)، والبيهقي في شُعب برقم: (4511)، من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3072)، صحيح الترهيب والترهيب برقم: (1788).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أُشَيْمِط»:
بضم الهمزة مُصَغَّر والشين المعجمة مِن الشَّمَطِ، وهو الشيب، والشَّمْطَان الشعرات البيض. التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (5/ 232).
قال الخليل بن أحمد -رحمه الله-:
الشَّمَطُ في الرَّجل: شيبُ اللِّحية، وهو في المرأة: شيبُ الرأس. العين (6/ 240).
«زَانٍ»:
الزنا: الوطء في قُبُلٍ خالٍ عن مِلْكٍ وشُبْهَةٍ. التعريفات، للجرجاني (ص:115).
«عَائِل»:
العَائِل: ذو العيال. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (5/255).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وعائل» أي: فقير. فيض القدير (3/331).
شرح الحديث
قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ثلاثة» مبتدأ، سَوَّغَ الابتداء به وهو نكرة ملاحظةُ الإضافة أو الوصف، أي: ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة من الناس. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثة» يعني: ثلاثة أصناف من الناس كل واحد منهم صنف في جنس عمله. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 346).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله» أي: ثلاثة من أجناس الناس، يعمُّ الذكور والإناث، والأحرار والعبيد. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الثلاث بالعدد، ثم وصفها بهذه الأوصاف قبل أن يذكرها من كمال بيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك أن النفوس عندما تذكر لها هذه الصفات الثلاث فإنها تتشوَّق وتتشوَّف وتكون متهيئة لمعرفة هذه الثلاث التي وُصفت بهذه الأوصاف الدالة على خطورتها، فهذا من كمال بيانه -صلى الله عليه وسلم- ونُصحه لأُمَّته -عليه الصلاة والسلام-.
أيضًا: ذِكْرُ العدد فيه فائدة وهي: أن الإنسان يُطَالِب نفسه بالعدد، وأن العدد اكتمل أو لم يكتمل، فإما أن يستوفي وإما أن يكون هناك نقص حصل فيبحث عنه. شرح سنن أبي داود (458/14).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا يكلمهم» أي: لا يكلمهم تَكْلِيم أهل الخيرات وبإظهار الرضا، بل بكلام أهل السُّخط والغضب، وقيل: المراد الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرُّهم، وقيل: لا يُرسل إليهم الملائكة بالتحية. شرح صحيح مسلم (2/116).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا يكلمهم الله يوم القيامة» عبارة عن غضبه عليهم، وتَعْرِيْضٌ بحرمانهم حال مقابلتهم في الكرامة والزلفى من الله، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108. إرشاد الساري (4/205).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» أي: كلامًا يرضى به عنهم، أو لا يُرسل ملائكته بالتحية إليهم أو بالبشارة بالنجاة بالرحمة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 227).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يكلمهم الله» أي: بكلام من يرضى عنه، ويجوز: أن يكلمهم بما يكلم به مَن سخط عليه، كما جاء في كتاب البخاري: يقول الله لمانع الماء: «اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك»، وقد حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108، وقيل: معناه: لا يكلمهم بغير واسطة؛ استهانة بهم، وقيل: معنى ذلك: الإعراض عنهم، والغضب عليهم. المفهم (1/302).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم يُذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تَناهى جُرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصِّصًا لحديث عَدِيّ، وهو قوله: «ما منكم من أحد إلَّا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تَرْجُمَان». شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يوم القيامة» أي: وقت ظهور عدله وفضله وغضبه ورضاه. مرقاة المفاتيح (8/3190).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى التقييد بيوم القيامة؟ قلتُ: لأنه محل الرحمة العظيمة المستمرة التي لا تنقطع، بخلاف رحمة الدنيا فقد تنقطع عن المرحوم ويأتي له ما يخالفها. طرح التثريب (8/ 171).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والتقيُّد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة، وبه يحصل التهديد والوعيد. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).
