الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم ولا يُزَكِّيهِمْ ولهم عذابٌ أليمٌ»، قال: فقرأها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثلاثَ مِرَارًا، قال أبو ذَرٍّ: خَابُوا وخَسِرُوا، مَنْ هُم يا رسولَ اللهِ؟ قال: «المسْبِلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلف الكاذِبِ».


رواه مسلم برقم: (106)، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«المُسْبِل»:
أي: الذي أَسبلَ ثوبَه؛ أي: طوَّل ذيلَه بحيث يُجرُّ على الأرض من الكِبْر. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (3/ 404)
وقال البيضاوي-رحمه الله-:
«الـمُسْبِل» أي: يُرخِي إزاره ويُرسل ثوبه إلى الأرض خيلاء. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، للبيضاوي (2/221).

«المنَّان»:
الذي يكثر المنَّة بما يمنحه ويعطيه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/221).

«المنَفِّقُ»:
بالتشديد: من النَّفَاق، وهو ضد الكساد.
ويقال: نَفَقَتِ السلعة فهي نَافِقَة، وأَنْفَقْتُها ونَفَّقْتُهَا، إذا جعلتها نَافِقَة. لسان العرب لابن منظور (10/357).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«والمنَفِّق» أي: الذي يروِّج متاعه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/404).


شرح الحديث


قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ثلاثة» مبتدأ، سُوِّغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة أو الوصف، أي: ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة من الناس. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثة» يعني: ثلاثة أصناف من الناس، كل واحد منهم صنف في جنس عمله. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 346).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله» أي: ثلاثة من أجناس الناس يعمُّ الذكور والإناث، والأحرار والعبيد. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الثلاث بالعدد، ثم وصْفِهَا بهذه الأوصاف قبل أن يذكرها من كمال بيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك أن النفوس عندما تُذكر لها هذه الصفات الثلاث فإنها تتشوق وتتشوف وتكون متهيئة لمعرفة هذه الثلاث التي وُصفت بهذه الأوصاف الدالة على خطورتها، فهذا من كمال بيانه -صلى الله عليه وسلم- ونصحه لأُمَّته -عليه الصلاة والسلام-.
أيضًا: ذِكْرُ العدد فيه فائدة وهي: أن الإنسان يُطَالِب نفسه بالعدد، وأن العدد اكتمل أو لم يكتمل، فإما أن يستوفي وإما أن يكون هناك نقص حصل فيبحث عنه. شرح سنن أبي داود (458/14).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا يكلمهم الله يوم القيامة» أي: كلام الرضا. شرح مصابيح السنة (3/491).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا يكلمهم» أي: لا يكلمهم تَكْلِيم أهل الخيرات وبإظهار الرضا، بل بكلام أهل السُّخط والغضب، وقيل: المراد الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرهم، وقيل: لا يُرسل إليهم الملائكة بالتحية. شرح صحيح مسلم (2/116).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا يكلمهم الله يوم القيامة» عبارة عن غضبه عليهم، وتَعْرِيْضٌ بحرمانهم حال مقابلتهم في الكرامة والزلفى من الله، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون ولكن بنحو قوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108. إرشاد الساري (4/205).
وقال المغربي -رحمه الله-:
هذا كناية عن غضبه تعالى عليهم، وإشارة إلى حرمانهم مما عند الله من المنازل والقُرْب، فإنَّ مَن سَخِطَ على غيره واستهان به، أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه. البدر التمام (10/83).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» أي: كلامًا يرضى به عنهم، أو لا يرسل ملائكته بالتحية إليهم أو بالبشارة بالنجاة بالرحمة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 227).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يكلمهم الله» أي: بكلام من يرضى عنه، ويجوز: أن يكلمهم بما يكلم به من سَخِطَ عليه، كما جاء في كتاب البخاري: يقول الله لمانع الماء: «اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضل ما لم تعمل يداك» وقد حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108. وقيل: معناه: لا يكلمهم بغير واسطة؛ استهانة بهم، وقيل: معنى ذلك: الإعراض عنهم والغضب عليهم. المفهم (1/302).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم يُذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصِّصًا لحديث عَدِيٍّ، وهو قوله: «ما منكم من أحد إلَّا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تَرْجُمَان». شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى التقييد بيوم القيامة؟
قلتُ: لأنه محل الرحمة العظيمة المستمرة التي لا تنقطع، بخلاف رحمة الدنيا فقد تنقطع عن المرحوم ويأتي له ما يخالفها. طرح التثريب (8/ 171).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والتقيد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة، وبه يحصل التهديد والوعيد. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).

قوله: «ولا ينظر إليهم»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«ولا ينظر إليهم» كناية عن الإهانة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (11/247).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا ينظر إليهم» أي: لا يلطف بهم. شرح مصابيح السنة (3/491).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا ينظر إليهم» أي: يُعْرِضُ عنهم، ونظره -سبحانه وتعالى- لعباده رحمته ولطفه بهم. شرح النووي على مسلم (2/116).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
تفسيره النظر بالرحمة واللطف غير صحيح، بل النظر على ظاهره ثابت لله -سبحانه وتعالى-، كما ثبت اللطف والرحمة. البحر المحيط الثجاج (3/271).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «ولا ينظر إليهم» نظر الله تعالى إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالًا مَقَتَهُم الله عليها فأعرض عنهم، ومَن أعرض الله عنه فهو هالك الهلاك الأكبر.
والمقصود بالنظر المنفي هنا نظر خاص يتضمن الإحسان والرحمة، ويُفهم منه نظر العبد إلى الله تعالى لا يحجب بصره شيء أبدًا في أي وقت كان. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/168).
وقال العراقي -رحمه الله-:
معنى كون الله تعالى لا ينظر إليه أي: لا يرحمه، ولا ينظر إليه نظر رحمة، ونظره سبحانه لعباده رحمته لهم ولطفه بهم.
قال والدي -رحمه الله-: فعبر عن المعنى الكائن عن النظر بالنظر؛ لأن مَن نظر إلى متواضعٍ رَحِمَهُ، ومن نظر إلى متكبر متجَبِّر مَقَتَه، فالنظر إليه اقتضى الرحمة أو المقت. طرح التثريب (8/ 171).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي ذكروه من نفي نظر الله -سبحانه وتعالى- حقيقة، وأنه ليس له نظر وإنما هو مجاز عن الرحمة غير صحيح، وإنما حملهم على ذلك أنهم ظنوا أن النظر لا معنى له إلا تقليب الحدقة وهذا خطأ؛ لأن هذا معنى النظر المضاف إلى المخلوقين، وأما نظر الخالق فهو نظر يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- لا نعلم كيفيته، كما لا نعلم حقيقة ذاته العلية؛ لأن الصفة فرع عن الذات.
فالحق أن النظر ثابت لله تعالى حقيقة لا مجازًا، وأما تفسير نظره هنا بأنه نظر رحمة وإحسان فلا يتنافى مع تفسيرنا المذكور؛ لأن هذا بيان للمقصود هنا بقرينة الأدلة الأخرى؛ لأن نظر الله تعالى محيط بجميع مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء، فكان المراد هنا نظرًا خاصًا، وهو الذي يكون لأوليائه تعالى، وهو نظر الرحمة واللطف والإحسان، والفرق بين إثبات النظر وكون المراد نظرًا خاصًّا وهو نظر الرحمة وبين نفي النظر وكونه بمعنى الرحمة واضح لا يخفى على تأمله بالإنصاف، ولم يسلك سبيل التقليد والاعتساف. البحر المحيط الثجاج (3/271-272).

قوله: «ولا يزكيهم»:
قال الزجاج -رحمه الله-:
أي: لا يثني عليهم، ومن لا يثني الله عليه فهو معذب. معاني القرآن وإعرابه (1/ 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: لا يطهرهم من خبيث أعمالهم؛ لعظم جرمهم؛ لأن ذنوبهم جمعت ذنوبًا كثيرة. إكمال المعلم (1/380).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: ولا يطهرهم من ذنوبهم، بل يعذبهم بها. المفاتيح في شرح المصابيح (3/404).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: لا ينمِّي أعمالهم. مرقاة المفاتيح (5/1909).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يزكيهم» أي: لا يطهرهم عن دنس الذنوب بالمغفرة، أو لا يثني عليهم بالأعمال الصالحة، والكل مقيد بأوَّل الأحوال لا بالدَّوام، ثم هذا بيان ما يستحقونه، وفضل الله أوسع، فقد قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء: 48. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/23).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
«ولا يزكيهم» من التزكية، أي: يُطَهِّرهم من الذنوب بالمغفرة؛ ليدخلوا في الجنة مع السابقين، بل لهم عذاب أليم، فيُعَذَّبون أولًا ثم يدخلون الجنة مع اللاحقين. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 121).