قوله: «ولا يزكيهم»:
قال الزجاج -رحمه الله-:
أي: لا يثني عليهم، ومن لا يثني الله عليه فهو معذَّب. معاني القرآن وإعرابه (1/ 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: لا يطهرهم من خبيث أعمالهم لِعِظَمِ جُرمهم؛ لأن ذنوبهم جمعت ذنوبًا كثيرة. إكمال المعلم (1/380).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: ولا يطهرهم من ذنوبهم، بل يعذبهم بها. المفاتيح في شرح المصابيح (3/404).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: لا ينمِّي أعمالهم. مرقاة المفاتيح (5/1909).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يزكيهم» أي: لا يطهرهم عن دنس الذنوب بالمغفرة، أو لا يثني عليهم بالأعمال الصالحة، والكل مقيَّد بأوَّل الأحوال لا بالدَّوام، ثم هذا بيان ما يستحقونه وفضل الله أوسع، فقد قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء: 48. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/23).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
«ولا يزكيهم» من التزكية، أي: يطهرهم من الذنوب بالمغفرة؛ ليدخلوا في الجنة مع السابقين. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 121).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» لكونهم لم يزكوا أحكامه. فيض القدير (3/332).
قوله: «ولهم عذاب أليم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ولهم عذاب أليم» يَعرفون به ما جهلوا من عظمته، واجترحوا من حُرمته. فيض القدير (3/332).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها: التخويف بالعذاب البدني بعد التهديد بالعذاب الروحي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
قال الواحدي -رحمه الله-:
ومعنى العذاب الأليم: الذي يَخْلُصُ وجعُه إلى قلوبهم. التفسير البسيط (2/ 153).
قوله: «أُشَيْمِطٌ زان»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أُشَيْمِطٌ» بالتصغير، «زان» وأشيمطة زانية. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 976).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
والْأُشَيْمِطُ تصغير أَشْمَط: وهو من اختلط شعر رأسه الأسود بالأبيض. الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 219).
وقال عبد الرحمن بن حسن التميمي -رحمه الله-:
قوله: «أشيمط زانٍ» صغَّرَه تحقيرًا له؛ وذلك لأن داعي المعصية ضَعُفَ في حقه، فدل على أنَّ الحامل له على الزنا: محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضَعْفُ الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه؛ بخلاف الشاب؛ فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 490).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك لأنه لا عذر له (يعني: الأشيمط الزاني) على إتيانه الفاحشة؛ إذ الشباب قد ولّى وكان شُعْبَة من الجنون، فإقدام الشباب فيه له بعض المعذرة وإن كان عاصيًا إلا أن درجات العصيان تتفاوت، فالشيخ الزاني أشد عذابًا وأمقت عند الله، فإن شهوته ضعيفة، وقُوَّته مُنْحَطَّة، فإذا زنى فما هو إلا أنه مجبول على الفساد، وأنه صار وصفًا ذاتيًّا له مستلزمًا لقبائح النتائج، ثم إنه قد لا يوفَّق للتوبة، وفي اللفظ إعلام -بأنه صغَّرَهُ مع أن الشَّمَطَ أوائل الشيب- بأن أدنى الشيب يستحق به الوعيد. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 232-233).