قوله: «ولهم عذاب أليم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ولهم عذاب أليم» مؤلم يعرفون به ما جهلوا من عظمته، واجترحوا من مخالفته. فيض القدير (3/329).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها: التخويف بالعذاب البدني بعد التهديد بالعذاب الروحي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).

قوله: «قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرارًا»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال: فقرأها» أي: فتلا هذه الجملة. دليل الفالحين (5/270).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فقرأها» أي: قرأ هذه الجملة وأعادها ثلاث مرات؛ تنبيهًا على اهتمامه، وإدخالًا للرهبة في نفوس المخاطَبين ليحذِّرهم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ومِرَار» بكسر الميم وتخفيف الراءين بينهما أَلِف جمعُ تكسيرٍ لِمَرَّةٍ. دليل الفالحين لطرق (5/270).

قوله: «قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«قال أبو ذر: خابوا وخسروا» جملتان خبريتان لفظًا ومعنى، أو خبريتان لفظًا دُعَائِيَّتَان معنى، والأول أقرب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«قال أبو ذر: خابوا وخسروا» أي: الـمُحَدَّث عنهم بالوعيد المذكور. دليل الفالحين (5/271).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«خابوا» أي: حُرموا من الخير، «وخسروا» أي: أنفسهم وأهليهم. عون المعبود (11/98).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«من هم؟» ليُعْرَفوا بأعيانهم أو بأوصافهم. دليل الفالحين (5/271).

قوله: «قال: المسبل»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«المسبل» خبر لمحذوف: أي أحدهم: «المسبل» اسم فاعل من الإسبال، وهو إرخاء الإزار عن الحد الذي ينبغي الوقوف عنده.
يعني: أن أحد الثلاثة الذين لهم هذا الوعيد الشديد: هو الرجل الذي يرخي إزاره، ويجر طَرَفُه (أي: آخره مما يلي الأرض) خيلاء، كما جاء مفسرًا في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- المتفق عليه: «لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء» والخيلاء: الكِبْرُ، والعُجب. البحر المحيط الثجاج (3/273-274).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«المسبل» المفعول محذوف في هذه الرواية، مذكور في الرواية الثانية: «المسبل إزاره»، والإزار: هو الثوب الذي يُربط في الوسط ويغطي نصف الجسم الأسفل، وذكر الإزار على سبيل المثال: فغيره من القميص والثوب والجُبَّة وغيرها لها حكمه، وإنما خصَّه بالذكر لأنه كان غالب لباسهم، وإسبال الإزار: إرخاؤه وتطويله وجرُّه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«المسبل» بصيغة الفاعل. دليل الفالحين (5/271).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «المسبل» هو الذي يطوِّل ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كِبْرًا واختيالًا. الكاشف عن حقائق السنن (7/2117).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «المسبل إزاره» أي: المرخي له الجار طرفه خيلاء، كما جاء مفسَّرًا في الحديث الآخر: «لا ينظر الله إلى من يجرُّ ثوبه بَطَرًا»، وفي آخر: «إزاره خيلاء» والخيلاء: الكِبْرُ...، وتخصيص جرِّه على وجه الخيلاء يدل أن مَن جَرَّهُ لغير ذلك فليس بداخل تحت الوعيد، وقد رخَّص في ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الصديق -رضى الله عنه-، وقال: «لستَ منهم»؛ إذ كان جرُّه إياه لغير الخيلاء، بل لأنه كان لا يثبت على عاتقه.
قال الطبري وغيره: وخُصَّ الإزار لأنه كان عامة اللباس، وحكم غيره من القُمُص وغيرها حكمه. إكمال المعلم (1/381).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
إنما نهى عن الإسبال لما فيه من النَّخْوَة والكِبْرِ. معالم السنن (4/195).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الحاصل أن الوعيد المذكور خاص بمن جرَّه خيلاء، وأما جرُّه بغير الخيلاء فحرام؛ لما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار». البحر المحيط الثجاج (3/274).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «المسبل» هذا هو محل الشاهد، وهو مطلق يدل على تحريم الإسبال مطلقًا، ولكن إذا كان بقصد خيلاء صار أشد وأعظم، وإذا كان بدون خيلاء فهو شديد وعظيم. شرح سنن أبي داود (458/14).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
يستثنى من ذلك النساء؛ لما أخرجه الترمذي وصححه من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، متصلًا بحديثه المذكور في قصة أبي بكر -رضي الله عنه-: فقالت أم سلمة: «فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يُرْخِيْنَ شِبرًا، فقالت: إذًا تَنْكَشِف أقدامهنَّ، قال: فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه» لفظ الترمذي. البحر المحيط الثجاج (3/274).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: شدة كراهية إسبال الإزار، ولا بعيد أن يكون المراد بقوله: «المسبل» تطويل الثياب. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/176).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويستفاد من هذا الفهم: التَّعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرِّحة بمن فعله خيلاء. فتح الباري (10/ 259).
وقال النووي -رحمه الله-:
وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا. شرح صحيح مسلم (14/62).
وقال ابن حجر -رحمه الله متعقبًا النووي رحمه الله-:
ووجه التعقب: أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جرِّ ذِيُوِلهنَّ معنى، بل فَهِمَتْ الزجر عن الإسبال مطلقًا سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك؛ لاحتياجهنَّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة؛ لأن جميع قدمها عورة، فبيَّن لها أن حكمهنَّ في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال؛ لتقريره -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة على فهمها، إلا أنه بيَّن لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القَدْرَ الذي يمنع ما بعده في حقهنَّ كما بيَّن ذلك في حق الرجال.
والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع.
ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق معتمر عن حميد عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبر لفاطمة من عقبها شبرًا، وقال: «هذا ذيل المرأة»، وأخرجه أبو يعلى بلفظ: «شَبَرَ مِن ذيلها شبرًا أو شبرين، وقال: لا تزِدن على هذا» ولم يسم فاطمة، قال الطبراني: تفرد به معتمر عن حميد.
قلتُ: و(أو) شكٌّ من الراوي، والذي جزم بالشِّبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شَبَرَ لفاطمة شبرًا.
ويُستنبط من سياق الأحاديث: أن التقييد بالجرِّ خرج للغالب، وأن البَطَر والتَّبختر مذموم ولو لمن شمَّر ثوبه. فتح الباري (10/ 259)

قوله: «والمنان»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «والمنان» وفسَّره في الحديث: «أنه الذي لا يعطي شيئًا إلا منَّة» قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} البقرة:264. إكمال المعلم (1/382).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«والمنَّان» المنُّ: تقرير النعمة على من أُسْدِيت إليه، والمنان: صيغة مبالغة، ولذا فسَّره في الرواية الثانية بأنه «الذي لا يعطي شيئًا إلا منَّة». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والمنان يُتأول على وجهين:
أحدهما: من المنة، وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدَّرت الصنيعة وأفسدتها.
والوجه الآخر: أن يراد بالمنِّ النقص، يريد بالنقص من الحق، والخيانة في الوزن والكيل ونحوهما، ومن هذا قول الله سبحانه: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون} القلم: 3 أي: غير مَنْقُوص، قالوا: ومن ذلك سُمي الموت مَنُونًا؛ لأنه يُنْقِص الأعداد ويقطع الأعمار. معالم السنن (4/195).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«والمنان» أي: الذي يَذْكُر إحسانه ممتنًا به على المحسَن إليه، والمبالغة قيد في الوعيد المذكور؛ لما فيه من المبالغة المقتضية لكونه من الكبائر، وإلا فالمنُّ حرام وإن لم يتكرر، قال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} البقرة: 264. دليل الفالحين (5/271).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأما المنان فإن المنَّ لا يَحْتَمِلُ غَضَاضَتُه إلا محتاج، والله سبحانه هو الغني؛ ولذلك كان المنُّ عنده مبطِلًا للعمل، وكيف لا وفيه جحد للحق؛ فإن المؤمن بالله يلزمه أن يعترف بأن توفيق الله تعالى له هو الذي كانت الأعمال الصالحة عنه، فإذا منَّ بذلك فقد جحد لله -سبحانه وتعالى- كرم صنعه. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/176).