قوله: «وعائل مستكبر»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «عائل مستكبر»... يعني: من له عيال وليس له مال، ولا يقدر على تحصيل نفقتهم وكسوتهم وتَجَوُّعهم، ولا يطلب الزكاة والصدقة، ولا يقبل أموال الناس من التكبُّر، ولا يطلب شيئًا من بيت المال، فمن هذه صفته أَثِمَ؛ لإيصال ضرر الجوع والعري إلى عياله. المفاتيح في شرح المصابيح (5/255).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال: ... المراد بالفقير الذي يتكبر على الفقراء؛ لأن التكبر على المتكبرين من الأغنياء صدقة، والأظهر أن المراد به الفقير المتكبر عن الكسب والكَدِّ لنفسه وعياله مع القدرة عليه، كما هو مشاهَد في أهل زماننا، ولا شك أن هذا التكبر المتضمن للرُّعُوْنَة والرياء والسمعة مع إضرار النفس، وارتكاب السؤال، وأخذ المال من غير وجهٍ حلال أقبح من تكبر الأغنياء، لا سيما إذا كان يتكلف ويَتَزَيَّا بِزَيِّ الأكابر، كبعض الفقهاء القائلين بأن الحلال ما حلَّ بنا، وأن الحرام ما حُرِمنا، فإن العلل المركبة داء عُضَال يعجز عنه الحكماء وإن بلغوا مبلغ الكمال. مرقاة المفاتيح (8/3190).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال القونوي (علي بن إسماعيل بن يوسف): سِرُّ ما تقرَّر في الحديث أن الزنا في الشباب له فيه نوع عذر فإن الطبيعة تنازعه وتتقضاه، وأما الشيخ فشهوته ضعُفَت، وقوته انحطَّت، فإذا كان زانيًا فليس ذلك إلا لكونه مفسدًا بالطبع، فهو مجبول على الفساد، فلذلك وصف ذاتي له، فيستلزم النتائج الرديئة.
وأما العائل المستكبر: فالعائل الفقير والمستكبر الذي يَتَعَانى الكِبْرَ وهذا ينقسم -أعني التكبر- إلى قسمين: ذاتي وصفاتي، فالتكبر الصفاتي محصور في موجِبين المال والجاه، فالتكبر من الناس وإن كان قبيحًا شرعًا وعقلًا لكن لأصحاب الجاه والمال فيه صورة عُذْرٍ، وأما عادمهما إذا تكبَّر فلا عذر له بوجه، فالتكبر إذًا صفة ذاتية له، فلا جرم ينتج نتيجة رديئة، ويأتي نحو ذلك التوجيه في الحلَّاف. فيض القدير (3/332).
قوله: «ورجُل جعل الله له بضاعة فلا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه».
قال المناوي -رحمه الله-:
«ورجُل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه» وإن كان صادقًا؛ لاستهانته باسم الله تعالى، ووضعه في غير محله. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/480).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ورجُل جعل الله بضاعته» بفتح الاسمين مفعولَا (جعل)، وفاعله ضمير الرجل لما كان: «لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» فكأنه جعل ربه نفس بضاعته، وفيه مِن تهجين حاله ما لا يخفى، كأنه ما شرى إلا ربه، وما باع إلا خالقه، ويأتي فيه ما سلف من أنه صار الحلف له صفة ذاتية، حيث يقسم في كل محل احتاج إليه فيه أو لا. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 233).
وقال عبد الرحمن بن حسن التميمي -رحمه الله-:
قوله: «ورجل جعل الله بضاعته» بنصب الاسم الشريف، أي الحلف به، جعله بضاعته؛ لملازمته له، وغلبته عليه، وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه، وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 490).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» أي: جعل الحلف بالله بضاعة له، وإنَّما ساغ التأويل هنا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي فسَّره بذلك، حيث قال: «لا يشتري إلا بيمينه...»، وإذا كان المتكلم هو الذي أخرج كلامه عن ظاهره فهو أعلم بمراده ...، فقوله: «لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» استئنافية تفسيرية لقوله: «جعل الله بضاعته»، ومعناها: أنه كلما اشترى حلف، وكلما باع حلف؛ طلبًا للكسب، واستحق هذه العقوبة؛ لأنه إن كان صادقًا فكثرة أيمانه تُشعر باستخفافه واستهانته باليمين، ومخالفته قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة: 89، وإن كان كاذبًا جمع بين أربعة أمور محذورة:
- استهانته باليمين، ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين.
- كذبه.
- أكله المال الباطل.
- أنَّ يمينه غموس، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَن حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان». القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 344).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
لا ينبغي أن يَحلف عليه (يعني: بيع السلعة) ألبتة؛ فإنه إن كان كاذبًا فقد جاء باليمين الغموس، وهي من الكبائر التي تَذَر الدِّيار بَلَاقِعَ، وإن كان صادقًا فقد جعل الله تعالى عُرْضَةً لأيمانه، وقد أساء فيه؛ إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة. إحياء علوم الدين (2/ 75).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)