قوله: «والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب»:
قال العلقمي -رحمه الله-:
قوله: «المنفِّق سلعته» قال شيخنا (أي: السيوطي حيث ذَكَرَ كلام القرطبي التالي): بالتشديد، أي: للفاء من النَّفَاق، وهو ضد الكساد، يقال: نفَّقتُ السلعة فهي نافقة وأنفقتها ونفقتها، إذ جعلتها نافقة. الكوكب المنير، مخطوط اللوح (50).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الروايةُ في «المُنَفِّق» بفتح النون، وكسر الفاء مشدَّدة، وهي مضاعَفُ نَفَقَ البِيعُ يَنفُقُ نَفَاقًا: إذا خرَجَ ونفَدَ، وهو ضدُّ كَسَدَ، غيرَ أنَّ نَفَقَ المخفَّفَ لازمٌ، فإذا شُدِّد عُدِّي إلى المفعول، ومفعولُهُ هنا سِلعة، وقد وصَفَ الحَلِف وهي مؤنَّثة بالكاذب وهو وصفُ مذكَّرٍ، وكأنَّه ذهب بالحلفِ مذهبَ القَول فذكَّره، أو مذهَبَ المصدر، وهو مِثلُ قولهم: أتاني كِتَابُهُ فَمَزَّقتُهَا؛ ذهب بالكتابِ مذهَبَ الصَّحِيفة، والله تعالى أعلم. المفهم (1/ 309).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «والمنفِّق» أي: الذي يروِّج متاعه بالحلف الكاذب، مثل أن يقول البائع للمشتري: اشتريتُ هذا بمائة دينار والله، ولم يشترها بمائة، بل بأقل من مائة، وإنما يحلف أنه اشتراه بمائة دينار؛ ليظن المشتري أن ذلك المتاع يساوي مائة دينار أو أكثر، فيرغب في شرائه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/404-405).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«والمنفِّق» بصيغة الفاعل من الإنفاق «سلعته» بكسر المهملة الأولى وسكون اللام أي: الْمُكْثِر طلاب بضاعته «بالحلف» بفتح فكسر: أي: القَسَم «الكاذب» كقوله: والله إنها حسنة، والله إنها فريدة. دليل الفالحين (5/271).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«والمنفِّق سِلعته» السلعة والمتاع ما يُتَّجَر به، ويقال: نَفَقَتِ السلعة نَفَاقًا راجَت، وأَنْفَقَ السلعة روَّجَهَا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب» أي: صاحبه، أو بمعنى مكذوب، أو إسناد مجازي. التنوير شرح الجامع الصغير (5/228).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «المنفِّق سلعته بالحلف الفاجر» وفي الرواية الأخرى: «الكاذب» وهو تفسير الفاجر، وقد جَمَعت الاستخفاف بحق الله والكذب فيما حلف عليه، وأخذ مال الآخر بغير حقه، وغروره إياه بيمينه. إكمال المعلم (1/383).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إسناد الحكم إلى هؤلاء الثلاثة لا يمنع من إسناده إلى غيرهم...، وترتيب هؤلاء الثلاثة ليس على سبيل التدرج التصاعدي أو التنازلي من ناحية الإثم؛ فإنهم ذُكروا في الرواية الثانية بترتيب يُغَايِر ترتيبهم في الرواية الأولى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وأما المنَفِّق سلعته فإنه غرَّ أخاه وغشَّه في معاملته، ولم يرضَ بذلك حتى زاده غرورًا بأن حلف له بالله -عزَّ وجلَّ- كذبًا، فباع أمانته، وخَفَرَ ذِمَّة نفسه، وأسخط ربه فيما فعل من ذلك، ولقد ختم ذلك بيمين فاجرة في شيء زَهِيْد؛ لأن الدنيا بأسرها في هذا المقام حقيرة فكيف لشيء منها؟! الإفصاح عن معاني الصحاح (2/176).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: مرتبة الجزاء أن يؤخَّر عن الفعل، فلِمَ قَدَّم ذكره في الحديث؟
قلتُ: ليُفخِّم شأنه ويهوِّل أمر مرتكبيه في خَلَدِ السامع، فيذهب بنفسه كل مذهب، ومن ثم قال أبو ذر: «خابُوا وخسروا، مَن هم؟» ولو قيل: المسبل والمنان والمنَفِّق سلعته بالحلف لا يكلمهم الله لم يقع هذا الموقع. الكاشف عن حقائق السنن (7/2117).
وقال عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ليس المراد من قوله: «ثلاثة لا يكلمهم اللَّه» إلخ الحديث حصر هذا الوعيد في هؤلاء الثلاثة، فإن الإِخبار عن حال هؤلاء لا ينفى أن يكون هناك غيرهم بهذه المثابة؛ لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (10/113).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
إنما جمع الثلاثة في قرن واحد (مِن الاقتران)؛ لأن مُسبل الإزار وهو المتكبر الذي يترفَّع بنفسه على الناس ويحط من منزلتهم ويحقر شأنهم، والمنان إنما يمُن بعطائه السائل لما رأى من فضله وعلوه على المعطى له، والحالف البائع يراعي غبطة نفسه، والهَضْمَ من حق صاحبه، والحاصل من المجموع عدم المبالاة بالغير، وإيثار نفسه عليه؛ ولذلك يجازيه الله تعالى بعدم المبالاة والالتفات إليه، كما لوَّح -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» إلى آخره. الكاشف عن حقائق السنن (7/2117).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلالة على أن الإسبال من أشد الذنوب. عون المعبود (11/98).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا يدل على أن تلك الأعمال من الكبائر، وهي الإسبال والمن بالعطية، وكذلك الحلف كذبًا في السلع لتَنْفِيْقِهَا وترويجها وترغيب الناس في الشراء منها. شرح سنن أبي داود (458/14).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث فوائد أصولية وفقهية جَمَّة:
منها: إثبات أن الله -سبحانه وتعالى- يُكَلِّم، ووجه الدلالة: أن الله نفى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، ولولا أنه يُكَلِّم مَن سواهم ما كان لتخصيصهم بعدم الكلام فائدة، وكلامه -سبحانه وتعالى- بالحرف والصوت، فهو -عزَّ وجلَّ- يقول قولًا مسموعًا، وهذا شيء متواتِر متَّفق عليه بين السلف، دل عليه الكتاب والسنة، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} مريم: 52؛ لما كان بعيدًا ناده الله مناداة؛ لأن البعيد يحتاج إلى رفع الصوت، والنداء: هو المخاطبة برفع الصوت؛ ولما قَرُب صارت مناجاة؛ يعني: بصوت أدنى.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله -سبحانه وتعالى- يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك»، الجواب: مِن من؟ من آدم.
«فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بَعْثًا إلى النار»، «فينادي» الفاعل الله -عزَّ وجلَّ-، «بصوت: إن الله يأمرك»، هذا الحديث واضح ينادي بصوت، وقد حرَّفه بعض أهل التعطيل، وقال: إن الصواب: (فينادَى بصوتٍ: إن الله يأمرك)؛ من أجل أن تكون المناداة من غير الله -عزَّ وجلَّ-، وأيد حديثه بقوله: «إن الله يأمرك»، ولم يقل: إني آمرك، ولكن هذا تحريف؛ لأن الرواة باللفظ المتواتر: «فينادي بصوت»، وأيضًا لفظ الحديث في آخره: «قال: يا رب، وما بعث النار؟» وهو صريح في المخاطبة...
ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، والإيمان به أحد أركان الإيمان الستة، وهو معروف.
ومن فوائده: إثبات النظر لله؛ لقوله: «ولا ينظر إليهم»، ووجه الدلالة: أن نفي النظر عن هؤلاء دليل على إثباته لغيرهم، كما استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- في قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} المطففين: 15، قال: لم يُثبِت الحَجْبَ لهم إلا وهو يراه من سواهم.
ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب، وأنه عذاب ليس بالهين بل هو عذاب مؤلم؛ لقوله: «ولهم عذاب أليم». فتح ذي الجلال والإكرام (6/209-210).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: بيان غلظ تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة لإيراده في أبواب الإيمان.
ومنها: أن الله -سبحانه وتعالى- ينظر إلى عباده المؤمنين المستقيمين ويزكيهم يوم القيامة وينجيهم من عذابه، وأن من أجرم بالإسبال وتنفيق السلعة باليمين الكاذبة والمنان بما أعطى لا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
ومنها: أن هذه الأفعال المذكورة من الكبائر؛ لأنه تعالى لا يتوعد بهذا الوعيد الشديد إلا من ارتكب الذنوب الكبائر. البحر المحيط الثجاج (3/279).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الحديث:
1 - تحريم جر الثوب للرجال، أما النساء فقد استُثْنِين من الوعيد حين فَهِمَت أم سلمة أن الزجر عن الإسبال عام، فقالت: «يا رسول الله، فكيف تصنع النساء بذيولهنَّ؟ فقال: يُرْخِيْنَ شبرًا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قال: فيُرْخِيْنَه ذراعًا لا يزدن عليه».
2 - الوعيد على المن والإيذاء على العطية.
3 - التحذير من الحلف لترويج السلعة وتزويرها في نظر الآخرين. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/349).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا